الخميس 16 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ضمن القائمة الطويلة لجوائز الكتاب الوطنى الأمريكية

«مرحلة النوم».. القاهرة فى عالم محمد خير

حرف

- صدرت «مرحلة النوم» عن الكتب خان بالقاهرة 2024 ثم صدرت فى الولايات المتحدة الأمريكية مايو 2025

فى روايته «مرحلة النوم»، الصادرة فى القاهرة عن «الكتب خان»، يبنى الشاعر والروائى محمد خير عالمًا يخصه بامتياز، ويبدو اختراع العالم المحكى عنه تعبيرًا دالًا على طاقة من المتخيل الروائى الذى يهيمن على المتن السردى منذ البداية وحتى النهاية. 

ويغاير محمد خير هنا مرتكزات السرد الكلاسيكى، فلن تجد معادلة البدايات التقليدية، ولا التسلسل المنطقى للأحداث، لن تجد العقدة بمعناها الوظيفى القديم، ولا الذروة التى تعزز من هيمنة الحكاية التقليدية بزمنيتها المعتادة. 

كانت رواية «مرحلة النوم- Sleep phase» قد وصلت «إلى القائمة الطويلة لجوائز الكتاب الوطنى الأمريكية/ القسم الدولى. «الدورة ٧٦»، وتعد «مرحلة النوم» الكتاب العربى الوحيد ضمن قائمة حوت عشرة كتب متنوعة من لغات مختلفة، بينها رواية للكورية هان كانج الحائزة على جائزة نوبل للآداب ٢٠٢٤.

وصدرت «مرحلة النوم» عن الكتب خان بالقاهرة عام ٢٠٢٤، ثم صدرت بترجمة روبن موجر عن دار Two lines press فى الولايات المتحدة الأمريكية مايو ٢٠٢٥. 

فى «مرحلة النوم» ثمة راوٍ رئيسى يكمن خلف الأحداث، سارد كلى ينثر الحكاية، ويقدمها على دفعات، محتفظًا ببعض من ظلال السرد المعتاد، غير أن العوالم المحكى عنها هى ما يسم الرواية بطابع أصيل من الجدارة الفنية، طابع غير مفتعل على الرغم من أنه يحكى واقعًا متخيلًا بالأساس. 

إن «سردية المدينة» أول ما يواجهه المتلقى، وهى ليست كأى مدينة «القاهرة»، إنها المدينة المغوية على المسار الواقعى، مهما اعتراها من تغيرات، والمدينة الفنية على مستوى البناء السردى، المدينة المتخيلة التى لم تزل تحتفظ بأسماء شوارعها، لكنها خطت نحو مجهول لا نعرفه على مستوى التحولات التى تبرزها الرواية عبر آليتى التخييل الذاتى، والتخييل الموضوعى، أما التخييل الذاتى فيحدث حين نرى العالم/ القاهرة فى زمن مستقبلى بعين الراوى الرئيسى، وأما التخييل الموضوعى، فحين تصبح القاهرة ذاتها موضوعًا للتخييل وموضعًا له، ولن تجد عناء كبيرًا فى تلمس هذا المنحى منذ البداية، أى منذ الاستهلال الروائى للنص: «لم يتعرف بسهولة على مدخل شارع طلعت حرب، ضلّ طريقه بين أشجار القيقب الحمراء والأوراق العريضة لأشجار الجوزية، والهامات العالية لأشجار الحور التى اصطفّت متجاورة مثل حرس استقبال فحجبت مشهد العمارات الخديوية. انتفض أكثر من مرة حين ركضت بين قدميه السناجب تحمل حبات الجوز، مسرعة فى طريقها إلى غابات الكستناء والصنوبر، التى احتلت مكان المنصة الحجرية القديمة وسارية العلم والتقاطعات المرورية التى صخبت فى الماضى بأبواق السيارات وفرقعات الدراجات النارية».

«وارف شاهين» مترجم تقوده «الواسطة»، أو المحاباة، للعمل فى مجال السياحة، ويصبح محاطًا بعالمين متباينين قبل أن تأتى العاصفة، التى غيرت مسار حياته، حيث يصبح موزعًا بين عالمين: عالم الروتين البيروقراطى بخطوه البطىء، وعالم الاستثمار السياحى بإيقاعه اللاهث. 

لن تكتشف حياة «وارف» سريعًا، ربما يتأخر التحول الدرامى المخبر عنه إلى صفحة «٦١» تقريبًا. فقد كتب رأيه على «الفيسبوك» عن سبب تأخر السياحة لدينا. وفى مغامرة لم يعرفها ولم يكن يريدها لا هو ولا صديقه «وجدى» صاحب الجين التاريخى فى الخوف، فى العائلة وفى القرية التى ينحدر منها. يقبض عليه ويمكث فى السجن سبع سنين؛ ليخرج وقد تغير كل شىء. إذ تغول الوافدون داخل المكان وصارت القاهرة هجينًا غير مألوف. لم تعد ذات الطابع الكوزموبوليتانى الناعم، بل صارت ثمة هيمنة من المطاعم الآسيوية، والموظفين الأوروبيين. 

