الخميس 05 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إنسان عصر الذكاء الاصطناعى.. مهدى حنا: شرائح واسعة من اليد العاملة تنضم لصفوف العاطلين

مهدى حنا
مهدى حنا

- الصين تسعى لتوسيع نفوذها الاقتصادى عالميًا من خلال استثمارات ضخمة

- «الآلة» لا حقوق لها ولا نقابات تدافع عنها ولا تمرض ولا تحتاج إلى راحة ويمكن تشغيلها بلا توقف

- يجب النضال ضد المشاريع الرأسمالية واستغلالها البشع للتكنولوجيا على حساب الإنسان

- الاستخدام المفرط للتقنيات الجديدة سيؤدى إلى الاعتماد الكامل عليها والانصياع لخيارات هذه التطبيقات وما تولّده من نصوص

- نموذج من روبوتات NVIDIA مرشحٌ لأن يحل محل 70% من الوظائف البشرية

- الثقافة والوعى لا يتشكلان إلا من خلال الإنفاق على التعليم المستمر

- وسائل التواصل الاجتماعى تؤثر سلبًا فى تشكيل الثقافة العربية المعاصرة.. ومن يظن أنه قادر على تعزيز الوعى الثقافى عبرها واهم

- علينا أن ننفض غبار الماضى ونبحث عن أطر فكرية جديدة تحاكى مستجدات العصر

إلى جانب عمله فى مجال الهندسة المدنية، يولى الكاتب الفلسطينى مهدى حنا اهتمامًا متزايدًا بقضية الذكاء الاصطناعى وانعكاسات تطوراته المتسارعة على الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى. 

صدرت له مجموعة من المؤلفات فى الفكر السياسى والتحليل الثقافى، من بينها: «الذكاء الاصطناعى والصراع الإمبريالى»، و«أزمة الثقافة»، و«الشعبوية بين هوجو تشافيز وجمال عبدالناصر: وقائع التغيير وإخفاق المسير»، و«الفقر صناعة الرأسمالية: عالم متبدل وآفاق واعدة». وتبرز فى هذه الأعمال قدرته على الربط بين التحليل النظرى ومتابعة تحولات الواقع، سواء فى ميدان التكنولوجيا أو فى مسارات السياسة العالمية.

مؤخرًا، صدرت الطبعة الثانية من كتابه «الذكاء الاصطناعى والصراع الإمبريالى»، بعنوان «الذكاء الاصطناعى.. واقع وتحديات»، والتى تناول فيها المستجدات الهائلة فى مجال الذكاء الاصطناعى التوليدى، مثل تطبيقات شات جى بى تى، وما تطرحه من أسئلة كبرى بشأن مستقبل العمل، والقلق العالمى المتصاعد حيال الوظائف التى قد تختفى بفعل هذه التقنيات.

فى هذا الحوار، نناقش مع مهدى حنا أبرز ملامح المستقبل كما يراها، من زاوية الذكاء الاصطناعى والصراعات الإمبريالية، والسباق الذى تقوده الصين فى مجال التكنولوجيا، إلى جانب تحليله لكيفية تداخل السياسة والاقتصاد مع الثورة التقنية، وتأثير ذلك على مسارات التنمية، وبنية المجتمعات المعاصرة.

■ بداية.. ما الذى دفعك للتركيز على الذكاء الاصطناعى وأزمات الثقافة فى العصر الرقمى فى أكثر من عمل لك؟

- يُعد الذكاء الاصطناعى أحد أبرز علوم العصر الحديث، وأكثرها إثارةً للجدل فى شتى المجالات، فنحن نعيش فى قلب الثورة الصناعية الرابعة التى ترتكز على تكنولوجيا المعلومات، وتقنيات الجيل الخامس، وإنترنت الأشياء «IoT»، وجميعها تدور فى فلك دور الذكاء الاصطناعى المحورى فى الإنجازات العلمية التى شهدناها خلال السنوات الأخيرة.

