الثلاثاء 02 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الثقافة فى مصر.. أى نهضة نريد؟.. وأى واقع نواجه؟

حرف

فى زمن تتسارع فيه التحولات وتضطرب فيه القيم، تتجدد الحاجة إلى إعادة طرح سؤال النهضة الثقافية فى مصر، لا بوصفه ترفًا نخبويًا أو خطابًا مؤجلًا، بل باعتباره ضرورة وجودية ومشروعًا وطنيًا يرتبط به مستقبل الوعى والمعرفة والهوية. فكيف يبدو الواقع الثقافى فى مصر اليوم؟ وما الذى يعوق انطلاقته الحقيقية؟ وأى نهضة نرجوها فى ظل هذا الواقع المتشابك؟

لا يخفى على أحد أن المشهد الثقافى فى مصر يعانى من تشظٍّ واضح بين وفرة الإنتاج من الكتب والفعاليات، وبين ضعف التأثير المجتمعى الحقيقى. فالمراكز الثقافية فى كثير من المحافظات تئن تحت وطأة الإهمال، والفعاليات الثقافية لا تصل إلا إلى جمهور محدود، فيما تغيب الثقافة عن الشارع والمدرسة والإعلام، أو تُختزل فى شعارات سطحية لا تعبر عن عمق دورها التحويلى. وبينما يُنتج عددٌ كبير من الكتّاب أعمالًا أدبية وفكرية لافتة، فإن غياب آليات التوزيع، والاحتضان النقدى، والتسويق الثقافى، يحوّل هذه الجهود إلى جزر معزولة. وما يزيد من الإشكالية هو تراجع دور النخبة المثقفة فى التأثير المجتمعى، وانفصالها- فى بعض الأحيان- عن قضايا الناس وهمومهم اليومية.

غياب المشروع الثقافى

منذ عقود، تكرّس خطاب مؤسسى يتحدث عن «الريادة الثقافية لمصر»، لكنّ هذا الخطاب غالبًا ما يفتقر إلى مشروع ثقافى فعلى ومتكامل يتجاوز المناسبات والاحتفاليات إلى التأسيس الجاد والبنيوى. فلا يمكن الحديث عن نهضة حقيقية دون:

ـ سياسة ثقافية وطنية واضحة المعالم.

ـ دعم مستدام للنشر والإبداع المحلى.

ـ إصلاح شامل لمؤسسات وزارة الثقافة وتحريرها من البيروقراطية.

ـ ربط الثقافة بالتعليم والإعلام والمجتمع المدنى.

ورغم وجود نماذج مشرقة- مثل بعض المبادرات الشبابية أو مشاريع الأدب فى المحافظات- فإنها غالبًا ما تظل جهودًا فردية أو محلية لا تجد الدعم المؤسسى الكافى ولا الحاضنة المجتمعية المنشودة.

المثقف بين الغياب والمقاومة

المثقف المصرى، بين ضغط الواقع وتراجع الحريات أحيانًا، يعيش مأزقًا حقيقيًا: هل يظل صوتًا نقديًا مقاومًا؟ أم يتحول إلى موظف داخل المنظومة؟

والحقيقة أن النهضة الثقافية لا تبدأ من الوزارات فقط، بل من المثقف الواعى بدوره، القادر على التواصل، والرافض للتكلّس الفكرى، الذى يرى فى الكتابة فعلًا من أفعال الحرية والتنوير والمقاومة. إن غياب المثقف عن المشهد العام، أو انزواءه داخل الأطر الأكاديمية والصالونات المغلقة، أحد أبرز أسباب ضمور الوعى الثقافى فى المجتمع، وهو ما يستدعى مراجعة جادة لعلاقة المثقف بالجمهور، وبأدوات العصر، وبقضاياه المحلية.

النهضة الممكنة

نحن لا نفتقر إلى المبدعين، ولا إلى الكتّاب أو الطاقات، بل نفتقر إلى الرؤية المتكاملة والإرادة السياسية والمجتمعية الداعمة. النهضة الثقافية الممكنة تبدأ من:

ـ دمج الثقافة فى الحياة اليومية: فى المدرسة، فى الإعلام، فى الحوارات العامة.

ـ توزيع عادل للفعاليات والموارد الثقافية على كامل التراب الوطنى.

ـ تشجيع الأدب المحلى والكتابة الإبداعية فى المحافظات والقرى.

ـ تمكين الشباب وتوفير مساحات مفتوحة للحوار والتعبير.

ـ ربط الثقافة بقضايا المجتمع الفعلية: التهميش، البيئة، التعليم، الهوية.

النهضة الثقافية ليست ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل هى حجر الأساس لأى مشروع وطنى جاد، لأنها تصوغ الوعى وتحرّر الإنسان، وتمنحه القدرة على الحلم والفعل والتغيير.

رؤية ختامية: الثقافة مسئولية الجميع

فى النهاية، تبقى الثقافة أكثر من كونها إنتاجًا فكريًا أو نشاطًا مؤسسيًا.. إنها روح المجتمع وضميره الحى.

ولا يمكن لأى نهضة حقيقية أن تتحقق دون أن تتبناها الدولة، ويؤمن بها المواطن، ويشارك فى صنعها الكاتب، والمعلم، والمبدع، والناقد، والناشر، والإعلامى، وحتى القارئ العادى.

الرهان اليوم ليس فقط على ما نكتبه، بل على كيف نعيد بناء العلاقة بين الإنسان المصرى والثقافة، كيف نُرجع للكتاب مكانته، وللمسرح حضوره، وللشعر صوته، وللحوار مساحته، وللخيال سلطته فى تشكيل الوعى.

النهضة الثقافية فى مصر لن تهبط من فوق، ولن يصنعها فرد واحد، بل هى مشروع جماعى، يبدأ من الإيمان بأن الكلمة تغيّر، وأن الفن يحرر، وأن المعرفة تُنير الطريق فى زمن الظلال الكثيفة.

فلنسأل أنفسنا بصدق:

أى مصر نريد؟ تلك التى تُهمّش عقلها، أم تلك التى تصنع المستقبل بفعل ثقافى حىّ ومستنير؟