محمد خير

عالم متخيل وكارثى، به بعض ملامح الديستوبيا، لكنه يباعد عنها، أو يتخطاها فى كونه مشغولًا بالكشف عن الأنساق المضمرة لشبكة العلاقات البينية بين الشخوص، من جهة، وشبكة التحولات فى القاهرة المتخيلة من جهة ثانية: «دخل يمينًا باتجاه عابدين ورأى على الرصيف الأيسر صفًا من المطاعم الآسيوية فى مكان الحوانيت الصغيرة التى كان يُشترى منها فى الماضى المفاتيح الكهربية والمصابيح ومستلزمات الهاتف المحمول، برز مدخل مجسم الرسومات لمطعم يابانى فى مكان مكتب مدرسة قيادة السيارات التى حاول فيها يومًا سائق عجوز وعصبى أن يعلمه القيادة وسط الزحام العشوائى الذى اختفى الآن من شوارع منصور والمبتديان وقصر العينى».

«وارف، وسالى، وسارة، وجاكوب»، وغيرهم، شخوص متعددون، يملأون فضاء الرواية، أما الأهم فيتمثل فى ذلك المنطق الحاكم لتحولات المكان المنفتح على فانتازيا واسعة، فيها الغزلان ترعى فى حديقة الأزهر، والسناجب تتقافز فى شارع طلعت حرب، وأشجار السنط على الجانبين.

تتشكل الرواية من اثنى عشر فصلًا سرديًا، أشبه بالوحدات السردية المتصلة المنفصلة، الرابط بينها هو «وارف شاهين» ذاته، مركز السرد فى الرواية، والشاهد على تحولات الجغرافيا السردية، تبدأ المقاطع المرقمة ذات العناوين الفرعية بوارف شاهين، وتنتهى بفصل «من السماء»، ووارف يحضر هنا أيضًا. 

وتتكئ الرواية على ثنائية «الوافدون والأصليون»، وترصد الرواية أيضًا تلك التباينات القائمة، والمعبرة عن هجين العالم الجديد، من خلال التفاصيل المتعددة، وتشظى الحكاية، وهما آليتان مركزيتان فى الرواية الجديدة، ففى هذا المشهد الذى يختتم به الكاتب مقطعه السردى الثانى، تحكى سارة عن غياب وارف، وهى الحكاية التى تسرد من خلال منظورات متعددة، وفى المتن أيضًا سنرى جملة من التفاصيل الحياتية للمكان وأثره فى سيكولوجية الشخصية: «فى اليوم الذى لم يعد فيه من شراء السجائر استيقظت فى الظلام وشعرت فورًا بغيابه، فوق سجادة الصالون المحاصر بالأبواب شعرت بجسدها يسقط فى فراغ متسع، ولا صوت سوى التكييف العتيق القريب من الأرض وأزيز مصباح المطبخ، ظلت فى مكانها لدقائق ثم نهضت ببطء، فى غيابه شعرت أنها تستعيد جسدها بسهولة ضد الجاذبية، لكن تلك الخفة سببت لها رعشة فى الظهر، أضاءت النور وجلست على الأريكة التى تنتمى لعصر الصالونات المذهبة، اكتشفت فجأة أنها لم تستيقظ هنا وحدها قط، وفقط لتتأكد- توجهت نحو الحمام عبر الصالة المشوهة، وشعرت لأول مرة بغرابة تكوين الشقة، عادت إلى الصالون وبحثت عن سجائرها، ثم ذهبت إلى المطبخ وأشعلتها من قداحة الموقد، وتوقفت قليلًا فى الصالة، حائرة بلا سبب معقول، عادت إلى الصالون واتصلت به، كان الهاتف غير متاح، انتظرت قليلًا، ارتدت حذاءها واتصلت مجددًا فوجدته مغلقًا. شعرت بخوف حاولت أن تخبر نفسها بمدى سخافته. غادرت البناية، استقلت سيارتها من الكراج القريب، كان مظلمًا حتى أنها تصورت لوهلة أن الكهرباء مقطوعة، وغادرت وسط البلد.

فى البيت، تصفحت صفحته على (فيسبوك)، لم تكن محدّثة ولم يكن مسجلًا دخوله. راجعت هاتفها، لا اتصالات منه ولا رسائل. 

بعد أيام، تأكد الخبر وعرفت أنها غالبًا لن تراه لفترة، لكنها لم تتوقع أن تطول إلى كل هذا الوقت». 

وفى الفصل الأخير «من السماء»، يعود وارف من جديد، وتبرز ما أسميه سردية التحليق، حيث لا يكتفى محمد خير باختراع عالمه، وإنما يواصل رحلته مع فانتازيا حملت منطقها الجمالى الخاص فى نص بديع، ومؤثر، ودال على كاتب حقيقى، ومجدد.