الجمعة 12 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كلهم أوغـاد.. زيزو موهوب زمانه

حرف

- كتبت كتبًا لم تحظَ باهتمامات النقاد وأيضًا من القراء

- سبقت الجميع بـ30 سنة فى الحديث عن الذكاء الاصطناعى واستخدامه فى الإبداع

لقد حان الوقت أن أرد الاعتبار لمؤلفاتى التى كتبتها طوال رحلتى مع الكتابة وأن يعتذر الشخص الخجول بداخلى، وأيضًا الملىء بالكبرياء الذى لم يقرع أبدًا باب أحد ليطلب منه مصلحة، وقد انقسمت إلى شخصين متقاربين متنافرين الأول هو شخص ملىء بالكبرياء يرفض الترصد لنفسه أو للآخرين والثانى كاتب غزير الإنتاج، وطوال هذه الرحلة حصلت على الكثير مما أستحق، وفقدت أيضًا المزيد مما كنت أتمنى الحصول عليه، فأنا شخص قدم استقالات كثيرة من وظائفه لمجرد إحساس بعدم التواؤم، وأصابنى الغثيان الذى عرفته عن رو كانتان بطل رواية «الغثيان» تأليف جان بول سارتر.

الآن فقط وأنا أدخل عامى الرابع والسبعين أنتبه إلى هذا الأمر: ترى هل نلت ما أستحق؟ وهل كنت أبحث عن فرص كى أنال هذا الاستحقاق مثلًا؟ هل هرولت وراء مناصب وجوائز؟ وهل اهتممت بأن تكون لى حيثية فى العوالم التى عشت بها؟ الآن أتذكر بقوة ما فعلته بنفسى عام ١٩٦٦، كنت فى الصف الثانى الثانوى شابًا صغيرًا فقيرًا جدًا، يتيمًا، أعتمد فى ملابسى على القادرين من أسرة أمى، وطالب نصف متفوق فى مدرسة العباسية بالإسكندرية، نظرت بكثير من الغبطة إلى زملائى فى الفصل الذين تم انتقاؤهم لينضموا إلى أول صفوف الشباب الاشتراكى، بعد أن عادوا من معسكرهم الأول على الشاطئ وقد ارتدوا بدلًا بالغة الأناقة كزى رسمى لهم، وتمنيت لو حصلت على مكاسبهم وامتيازاتهم، وسعيت إلى الانضمام إليهم، فلما ذهبت إلى الاجتماع الذى يرأسه واحد منهم هالتنى تلك الحالة من الهيبة والزعامة التى استبدت لزميلى فى الفصل رئيس الجلسة، وكان ذلك اول اجتماع رسمى فى حياتى أغادره برغبتى، ومن يومها وأنا أكره الاشتراكية والسياسة والتنظيمات السياسية.

نعم كم تعرضت للإغراءات لأكون عضوًا فى مؤسسات وتنظيمات منها بعد هذا الحادث بعشرين عامًا حين ذهبت إلى شقة أستاذ جامعى قادم من أستراليا لأطلب منه بناءً على وساطة من أحد معارفى أن يخاطب الدكتور ثروت عكاشة صديقه كى يلحقنى بإحدى الصحف، واكتشفت أثناء الاجتماع أن أغلب من حوله من طلاب كليته، وأنه يطلب منى أن أعرف عقيدتى جيدًا، ولكثرة اللحى التى كانت حولى انسحبت بهدوء شديد وابتعدت عن هذا المكان تمامًا.

هكذا صارت خطواتى، مثلما تقول الأغنية «وحدى وحدى»، وهكذا علمت نفسى اللغات من الورق، واخترقت الجدران الصعبة، كل الجدران كانت مصنوعة من ورق والمعنى هنا واسع للغاية، حولت جدران بيوتى التى عشت فيها إلى حوائط من الورق، كنت أسعد البشر حين عملت أمينًا بالمكتبة، هذه المكتبة التى حصلت على جائزة الأفضل بعد أن غادرتها بأيام وانتقلت للصحافة.

نعم جاء الوقت لأحصد ما أستحق، بعد أن أفنيت حياتى من أجل الآخرين، قدمت يد المساعدة للكثيرين، وكم جذبتنى الرغبة لكتابة هذا الكتاب الذى أكتبه الآن وأن يكون بعنوان «كلهم أوغاد» أتحدث فيه عن ردود الأفعال التى قابلنى بها كل من عاونته من جميع الأجيال، أحببت أساتذتى الكبار وتلاميذى الصغار، واحتفظت بأصدقائى لسنوات طويلة وشاهدت الكثير من هؤلاء الصغار يكبرون ويحصلون على وظائف ومكانات تناسبهم.

الطامة الكبرى فى حياتى أننى لم أذهب أبدًا بواحد من مؤلفاتى لواحد من النقاد كى يكتب عنه وباستثناء مرة أو مرتين فإننى لم أتقدم لأى جهة لاقتراح وعمل ندواتى لمناقشة أحد مؤلفاتى، وقد ساعدتنى تجربتى لأرى الكثيرين من المؤلفين الذين نشرت لهم فى روايات الهلال يقدمون أعمالهم مجانًا إلى الجميع للتعريف بأنفسهم، كُتّاب كبار بدأوا معى وكانت لهم أساليبهم التى تختلف عن طريقتى.

