السبت 01 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الجيتو الثقافى.. حين تتحوّل الثقافة إلى نادٍ مغلق

القاهرة
القاهرة

تبدو القاهرة، لمن يراها من الخارج، كأنها ساحة رحبة تتجاور فيها الأصوات والأفكار، وتتقاطع فيها التيارات الأدبية والثقافية فى حوار مفتوح لا مكان فيه للإقصاء أو الانغلاق. غير أنّ من يعيش داخل هذا المشهد يدرك أن تلك الصورة البراقة تخفى وراءها واقعًا مغايرًا، تتشابك فيه المصالح والعلاقات، وتتراجع فيه القيمة أمام الاسم، ويتقدّم الولاء على الموهبة.

فى هذا الواقع، تتحوّل الثقافة إلى ما يشبه «الجيتو الثقافى»؛ منطقة مغلقة لها حدودها غير المرئية، لا يُسمح بالدخول إليها إلّا لمن يحمل مفاتيح الولاء والانتماء، لا مفاتيح الإبداع والكفاءة.

تُرفع فى هذا الجيتو شعارات الحرية والتنوير، بينما تُمارس داخله كل أشكال العزل والتهميش، ويُقصى من لا ينتمى إلى الدائرة الضيقة التى تحكم المشهد وتوزّع الأدوار والجوائز على من تشاء.

يشبه هذا الجيتو «أرستقراطية ثقافية» تحرس امتيازاتها بعناية، وتخشى أى صوت جديد قد يربك توازنها أو يهدد سلطتها الرمزية.

وهكذا تتكوّن طبقة مغلقة من النخبة التى ترى فى نفسها وصيًّا على الذوق والفكر، فتمنح الاعتراف الأدبى بقرار لا بقيمة النص، وتحدد من يستحق الظهور ومن يُدفع إلى الظل.

أخطر ما ينتجه هذا الجيتو هو الوهم بالتمايز، ذلك الشعور الزائف بالتفوّق الذى يتملّك المنتسبين إليه.

يخيَّل إليهم أنهم وحدهم أصحاب الفهم والجمال، وأنّ من هم خارج أسوارهم ليسوا سوى متطفلين على الإبداع.

هذا الوهم لا يقتل المواهب الجديدة فحسب، بل يُفرغ المشهد من تنوّعه وطاقته، فيتحوّل إلى مساحة راكدة، تُعاد فيها الوجوه ذاتها والأفكار نفسها، حتى يبدو الزمن الثقافى متوقفًا عند لحظة لا تتغيّر.

أما المبدعون المتميزون، فيختار بعضهم الصمت أو الانسحاب، بعدما يكتشفون أن الطريق إلى المنابر والمهرجانات لا يُعبَّد بالنصوص الجيدة، بل بالعلاقات والمجاملات.

ولعلّ الأخطر من ذلك أن بعض المؤسسات الرسمية صارت شريكًا فى تكريس هذا الجيتو، حين تكرّر الأسماء نفسها فى كل احتفال، وتعيد تدوير الوجوه ذاتها فى كل مؤتمر، وكأن الثقافة قد توقفت عند جيل أو جماعة بعينها.

هذه الممارسات لا تضرّ الأفراد فحسب ، بل تضعف الحياة الثقافية المصرية وتفقدها حرارتها، وتحرمها من دماء جديدة كان يمكن أن تجدّد الروح وتفتح آفاقًا أوسع.

وما يزيد الصورة قتامة أن بعض المثقفين أنفسهم أصبحوا جزءًا من اللعبة، يشاركون فى إعادة إنتاج الانغلاق، بعدما ارتضوا أن يكونوا داخل الجدار بدلًا من هدمه.

ومن أبرز تجليات هذا الجيتو ما يمكن تسميته بـ«مركزية الثقافة»، حيث تُختزل مصر كلها فى العاصمة، وتُهمَّش المحافظات والأقاليم، وكأنها مجرد هامش لا ينتج سوى مواهب صغيرة.

لكنّ الحقيقة أن الأطراف، من شمال سيناء إلى أسوان، ومن مطروح إلى الوادى الجديد، تزخر بعقول مبدعة وشخصيات أدبية حقيقية، كان يمكن أن تغيّر وجه الثقافة لو أُتيح لها الدعم والاعتراف.

إنّ تجاهل هذه الطاقات ليس خطأً إداريًا فحسب، بل خطيئة ثقافية، لأنه يعيد إنتاج المشهد نفسه: مركز متخم بالفرص، وهامش بالكاد يتنفس.

الخروج من الجيتو الثقافى لا يكون بالشكوى، بل بمراجعة جذرية لعلاقتنا بالثقافة ذاتها:

هل نراها وسيلة للوجاهة والظهور؟

أم مسئولية معرفية وأخلاقية تجاه الإنسان والمجتمع؟

إنّ الثقافة التى تُختزل فى حفلات التكريم والصور الجماعية تفقد معناها، لأنها تنفصل عن رسالتها الأصلية فى الوعى والتنوير.

أما الثقافة الحيّة، فهى التى تحتفى بالاختلاف، وتفتح نوافذها للتنوّع، وتمنح الكلمة المخلصة مكانها الطبيعى دون وساطة أو إذن من أحد.

إنّ مصر، بتاريخها وثقلها الإبداعى، أكبر من أى جيتو أو نادٍ مغلق، وأغنى من أن تُختزل فى مجموعة أسماء تحتكر الضوء.

لقد آن الأوان أن نعيد للثقافة معناها الأصيل: فضاء حر يتنفس فيه الجميع، حيث لا معيار سوى الإبداع، ولا شرعية سوى الكلمة الصادقة التى تنير ولا تقصى، وتبنى ولا تهدم.

فالثقافة التى لا تُنصت إلى الجميع، ولا تُنبت فى أرض الحرية، تتحوّل بمرور الوقت إلى متحف للأسماء القديمة، وجيتو ينهار من الداخل حين تنطفئ آخر شمعة فى قاعة الانتظار.