ما دفعنى إلى تناول هذا الموضوع مبكرًا، مع مطلع عام ٢٠٢٠، هو تصاعد الصراع بين القوى الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الحرب الاقتصادية المحتدمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، المتمحورة بشكل أساسى حول تقنيات الذكاء الاصطناعى. فقد برزت شركات صينية كبرى، وفى مقدمتها شركة «هواوى»، كلاعب رئيسى فى هذا الميدان، واستطاعت خلال سنوات قليلة أن تفرض نفسها بقوة، متحدّيةً الهيمنة الأمريكية فى قطاع التكنولوجيا.

تميّزت «هواوى» بكونها شركة صناعية متكاملة قادرة على بناء الشبكات السلكية واللا سلكية العملاقة، وتقديم الخدمات التشغيلية والمعدات، إلى جانب تصنيع الهواتف المتحركة. فى المقابل، لا توجد شركة أمريكية واحدة تضاهيها فى هذا التكامل، بل يعتمد المشهد التكنولوجى فى الولايات المتحدة على ائتلاف من شركات متعددة لتقديم منظومة مشابهة.

يفسر هذا التفوّق السريع لشركة «هواوى» الحملة الشرسة التى تقودها الولايات المتحدة ضدها، والتى تجاوزت مجرد المنافسة التجارية إلى ما يشبه حربًا اقتصادية ناعمة تسعى للهيمنة على مفاصل المستقبل التكنولوجى للعالم. وهى حرب غير مسبوقة فى طبيعتها وحدّتها، تمثل نموذجًا جديدًا من صراعات القوى الكبرى فى عصر الذكاء الاصطناعى.

■ بين صدور الطبعة الأولى تحت عنوان «الذكاء الاصطناعى والصراع الإمبريالى»، والطبعة الثانية بعنوان «الذكاء الاصطناعى.. واقع وتحديات»، ما أهم الإضافات أو التعديلات التى أدخلتها على كتابك والتى تعكس التطورات بمجال الذكاء الاصطناعى؟

- صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى عام ٢٠٢٠، وتناولت فيها طبيعة الصراع الإمبريالى المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، لا سيما فيما يتعلق بالهيمنة على تقنيات الذكاء الاصطناعى، واستعرضت ملامح هذا الصراع من خلال قدرة كل من البلدين وموقعهما فى النظام الاقتصادى العالمى، إلى جانب استراتيجياتهما وخططهما للسيطرة على ملامح المستقبل.

خصصت جزءًا مهمًا من تلك الطبعة لتحليل الخطط العشرية الثلاث التى وضعتها الصين ضمن رؤيتها الطموحة الممتدة حتى عام ٢٠٤٩، وفى مقدمتها الخطة العشرية الأولى التى بدأت عام ٢٠١٥ وتنتهى فى ٢٠٢٥، تحت شعار «صُنع فى الصين». وقد شكّلت هذه الخطة نقطة تحول مفصلية فى مسار الصناعات الصينية، إذ نجحت فى كسر الصورة النمطية المرتبطة بالبضائع الصينية باعتبارها منتجات رخيصة ومنخفضة الجودة، وأثبتت قدرة الصين على إنتاج سلع عالية الجودة تتفوق فى بعض الأحيان على نظيراتها الغربية.

من أبرز الأمثلة على هذا التحول النوعى، صعود شركات السيارات الكهربائية الصينية، وعلى رأسها شركة «BYD» التى باتت تنافس بقوة على الصدارة العالمية فى هذا القطاع، إلى جانب عدد من الشركات الصينية الصاعدة فى مجال السيارات النظيفة.

كما تطرقت فى الطبعة الأولى إلى مشروع «طريق الحرير» الجديد، ورؤية الصين فى توسيع نفوذها الاقتصادى عالميًا من خلال استثمارات ضخمة وبُنى تحتية تربطها بقارات العالم، مدفوعة بنمو اقتصادى متسارع يُرجّح أن يتجاوز الاقتصاد الأمريكى فى السنوات المقبلة.

أما فى الطبعة الثانية، فقد أضفتُ مستجدات تتعلق بالتطورات الهائلة التى شهدها مجال الذكاء الاصطناعى، لا سيما فيما يُعرف بالذكاء الاصطناعى التوليدى، والذى مثّل نقطة تحوّل بارزة من خلال تطبيقات مثل شات جى بى تى وغيرها. وقد أشرت إلى الأهمية الكبيرة لهذه التطبيقات، إلى جانب ما تثيره من قلق عالمى بشأن مستقبل الوظائف. تعكس هذه التحولات وتيرة التطور المتسارع فى التقنيات المساعدة للإنسان، والتى تُعد مؤشّرًا قويًا على أننا مقبلون على عالم مختلف تتشكّل ملامحه بسرعة غير مسبوقة.

