لعبة المتخيل والواقعى فى «مجانين أم كلثوم»

- «مجانين أم كلثوم» نص ينهض على جدل التوثيق والتخييل ويضرب فى مساحة تخصه وحده
تلوح أم كلثوم منذ البداية، فى رواية الكاتب شريف صالح الجديدة «مجانين أم كلثوم»، والصادرة فى القاهرة حديثًا عن «الدار المصرية اللبنانية»، فلا يكتفى الروائى بظهورها فى العنوان، لكنها تمتد إلى الإهداء، والمتن السردى، وتظهر فى المتون والهوامش الفرعية، فيحمل وجودها ظلًا مختلفًا فى كليهما، وتبدو عماد المتن والهامش الجانبى معًا، سعيًا لإفساح الطريق أمام مساحات من التخييل الروائى فى ظل موضوعة ستبدو للوهلة الأولى وعلى المستوى الظاهرى جاهزة ومطروقة، وبما يصنع تحديًا جماليًا أمام الرواية «مجانين أم كلثوم»، والروائى «شريف صالح» معًا.
تبدو المفاصل الأساسية للرواية محملة بتاريخ ممتد عن أم كلثوم ومحبيها، وتعد الهوامش، الموضوعة على جانب الصفحة فى توظيف جيد لفضاء الصفحة الورقية، جزءًا مركزيًا من الرؤية السردية، ممثلة فيما يعرف فى النقد بالنص المصاحب «CompaniedText».
يبدو الإهداء ناعمًا يحيل على مركز السرد فى الرواية «إلى روح أبى الحاج صالح عبدالجواد على صالح.. وذكرى أيامه فى الحرب بين عامى ١٩٦٤ و١٩٧٣، وقارورة عطر أهدتها إليه أم كلثوم».
تحيل الرواية على زمن ماضوى، يتم حمله دومًا داخل سيكولوجية البطل المركزى فى الرواية «جلال عبدالفتاح عاشور»، وتلعب على المساحات المتقاطعة بين الماضى والحاضر برهافة شديدة، دونما نصية مباشرة على لحظة الحكى الراهنة، التى يمكن استكشافها من خلال السرديات المتواترة، وشاهدها أغانى أم كلثوم ذاتها، من قبيل الإشارة إلى مضى ستين عامًا على أغنية السنباطى «افرح يا قلبى»، وبما يعنى أننا فى العام ١٩٩٧، وقبلها بثلاثة عشر عامًا أى أننا عدنا إلى العام ١٩٨٤.
إن حركة الزمن هنا تبدو محكمة وفق استراتيجية بنائية، تنتخب لحظات جمالية وتتكئ عليها فى خلق مساحات أوسع من الحراك السردى من جهة، وخلق الفجوات النصية المحفزة للتلقى من جهة ثانية.
ثمة متنان هنا: متن رئيسى، وهامش قد صار متنًا موازيًا، يتقاطع ويتجادل مع المتن الرئيسى، ويأتى شارحًا، أو مؤولًا، محللًا، أو مخبرًا، ومن ثم تتعدد وظائف السرد فى المسارين الروائيين، وكلاهما يستوعب مساحات تخصه من التخييل الروائى.

