فرعون موسى.. جدلية الهوية والتاريخ
يقدّم هذا المقال قراءةً سوسيوثقافيةً للنص القرآنى، تستهدف إعادة النظر فى هوية «فرعون موسى» وموقعه من التاريخ المصرى القديم. تنطلق الدراسة من فرضيةٍ تؤكد أن هذا الفرعون ليس مصريًا وطنيًا من الفراعنة الأصليين، بل حاكم أجنبى من ملوك الهكسوس الذين احتلوا مصر ومارسوا سياسة قهر وتمييز. وتبرز القراءة أنّ تصوير فرعون فى القرآن لا يتعارض مع جوهر الفلسفة المصرية القائمة على العدالة والحق، بل يعارضها، إذ يعبّر النص عن مقاومة للانحراف عن منظومة «ماعت» التى شكّلت جوهر الضمير المصرى. ومن خلال تحليل القصص والأساطير المصرية، ولا سيما «الفلاح الفصيح» ومحاكمة أوزير، يبيّن المقال كيف أن العدالة كانت مبدأً مؤسِّسًا للحكم المصرى، على نقيض النموذج الطغيانى الذى جسّده فرعون موسى فى السرد الدينى.
أولًا: التمهيد- إشكالية الهوية فى سردية فرعون موسى:
تظلّ شخصية «فرعون موسى» فى القرآن واحدةً من أبرز القضايا التى تستدعى إعادة النظر فى ضوء المنهج التاريخى الثقافى. فبينما نقل التراث التفسيرى صورة فرعون بوصفه ملك مصر الطاغية، تكشف الدراسات التاريخية أن ملوك مصر الأصليين لم يُعرف عنهم الاستبداد الفردى، بل خضعوا لنظامٍ أخلاقىٍ متين. ومن ثمّ فإن إعادة قراءة القصة تُسهم فى إنصاف الحضارة المصرية من صور التشويه التى لحقت بها فى بعض الكتابات الفقهية القديمة.

ثانيًا: فرعون فى الخطاب القرآنى- من الاسم إلى الرمز:
يتجلى فرعون فى القرآن كرمزٍ للجبروت المتألّه، لا كشخصٍ محدّدٍ تاريخيًا. فالآيات التى تصفه بعبارات العلو والاستكبار تعبّر عن نموذج سياسى ودينى منحرف عن القيم الإنسانية، لا عن عقيدة المصريين القدماء ذات البنية الرمزية المعقّدة. إنّ «فرعون القرآن» هو صورة للطاغية الذى فصل بين السلطة والأخلاق، فى حين أن الملوك المصريين الأوائل رأوا أنفسهم حماةً للنظام الكونى الذى يوازن بين الحق والعدل والوجود.
ثالثًا: فلسفة الديانة المصرية القديمة- «ماعت» ونظام العدالة الكونى:
لم تعرف الحضارة المصرية ديانة قائمة على الوثنية بمعناها الساذج، بل على «نظامٍ فلسفىٍ أخلاقى متكامل» تمثّله فكرة «ماعت»، وهى الإلهة التى تجسد «العدل والحق والنظام الكونى».
كان الملك فى مصر القديمة يُلقّب بـ«ابن ماعت»، أى الضامن لتوازن الكون، ومهمّته حفظ الحق لا انتهاكه.
تُظهر نصوص «كتاب الموتى» أن المصرى القديم كان يُحاسَب أمام أوزير على أساسى أخلاقى صارم، حيث يُطلب منه أن يُقسم قائلًا:
«لم أقتل، لم أسرق، لم ألوّث ماء النهر، لم أُؤذِ جارى، لم أنظر إلى امرأة جارى، لم أرتكب الشر فى موضع الحق».
هذا القسم يعكس مفهوم الضمير الفردى الجمعى الذى يربط الإنسان بالعدالة الكونية، فى تعارضٍ جذرى مع صورة فرعون موسى كما وردت فى النص القرآنى، إذ يمثّل الأخير نقضًا لماعت وخروجًا عن النظام الإلهى الأخلاقى الذى أسّس به المصريون مفهوم الحكم العادل.
وبذلك يُصبح «فرعون القرآن» نقيضًا فلسفيًا للحاكم المصرى فى مثاله الأعلى، لا تجسيدًا له.