■ فى سياق حديثك عن هيمنة الرأسمالية على علوم الذكاء الاصطناعى. هل يمكننا القول إن الرأسمالية فى ظل التطور التقنى ستفرز المزيد من الآثار السلبية؟ ولماذا؟ 

- مع التقدم المتسارع فى مجالات الذكاء الاصطناعى وصناعة الروبوتات، بات من المرجّح أن يشهد العالم موجة واسعة من اختفاء الوظائف التقليدية، فى ظل القدرة المتزايدة للآلات الذكية على أداء المهام البشرية بكفاءة تفوق ما يستطيع الإنسان إنجازه. 

ولأن النظام الرأسمالى قائم فى جوهره على تعظيم الأرباح واستغلال الموارد بأقصى طاقة ممكنة، فإن أصحاب رءوس الأموال غالبًا ما يسعون إلى تعظيم مكاسبهم حتى ولو جاء ذلك على حساب الإنسان. فالعامل فى هذا النظام لا يُنظر إليه سوى بوصفه بائعًا لقوة عمله، يتقاضى فى مقابلها أجرًا يمكّنه من البقاء. وهو يمتلك، فى الوقت نفسه، حقوقًا يوجبها القانون والأخلاق؛ كالأجر العادل، والإجازات، والضمان الصحى، وساعات العمل المحددة.

أما الآلة، أو الروبوت، فهى لا تطالب بشىء من ذلك. لا حقوق لها ولا نقابات تدافع عنها. لا تمرض ولا تحتاج إلى راحة. يمكن تشغيلها بلا توقف، ليلًا ونهارًا، بطاقة إنتاجية تتجاوز ما يقدّمه الإنسان بأضعاف، وبتكاليف تشغيلية أقل على المدى البعيد. وهذا ما يجعل استبدال التقنيات الذكية بالبشر خيارًا مغريًا لأصحاب المصالح الكبرى فى ظل منطق السوق الجشع.

تكمن خطورة الذكاء الاصطناعى هنا فى كونه أداة مزدوجة الحدّ: فهو من جهة يقدّم حلولًا مذهلة تعزز الإنتاجية وتفتح آفاقًا جديدة أمام البشرية، لكنه من جهة أخرى يُهدد بإقصاء شرائح واسعة من اليد العاملة، مما قد يُفضى إلى تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة، ويزيد من اختلال التوازن فى العلاقة بين رأس المال والعمل.

■ وهل ترى أن الهيمنة الاقتصادية على هذا المجال قد تسهم فى إنشاء نوع من التقسيم الاجتماعى، بحيث يصبح الذكاء الاصطناعى أداة إضافية لتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟

- اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى المجتمعات الرأسمالية نتيجة حتمية لطبيعة النظام الرأسمالى ذاته، القائم على الاستغلال البنيوى. فامتلاك وسائل الإنتاج، من آلات وتكنولوجيا متقدمة، يُمكّن الرأسمالى من تسخيرها فى خدمة الإنتاج بوصفه الجهة المستغِلة، بينما يُحرم العامل من هذا الامتلاك، ليُختزل دوره إلى بائعٍ لقوة عمله فحسب. وهكذا يتجلى جوهر التناقض الأساسى فى علاقات الإنتاج؛ بين من يملكون وسائل الإنتاج، ومن لا يملكون سوى أجسادهم وأوقاتهم.

هذا التناقض هو ما يُشكّل نواة الصراع الطبقى الملازم للرأسمالية منذ نشأتها. فالعلاقة الجدلية بين العامل والرأسمالى تقوم على الاستغلال والتحكم فى أدوات الإنتاج، بما يسمح بتراكم الثروة فى يد قلة، وتهميش الأغلبية. ومع دخول الذكاء الاصطناعى على خط الإنتاج، تتخذ آليات الاستغلال شكلًا أكثر تعقيدًا، دون أن يتغير جوهرها.

