الإثنين 11 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

عالم سعد مكاوى خارج«السائرون نيامًا»

حرف

- يعد سعد مكاوى أحد أهم الأصوات فى مسيرة السردية المصرية والعربية

إن تفعيل آليات نقد النقد يعد فعلًا جوهريًا وموضوعيًا للغاية فى سياق القراءة التفكيكية لهذا الكتاب المهم للدكتور خيرى دومة «سعد مكاوى كاتبًا للقصة القصيرة»، والصادر فى القاهرة حديثا عن «دار المعارف» ضمن مشروعها الخلاق، وتنبع أهمية الكتاب هنا فى كونه لم يسر على النمط السائد من اختزال الكتاب فى سياقات محددة، والنظر إلى منجزهم الإبداعى من زوايا الأعمال الأكثر شهرة وحضورًا، إذ لطالما اختزل التلقى النقدى الراحل الكبير سعد مكاوى فى روايته الفاتنة «السائرون نيامًا»، وهذا لا ينفى مركزية هذا النص فى مشروعه الإبداعى، لكننا نشير إلى محاولات الاختزال التى تتم أحيانًا وعلى نحو غير مباشر، وربما غير متعمد أيضًا. 

ومن هنا تكمن أهمية كتاب الناقد الدكتور خيرى دومة فى كونه يستجلى المشروع القصصى لسعد مكاوى، إذ تمثل القصة حجر الزاوية فى منجزه السردى، فضلًا عن تمثيلها الجمالى لمعظم النتاج الإبداعى لديه، فسعد مكاوى له حوالى خمس عشرة مجموعة قصصية تقريبًا «نساء من خزف، الماء العكر ، قهوة المجاذيب، شهيرة وقصص أخرى، قديسة من باب الشعرية، مجمع الشياطين، الرجل والطريق، مخالب وأنياب، الرقص على العشب الأخضر، الزمن الوغد، القمر المشوى، راهبة من الزمالك، الفجر يزور الحديقة، أبواب الليل، عل حافة النهر الميت».

ويعد سعد مكاوى أحد أهم الأصوات فى مسيرة السردية المصرية والعربية، وتمثل استعادته استعادة لجملة من القيم الموضوعية والجمالية، ومن الانتخاب الجمالى للحظة السردية، يمكننا أن نبدأ قراءة وتفكيك المشروع الإبداعى لسعد مكاوى، إذ يعد ذلك الانتخاب الجمالى من أهم ما يميز أعماله الإبداعية، حيث ينطلق من لحظة تاريخية مفصلية على المستوى العام، وأثرها فى سيكولوجية الشخصيات الفنية التى يعاينها، وبذا يتجادل الخاص مع العام، والذاتى مع الموضوعى، ففى روايته «السائرون نيامًا» ينطلق مكاوى من اللحظة التى تسبق سقوط حكم المماليك، عبر زخم من الشخوص يمثلون تنويعات اجتماعية وفكرية وطبقية متعددة، وفى روايته «الكرباج» نرى أيضًا انتخابًا جماليًا للحظة فارقة فى عمر الأمة المصرية «الاحتلال الفرنسى لمصر»، والتداخل بين القهر المملوكى والغازى الفرنسى، و«الكرباج» ترميز للقمع وسطوته، فى «نوفيلا» ملهمة لم تنل ما تستحقه من اهتمام نقدى مثلما حظيت «السائرون نيامًا». وفى روايته «لا تسقنى وحدى» ثمة عالم من الوجد الصوفى، وارتحال قلق داخل الذات والعالم، والنفس البشرية المعقدة. 

وفى كتابه «سعد مكاوى كاتبًا للقصة القصيرة»، والذى كان بالأساس رسالة أكاديمية، تتكىء على آليات البحث العلمى المنهجى، فإنه يتشكل من مقدمة، ومهاد نظرى أو مدخل يحوى المكونات الأساسية لرؤية سعد مكاوى، ويضم إطارًا نظريًا حول مفهوم الرؤية، وتبيان لرؤى مكاوى المتعددة للإنسان، والمجتمع والفن. 