رابعًا: من أسطورة أوزير إلى الفلاح الفصيح- العدالة كجوهر الثقافة المصرية
تجسد أسطورة محاكمة أوزير أقدم تصور مصرى عن العدالة الإلهية: أوزير، الإله الذى قُتل ظلمًا، يعود ليحاكم قاتله ستّ، ويؤسس مبدأ أن الظلم يهدم الكون وأن العدل هو الشرط الأول للخلود.
ويتجدد هذا المبدأ فى الأدب المصرى من خلال قصة «الفلاح الفصيح»، التى تُعد من أقدم النصوص القانونية فى التاريخ.
فيها يتعرض فلاح بسيط لظلم أحد النبلاء فيسلبه محصوله، فيرفع شكواه إلى الملك، الذى «يرفض التواطؤ مع الظالم» ويأمر بإنصاف الفلاح وردّ حقه.
تؤكد هذه القصة أن «العدالة كانت محور الوعى السياسى المصرى»، وأن الملك- فى مثاله الأعلى- يُقاس بقدر دفاعه عن المظلومين، لا بسطوته.
فى ضوء ذلك، تبدو صورة «فرعون موسى» فى القرآن «استثناءً شاذًّا» عن النموذج المصرى الأصيل؛ فهو يمثل السلطة حين تنقلب على فلسفتها، ويصبح الحكم أداة قهرٍ بدل أن يكون حمايةً للحق.
خامسًا: فرعون الهكسوسى- قراءة تاريخية فى النص القرآنى:
تتفق الشواهد الأثرية مع فكرة أن الحاكم الذى واجه موسى «كان من الهكسوس»، وهم سلالة آسيوية احتلت مصر ومارست تمييزًا طبقيًا وعنصريًا.
وصف القرآن له بأنه «استضعف طائفةً من الناس» ينسجم مع «ذهنية الغزاة» لا مع ثقافة المصريين الأصليين القائمة على ماعت.
وهكذا، فإن سردية فرعون موسى ليست نقدًا للحضارة المصرية، بل هى دفاع عن جوهرها ضد انحرافٍ أجنبىٍ شوه صورتها وعدالتها.
سادسًا: القراءة السوسيوثقافية للنص القرآنى:
تتعامل هذه القراءة مع القرآن كنصٍّ حضاريٍّ يتجاوز التدوين الدينى إلى إنتاج معنى اجتماعى وثقافى.
فمن خلال توظيف رمزية «الفرعون»، يعبّر النص عن صراعٍ أزلى بين الحق الكونى (ماعت) والاستبداد الإنسانى.
ويصبح موسى فى هذا الإطار صوت الضمير الإنسانى فى مواجهة السلطة المنفصلة عن العدالة، أى المواجهة بين «النظام الأخلاقى» و«نظام القوة».
سابعًا: نحو تأويلٍ حضارىٍ للرمز الفرعونى:
إن إعادة قراءة قصة فرعون موسى فى ضوء فلسفة «ماعت» ومبادئ العدالة المصرية القديمة تكشف عن أن القرآن لا يناهض حضارة مصر، بل يناهض انحرافها حين تقع تحت سلطة أجنبية جائرة.
فمصر- فى وعيها التاريخى والروحى- كانت مهدَ العدل والنظام، و«فرعون القرآن» هو غاصب هذا الميراث ومفسده.
بهذا يصبح النص القرآنى امتدادًا لصرخة الفلاح الفصيح ضد الظلم، لا نفيًا لعدالة المصرى القديم، ويُقرأ بوصفه بيانًا كونيًا ضد انحراف السلطة عن الأخلاق.
يتبيّن من خلال التحليل أن شخصية فرعون موسى تمثل الوجه النقيض للحضارة المصرية الأصلية، وأنها أقرب إلى صورة الحاكم الهكسوسى الغريب عن روح ماعت.
إن إعادة تأويل القصة ضمن الإطار الفلسفى والأخلاقى للحضارة المصرية تُعيد الاعتبار لمصر بوصفها منارةً للعدالة والضمير الإنسانى، وتجعل من النص القرآنى وثيقةً تؤكد اتصال قيم التوحيد بالحق والعدل الكونى.
وهكذا يتحوّل فرعون موسى من رمزٍ محلىّ للطغيان إلى رمزٍ إنسانى لفقدان الاتزان بين السلطة والعدالة، بينما تبقى مصر فى جوهرها أرضَ ماعت والحق والنور.