يعيد توظيف الرأسمالية للتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعى تشكيل الصراع على نحو أكثر قسوة. فقد يصبح بمقدور الشركات الكبرى أن تدير عمليات إنتاج شاسعة، تعتمد بنسبة عالية على التقنيات الذكية، دون الحاجة إلى القوى العاملة التقليدية. وإن لم يكن من الممكن الاستغناء الكامل عن البشر فى المرحلة الراهنة، فسيقتصر دورهم على الإشراف الفنى أو التدخل الطارئ، ما يُفضى إلى تقليص العمالة بشكل حاد.

وهذا سيؤدى بالضرورة إلى تبدّل فى معايير العمل والدخل، وإلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، واتساع الهوة بين قلة تملك كل شىء، وأغلبية تُقصى تدريجيًا من دورة الإنتاج، وهو ما سيعمق الفجوة الطبقية بأضعاف ما كانت عليه، وتدخل البشرية فصلًا جديدًا من فصول الاستغلال، تتقدمه الآلات.

■ ناقشت فى كتابك الأزمات الاحتكارية التى تواجه صناعة التكنولوجيا. فما موقع دول العالم الثالث فى ظل تطور هذه الأزمات مستقبلًا؟

- هناك الكثير من الأزمات فى مجال التكنولوجيا، القائمة على احتكار بعض الصناعات التكنولوجية اللازمة لتلك العلوم. فعلى سبيل المثال، هناك الحرب الدائرة حول الرقائق المتناهية الصغر والخاصة بالعديد من الصناعات «Nano-Chips»، والتى تُثار حولها الكثير من الصراعات المختلفة بين العالم الغربى ككل، والداعم للولايات المتحدة، من جهة، والعملاق الصينى الآخذ فى النمو والتمدد على الساحة الكونية من جهة أخرى.

فنحن نشهد حربًا كونية على صعيد الاقتصاد العالمى، أصبحت فيها الدول الصناعية الكبرى فى الشمال متهالكة، وفى صراع مع قوى جديدة تتشكل، وكيانات وتبدلات جيوسياسية، وأقطاب جديدة مثل مجموعة «البريكس» التى تُعتبر الصين، مع بعض دول الجنوب، من أهم المشاركين فيها. قد يضع هذا النمو الصاعد حدًا للتفرد الأمريكى والقطبية الواحدة على المدى القريب.

أما فيما يخص دول العالم الثالث، فنحن شعوب مستهلكة للتكنولوجيا، ولكن هناك الكثير من الدول التى تمتلك المواد الخام اللازمة لتلك الصناعات الهامة، والتى سيجرى الاستفادة منها بإشراكها فى التبادلات التجارية، مقابل الاستفادة من خطط «طريق الحرير»، مثلًا.

■ تحدثت عن المستقبل الذى سيكون فيه الذكاء الاصطناعى شريكًا للبشر فى اتخاذ القرارات. فما الذى سيتغير مستقبًلا جراء هذه التغيرات الكبرى؟ 

- بالطبع، هناك خطورة حقيقية؛ فالذكاء الاصطناعى أصبح منافسًا للعامل البشرى ويهدد وجوده. هناك العديد من الوظائف المهددة بالزوال واستبدال الذكاء الاصطناعى الكامل بها بحلول العام ٢٠٣٥، ومنها الطب، إذ إن الذكاء الاصطناعى يشخص الأمراض بدقة تصل إلى ٩٤٪، فى مقابل ٨٨٪ للأطباء البشريين.

كما أن المعلمين التقليديين مهددون أيضًا؛ فهناك منصات مدعومة بشات جى بى تى حسّنت نتائج الطلاب بنسبة ٣٠٪ مقارنة بالمدرّس التقليدى، وهناك مدارس فى بريطانيا بدأت بتدريس الرياضيات باستخدام الذكاء الاصطناعى. وتشير بعض التقارير إلى أن ٨٦٪ من المدارس فى الولايات المتحدة تعانى من نقص حاد فى أعداد المعلمين.