بدأت الحكاية بالأمس فقط وأنا أستمع إلى برنامج تليفزيونى طويل فى محطة «العربية» الذى كان يدور حول أن الذكاء الاصطناعى صار الآن يبدع فى مجال القصة القصيرة، قد تمت استضافة شخصين من الجيل الجديد يتحدثان عن الأمر، ورغم أنى لم أتوقع أن يتكلما عن تجربتى مع الروبوت زيزو، رغم أننى لم أشعر باستياء لهذا الجهل، وكدت أن أصرخ فى نفسى وأن أتصل بكل محطات الدنيا وأقول أنا فلان مؤلف رواية «زيزو موهوب زمانه»، وهى رواية أطفال التى نشرتها عام ١٩٩٤ عن الروبوت زيزو برمجته فى ورشة المواهب، مرة يخرج منها شاعرًا ومرة أخرى رسامًا ومرة أخرى مخرجًا ومرة رابعة روائيًا. إنها نفس الأفكار التى صارت برامج ٢٠٢٣. لقد سبقت زمانى بأكثر من ثلاثين عامًا، بدأت الحكاية برواية للأطفال نشرت فى كتاب، ثم اقترح المخرج المسرحى محمد أبوالخير عمل مسرحية للأطفال هو هذا الموضوع، وكتبنا المسرحية وقدمت على خشبة مسرح الأطفال من بطولة وجدى العربى وعزة لبيب، حققت المسرحية أعلى إيرادات تناسب الأطفال كما ذكر فى كتاب تذكارى للمركز القومى لثقافة الطفل، هذا النجاح سبب فى عمل مسرحية أخرى من تأليفى بنفس الطاقم من الممثلين والمخرج بعنوان «زيزو ديجيتال» بنفس نجاح الأولى، لكنها كانت عملًا رياديًا بما يعنى أن الفكرة الأولى لى وأنا صاحبها وأن العالم من حولنا لم ينتبه إليها فى الواقع إلا بعد ذلك بسنوات طويلة، كما أن السينما العالمية والمسرح والأدب لم تقترب بعد من هذه الفكرة، لقد قدمت رواياتى حول أن العشرينيات من القرن الحالى سوف تمتلئ فيها الروبوتات العاطلة، لذا قرر زيزو الذهاب إلى المبرمج العارف ليمنحه القدرة على الإبداع، ومن هنا تحولت المسرحية إلى سخرية من هذا الروبوت حطم كل قواعده دون أن يكون موهوبًا، وإذا رسم لوحة بدت أشبه بممسحة الألوان، وإذا أخرج فيلمًا سبب كوارث، وانتهت المسرحية أن يتعلم زيزو قبل أن يتبرمج، وتوجد لدىّ الكثير من الكتابات عن أهمية هذه المسرحية، وقد تم إخراج الكتاب أشبه بـ«الاستبرس» كما رسمه الراحل محمد حماد، وهكذا أعيش على ذكرياتى مع زيزو، وهذا ما دفعنى لصياغة هذا الكتاب حول مؤلفاتى، لم تكن تلك الحالة الوحيدة من نوعها فى قيامى بالتنبؤ العلمى كواحد من الرواد على المستوى العالمى، ففى عام ١٩٩٢ قمت بنشر رواية من «الاستبرس» على حلقات ثمانٍ فى مجلة ماجد الإماراتية فى كل حلقة أربع صفحات تحت عنوان «صندوق المساكين»، هذا الصندوق هو عبارة عن مجموعة من الألعاب القديمة التى تخص طفلًا تعامل مع ألعابه بشراسة وقسوة، وحطم أغلبها، فلما اشترى له أبوه جهاز كمبيوتر أقرب إلى المحمول فى زماننا، قررت الألعاب التمرد وحرمان الطفل من متعة اللعب معه حتى يعرف قيمة اللعبة ويحتفظ بها دون كسر أو إتلاف، كانت الرواية كلها تدور حول هذا النوع من التمرد، وكنت فخورًا وسعيدًا حين قدمت شركة باكستر ثلاثة أفلام على مدى عدة سنوات ابتداءً من أواخر التسعينيات تحت اسم «قصة لعبة» فازت بجوائز الأوسكار فى مجال التحريك، وهذه الظاهرة تؤكد أننى سبّاق والنصوص موجودة معى فى مكتبى التى تخلصت من أغلبها، كما أننى فى فترة أخرى من حياتى فى بداية هذا القرن كتبت رواية لدى دار البستانى تحت عنوان «قيس وليلى» ولم أتمكن من نشرها حتى الآن وهى تدور حول ليلى وأخيها يوسف اللذين يدخلان إلى داخل الإنترنت بحثًا عن أمهما التائهة فى العالم الافتراضى باعتبار أن الأمومة أفضل من الخلود، وهناك يلتقى الطفلان بأشهر أبطال الحكايات العربية والعالمية، يا إلهى، إنها نفس قصة فيلم «جو يدخل النت» التى فازت بجائزة أحسن فيلم تحريك ٢٠١٨، إنها فكرتى نعم فكرتى والنص معى.

وعندى أفكار أخرى تناسب السينما التى لم تتوصل بعد إلى تلك الأفكار التى نشرتها فى مجلات الأطفال منها على سبيل المثال اختفاء السلم الموسيقى، حول قرار السلم الموسيقى أن يختفى من عصرنا احتجاجًا على الألحان النشاز ولن تعود الموسيقى أبدًا إلا بعد أن تختفى هذه الظواهر من حياتنا.

هذه الأحداث هى السبب فى تأليف هذا الكتاب وعلى مدى أكثر من أربعين عامًا كتبت كتبًا لم تحظَ باهتمامات من النقاد وأيضًا من القراء، ما يجعلنى أشعر بالكثير من المرارة، ترى هل أندم على زهدى أم حان الوقت لتأليف كتاب جديد قد يدخل أيضًا فى دائرة النسيان وعدم الاهتمام؟

هذا ما سوف أحكيه وأتمنى أن أتمكن من تدوينه وأن يصل إلى من يقرأه.