وتبعه دومة بثلاث حلقات مركزية تسعى إلى معاينة المنجز القصصى لسعد مكاوى من داخل النصوص، وعبر مقاربة جمالية وموضوعية لها، وهى: «مرحلة البدايات والبحث عن شكل، مرحلة النضج، مرحلة الهزيمة والهروب من الشكل». ولذا جاءت التقسيمات الثلاثة دالة على تحولات الممارسة الإبداعية لدى سعد مكاوى من جهة، ومتكئة على جدل الداخل والخارج من جهة ثانية. حيث لا تقرأ النصوص ومن قبلها تحولات الكتابة لدى سعد مكاوى بمعزل عن السياق السياسى والثقافى، والظرف المحيط، والمواضعات الاجتماعية الحاكمة، وهنا يعمل الناقد التأويل فى تبيان هذه التحولات، وقراءتها فى سياقها العام، ومن هنا مثلًا تصبح المرحلة الثالثة فى إبداع سعد مكاوى «مرحلة النضج وصراع الصورة/ القصة»، على المستوى الظاهرى عودة إلى المنابع الأولى «مرحلة البدايات والبحث عن شكل»، وخاصة فى استدعاء الجانب الفانتازى، وأقنعة الحكاية، ولكن بتفاصيل، وتصورات جمالية أكثر تركيبًا، ووفق ظروف سياسية وثقافية ضاغطة تلت هزيمة الصيف السابع والستين.

ونحن إذ نفكك جوهر الكتاب، فإننا نرى بداية غير تقليدية لا تسير وفق النمط الكلاسيكى المعتاد، إلا قليلًا، حيث تعاين سعد مكاوى فى سياقه التاريخى بالنسبة للنوع الأدبى «القصة القصيرة»، وتشير مقدمة الكتاب إلى إشكالية تتصل بما يمكن تسميته «الكتاب البينيون»، الذين شكلوا حلقة وصل مهمة بين مرحلتين من مراحل تاريخ القصة المصرية القصيرة، بين مرحلة رومانسية تخلت فيها القصة عن دورها الاجتماعى «محمود كامل ومدرسته» ومرحلة واقعية عادت معها القصة إلى ممارسة هذا الدور «يوسف إدريس». لقد برز سعد مكاوى على ساحة القصة المصرية أواسط الأربعينيات، فى وقت كانت القصة الرومانسية فيه هى الرائجة بينما يغلى المجتمع بتباشير التغيير المقبل، فعانى فى كتاباته هذا المخاض الأليم الذى واكب الانتقال من الرومانسية إلى الواقعية، ولم يكن سعد مكاوى فى هذا كيوسف إدريس مثلًا، لأنه تربى وتفتح على كتابات الرومانسيين الذين سبقوه، بينما مثل يوسف إدريس الانتقال إلى الواقعية فى مرحلتها الناضجة. 

يتخذ الكتاب نسقًا بنائيًا منهجيًا، فيشير مثلًا إلى صعوبات الدراسة من قبيل ندرة الدراسات المتعمقة حول مكاوى، ويسعى إلى ضبط المصطلحات والمفاهيم منذ البداية، من قبيل الوقوف أمام مفاهيم الرؤية والأداة، والمضمون والشكل، وإذا تأملنا السنة التى كتبت فيها الدراسة البحثية فى منتصف الثمانينيات تقريبًا من القرن الماضى، قبل خروجها للنور فى طبعة دار المعارف ٢٠٢٥، فإن الأفكار التى حوتها لم تزل صالحة للنقاش العلمى والمنهجى العميق، وما يلفت الانتباه فى هذا السياق الهامش الذى كتبه الباحث عن مفهوم رؤية العالم فى المنهج البنيوى، واختلافه عن مفهوم الرؤية الذى تتبناه الدراسة. ولو أن البنيوية التوليدية قد طورت هذه المفاهيم والتصورات، والاحتجاج بفكرة الذات الجماعية التى كرس لها التحليل البنيوى تغاير الوعى العميق بوعى البنيوية التوليدية بخصوصية الذات الفردية، وإحالتها على ما هو خارجها من ذوات جماعية فى حال من الجدل الخلاق بينهما.

يعد تحرير المصطلح من عمل الناقد، وهنا يفض د. خيرى دومة الاشتباك بين مصطلحى الرؤية والموقف، فالرؤية تصور جمالى، والموقف تصور سياسى.

يهتم خيرى دومة بالنظرية وهو المنشغل بتداخل الأنواع الأدبية، ودراسات ما بعد الاستعمار، وتجليات الضمائر فى السردية العربية، وغيرها من هموم بحثية وأكاديمية دالة على مشروع نقدى أصيل، وميزة كتابه عن سعد مكاوى أنه يمزج النظرى بالتطبيقى فى بنية متناغمة.