ولدينا أيضًا عمال المستودعات والمصانع فى الشركات العملاقة؛ فهناك نموذج من روبوتات NVIDIA مرشحٌ لأن يحل محل ٧٠٪ من الوظائف البشرية. وعلى سبيل المثال، فإن شركة أمازون تستخدم أكثر من ٢٠٠ ألف روبوت فى مستودعاتها. وهكذا دواليك، ونحن لا نزال فى بداية الطريق فقط.

■ إذن كيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع هذه التغيرات على نحو إيجابى بحيث لا تمثل تهديدًا للإنسانية؟

- على الإنسان أن يسعى لتعلم مهارات المستقبل، لا أن يدخل فى صراع مع الذكاء الاصطناعى، بل أن يوجّهه لمصلحته. عليه أن يتحول إلى المهن التى يصعب على الذكاء الاصطناعى أن يحل محلها؛ فالذكاء الاصطناعى لا يملك الحدس العلمى ولا الإبداع. فعلى سبيل المثال، علوم الكيمياء لا تعتمد عليه بالكامل؛ إذ إن اكتشاف دواء جديد يتطلب العقل البشرى. كما أن مهندسى البرمجيات هم من يطورون تقنيات الذكاء الاصطناعى، بما فى ذلك النماذج فائقة الذكاء.

كما قلت سابقًا، هناك مهن ستفنى، وأخرى جديدة ستُستحدث، وهنا يأتى التحدى المفروض على الإنسان؛ دوره، قدرته على التأقلم مع المستجدات، وتعلّم مهارات جديدة، والسعى الجاد لاستيعاب هذه التغيرات بشكل دائم من أجل ضمان استمرارية بقائه.

■ ما توقعاتك لما سيؤول إليه الصراع العالمى على هيمنة الذكاء الاصطناعى بين الصين والولايات المتحدة؟ وهل من الممكن أن نرى نوعًا جديدًا من «الاستعمار الرقمى» فى الدول النامية؟

- إن هذا الصراع فى طبيعته صراع إمبريالى بين الأقطاب الرأسمالية العالمية من أجل الهيمنة على مختلف مجالات الحياة، من الصناعة إلى الزراعة إلى التجارة، بل إلى أى مجال يمكن تخيله. ولذلك، فإن طبيعة هذا الصراع ستخلق نوعًا جديدًا من الاستعمار الناعم، لا يمكننى أن أطلق عليه «استعمارًا رقميًا» بالمعنى الحرفى للكلمة. فالدول النامية، كما قلت، هى دول مستهلكة للتكنولوجيا وليست صانعة لها، ولذلك ستتأثر أكثر من الدول الصناعية الأخرى، وخاصة من حيث فقدان العديد من الوظائف المختلفة، ما لم يتم وضع بعض الاستراتيجيات العالمية الكفيلة بخلق حالة من التوازن. وإلا، فإننا سنشهد انهيارًا فى عدد من الدول، وفى العديد من المؤسسات والمنظومات المختلفة على مستوى العالم.

■ هل يمكن للذكاء الاصطناعى أن يصبح السبب فى أزمات عالمية جديدة مثل تصعيد الأزمات الاقتصادية، أو الأزمات البيئية الناتجة عن سوء الاستخدام التقنى؟ 

- بالطبع، هناك تخوّف متزايد جرّاء التطور المتسارع فى تقنيات الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء «IOT»، مما قد يسبب اختلاق أزمات عالمية واقتصادية على صعيد الكوكب. لكن يجب ألا يأخذنا هذا التخوّف بعيدًا، فطبيعة الإنسان تتسم بالتردد والشك، ولديه ميل لمقاومة الأشياء والاختراعات الجديدة، غير أنه، وبحكم الواقع، سوف يتأقلم مع كل ما هو جديد، ويجد السبل الكفيلة بتطويعه لخدمته.

وفيما يخص الأزمات الاقتصادية أو البيئية، فهى موجودة أصلًا نتيجة للصراع الرأسمالى، وستستمر فى التفاقم. فهى ليست مرتبطة فقط بتطورات علوم الذكاء الاصطناعى، بل هى أزمات بنيوية فى بنية النظام الرأسمالى القائم على الاستغلال. ومع ذلك، فإن التطور فى مجالات العلوم القائمة على الذكاء الاصطناعى سيخلق أزمات اجتماعية مختلفة على مستوى الكوكب، تتجلى فى سياسات إفقار نتيجة لفقدان البشر وظائفهم. 

■ فى إطار مناقشتك «أزمة الثقافة» فى العصر الرقمى. إلى أى مدى يمكن القول إن الذكاء الاصطناعى سيشكل تهديدًا للثقافة الإنسانية بقدر ما ينزع الطابع الإنسانى عن كل شىء؟ وكيف يمكن أن نستمر فى الاحتفاظ بثقافة مبدعة وآمنة فى عصر يزداد فيه الاعتماد على خوارزميات الآلات؟

-نعم، لقد تحدثت مرارًا عن أزمة الثقافة فى إطارها العام، خاصة فى عالمنا العربى. وتتركّز هذه الأزمة بشكل رئيسى فى أزمة التعليم، وهى نقطة أركّز عليها كثيرًا، لأن الذكاء الاصطناعى وتقنياته وتطوراته قائمة بالأساس على تطوّر العلوم المختلفة، وهى علوم تسعى الرأسمالية باستمرار إلى تسليعها، ما ينزع عنها طابعها الإنسانى.

فالعلم فى ظل المجتمعات الرأسمالية ليس علمًا محايدًا، بل يُستغل من أجل أن تجنى تلك المجتمعات والرأسماليون المزيد من الثروات، عبر تسخير العلوم لخدمة مصالحهم وأجنداتهم. فالعلم القادر على إنتاج حبة دواء هو نفسه العلم القادر على صناعة ما من شأنه تدمير الكوكب، من أسلحة فتاكة بأشكالها المختلفة، سواء التقليدية أو البيولوجية، والتى يعتمد معظمها الآن على تقنيات الذكاء الاصطناعى.

ولكى نستمر فى الاحتفاظ بثقافة مبدعة وبيئات آمنة، لا بد من فهم الواقع المتغيّر والمتسارع، وفهم هذه التقنيات، ودراسة هذه العلوم، والوقوف بحزم فى وجه السياسات والصناعات والاستراتيجيات الضارة بالبشر وأمنهم الوظيفى وسلامهم الاجتماعى، والحدّ من الاستخدام المفرط للتقنيات الحديثة على حساب الإنسان، والتى من شأنها أن تُقنّن دور العامل البشرى.

ولذلك، يجب أن تُركَّز الجهود فى النضال ضد المشاريع الرأسمالية واستغلالها البشع للتكنولوجيا على حساب الإنسان، وإعادة تحديد الأولويات، بحيث يكون للعنصر البشرى الدور الريادى فى العملية التنموية ضمن الإطار العام. وهذا جهد مجتمعى كبير لا يمكن أن يقوم به فرد بعينه، بل يجب أن تلتفّ حوله مختلف القطاعات وتدعمه، من أجل حياة البشر ومستقبلهم ورفاههم.

أما المسألة الأخرى التى يجب التنبيه إليها، فهى أن الاستخدام المفرط للتقنيات الجديدة، التى باتت قادرة على توليد أعمال لا يمكن تمييزها عن الإنتاج البشرى، سيؤدى إلى الاعتماد الكامل عليها، والانصياع لخيارات هذه التطبيقات وما تولّده من نصوص، مثل شات جى بى تى، فعندما يصبح الإنسان أكثر اعتمادًا عليها، تصبح خياراته محدودة وفكره مؤطرًا.

وهذه السياسة، سياسة تأطير الوعى وفرض الخيار الملزم «Binding Option»، ليست جديدة، بل ابتدعتها الرأسمالية وطوّرتها على مدى عقود، فى إطار تزيين وسائل تشويه وعى الناس، وتوجيههم إلى اتخاذ مواقف وقرارات تصبّ فى مصلحة المهيمن. والمهيمن هنا هو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، والمعلومات الموجهة التى زُوّدت بها، والتى دخلت فى صلب الصراع على الهيمنة للسيطرة على مختلف مجالات الحياة.

وقد سبق أن استُخدمت هذه الأساليب ولا تزال فى مجال الإعلام، إذ لعبت وسائل الإعلام الدور نفسه فى المجتمعات المنهكة بالجهل وانعدام الوعى، وجعلتنا نرى ما يجب أن نراه فقط. وهو أسلوب فعّال فى قيادة الآخرين وصناعة الرأى العام، وهو ما يُوضح الدور السلبى الذى قد تلعبه الآن وسائل التواصل والتقنيات المختلفة.

■ إلى أى حد تؤثر وسائل التواصل الاجتماعى فى تشكيل الثقافة العربية المعاصرة؟ وهل ترى أن هذه الوسائل تسهم فى تعزيز الوعى الثقافى أم أنها تسهم فى تزييفه بدرجة أكبر؟

- بتقديرى، تؤثر وسائل التواصل سلبًا فى تشكيل الثقافة العربية المعاصرة، الحقيقة أننا أصبحنا نعيش فى «قرية كونية»، حيث لا مجال للإقليميات الضيقة، خاصة مع الانتشار الهائل لمنصات التواصل الاجتماعى. ورغم ذلك، لا يوجد أى منصة عربية واحدة تملك التأثير الكافى. هذه المنصات موجهة، ومن يظن أنه قادر على المساهمة من خلالها فى تعزيز الوعى الثقافى العام فهو واهم. فهناك العديد من الأمثلة التى لا مجال لذكرها، وقد شهدنا بأم أعيننا التزييف الواضح للحقائق، بما يخدم مصالح معينة وأجندات خاصة يتم تسويقها من خلال هذه المنصات.

الثقافة والوعى لا يتشكلان إلا من خلال الإنفاق على التعليم المستمر، وتوجيه الأجيال لاكتساب عادات جديدة، منها القراءة والبحث، والابتعاد عن الثقافات المزيفة التى توفرها المنصات المختلفة. فهذه المنصات لا تقدم سوى مضيعة للوقت، وهى كفيلة بتزييف الوعى وخلق أجيال مدجّنة ومبرمجة مسبقًا للعمل وفق سياسات موجهة، من دون أن تكون لديها طموحات نوعية للرقى والتطور، بل تُوجّه ضمن السير فى سياسة القطيع.

■ هل يمكن للتراث الفلسفى العربى أن يوفر لنا الإجابات اللازمة عن سؤال المستقبل فى ظل الثورة التكنولوجية الحديثة؟ 

- التراث الفلسفى العربى غنى بالفعل، لكنه أصبح غير كافٍ الآن لتوفير الإجابات اللازمة عن المستقبل فى ظل الثورات التكنولوجية والطفرات العلمية الحديثة. فالعقل الجمعى العربى لا يزال يعيش فى الماضى، ويستقر فى ذهنه الإنجازات التى قام بها العرب فى الماضى وقدمها للغرب، وكأن الزمان قد توقف عند ذلك الحد. يجب علينا أن ننفض عنّا غبار الماضى، وأن نتطلع نحو المستقبل بواقعية وجدية أكبر. نحن بالفعل بحاجة إلى أطر فكرية جديدة تحاكى روح العصر ومستجداته، لنكون قادرين على الاستمرار والبقاء والتأثير فى المحيط، وأن نخرج من دور المتلقى إلى دور المشارك فى صنع الحدث العالمى. وهذا يتطلب منا الكثير من العمل لتحقيق ذلك. وهذا لا يتحقق إلا بالنهوض بالعملية التربوية والارتقاء بالتعليم على وجه الخصوص. لا ينبغى لنا الاكتفاء بالعيش على الأطلال.

دعونا نلقى نظرة على تجارب الشعوب؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت نتائج الحرب العالمية الثانية انهزام ألمانيا واليابان أمام قوات الحلفاء. فما الذى فعلته هاتان الدولتان بعد الحرب؟ هل وقفتا على الأطلال تندبان حظهما؟ كلا، بل تجاوزتا أزمتهما وتفوقت عليهما خلال عدة عقود، وأصبحتا من أهم الدول الصانعة للحضارة والتكنولوجيا على الساحة الكونية. نحن بحاجة إلى نهضة شاملة تبدأ بالتعامل مع الحاضر والنهوض بالتعليم بشكل أساسى لنتمكن من المنافسة والبقاء والتأثير والمشاركة فى صناعة الحضارة.