لعبة فنية
ثمة لعبة فنية وجمالية هنا بامتياز، تتوسل بأم كلثوم، وتجعلها غاية فى الآن نفسه، وقد تسرب حب أم كلثوم لقلب الراوى البطل منذ البداية: اسأل روحك
كانت الإضاءة خافتة عبر ستارة مسدلة. الستارة ثقيلة ليس لها لون معين. طفل فى الصف الأول الإعدادى عاد من المدرسة جائعًا. أزاح الحقيبة عن ظهره وجلس. دخلت الأم إلى المطبخ تسخن له صينية دجاج بالبطاطس.
كاسيت ناشيونال بانسونيك بباب واحد، مربوط من المنتصف بالمطاط. جلبتْ الأم طاولة صغيرة، ووضعته فوقها بجوار باب المطبخ المفتوح.
«اسأل روحك.. اسأل قلبك..
قبل ما تسأل إيه غيرنى..
أنا غيرنى عذابى فى حبك..
بعد ما كان أملى مصبرنى..».
انشغل الطفل بفهم كلمات الأغنية. استوقفه ضمير الخطاب كأن المطربة تكلمه هو. سحرته آهة طويلة قبل أن تغنى: «أنا ما نسيتش الحب وعهده». الموسيقى تكاد تتوقف.
وكان ثمة كبرياء. فهى تدافع عن نفسها. تدين قلة أصل حبيبها، وتنكره لها. تثبت بالبراهين لماذا تغيرتْ. ثم تتركه لضميره «اسألك روحك».
قبل أن يكمل الطفل الثالثة عشرة، تسللتْ إلى قلبه أغانى الست. بحث عن كل قصاصة فيها اسمها وصورتها. أصبح مثل دب الماء الذى يستطيع أن يعيش لسنوات بدون ماء وهواء لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون أم كلثوم. راحت تتمدد فى داخله.
حين سمعها وهو يأكل الدجاج بالبطاطس والصلصة، حصل على أكبر «وجبة» فى حياته، ما زال يلتهمها حتى الآن. أو «الوجبة» هى التى خرجتْ من شريط الكاسيت والتهمته.
جلال عبدالفتاح عاشور الشاب المفتون بأم كلثوم، ومروياته التى تتعدد، وعلاقاته الاجتماعية والعاطفية والإنسانية مع محيط ينمو باستمرار، وفى الهامش «جمعية محبى أم كلثوم»، أو بالأحرى ووفق التسمية شبه السرية «جمعية حراس أم كلثوم» بشخوصها الإشكاليين، الذين يمثلون إضافة جمالية للمتن الرئيسى، من قبيل: القبطان «وديد السجينى»، الذى يستضيف أعضاء الجمعية فى فيلته القديمة بالمنيل، وقد هربت زوجته اليونانية، ولم يزل يتتبع أثرها.
«على عطيان» التاجر الثرى الذى أنفق ثروته على المقاهى التى تذيع أغانى الست، «دولت هانم أبوالمجد»، أم الراوى، التى تمزج بين الوطن وأغانى أم كلثوم، والمتحدثة الرسمية باسم الجمعية، «عبدالسلام المشد» عالم الفلك الساخر، «الأب أرسانيوس» الراهب المفصول، كما تقول دولت هانم، أو صاحب المعجزات، كما يرى الشيخ عبدالسلام، وهناك أيضًا إحسان هانم أو سوسو التى تعشق الرجال، خاصة لو كانوا أصغر سنًا منها، خليط متنوع من بشر متعددين يمثلون نماذج إنسانية لا تخلو من طرافة، وهنا تجب الإشارة إلى النزوع الساخر للسرد، بلا افتعال، والذى يمثل سمة أصيلة فى الكتابة هنا، وفى أعمال شريف صالح السابقة أيضًا.

جدل الغناء والسرد
يقترن الغناء والسرد معًا، ويتجادلان، وفى كل موقف سردى، وفى كل حكاية أو مروية ثمة أغنية شاهدة، أو دليلًا جماليًا ونفسيًا، فنجد مثلًا أغنية «افرح يا قلبى» مقترنة بحكاية الفتاة «وسام» من المحمدية، فى محافظة دمياط: افرح يا قلبى
وقفنا أنا وأمى أمام الفيلا، وكان ظهرانا للنيل، وبجوارنا شجرة وحيدة ليس فيها عصافير تزقزق. التقطتْ أنفاسها، ثم صعدتْ درجات قليلة وأنا آخذ بيدها. قالت إنها لن تستند على كلاب السكك وابنها موجود.
موعدنا ثابت الخميس الأول من كل شهر. الفيلا قديمة من طابقين، كانت تطل على نيل المنيل، ويميزها لون أبيض كالح، لأن صاحبها القبطان السجينى لم يجددها من ربع قرن.
بسبب التزامى بالذهاب مع أمى إلى سهرة الخميس، شيئًا فشيئًا وجدتُ نفسى أصغر عضو فى جمعية «محبى أم كلثوم» تحت التأسيس. كانوا عجائز يرتدون ملابس سهرة عتيقة، موضة الخمسينيات، ويتمايلون برءوسهم ببطء.
أول مهمة كلفونى بها، حضور حفل الأوبرا المخصص لأغانى الست، وقطع تذاكر إضافية لإغراء الشباب بالدخول مجانًا. وضعتُ فى جيبى أربع تذاكر، وقادتنى قدماى إلى مقهى الهناجر.
أيهم قد يسعده حضور حفل لأغانى الست؟ وسط دخان السجائر، كانت الطاولات تعج بممثلين هواة، وفتيات بطات يسرحن شعورهن على الطريقة الإفريقية. شباب طوال القامة كانوا يروحون ويجيئون وهم يرتدون سلاسل فضية غليظة، وكانوا يطلقون لحاهم وشعورهم معقودة من الخلف. هيئة هيبية إن لم تساعدهم فى احتراف الفن ساعدتهم فى اصطياد فتاة. بعضهم كان يمسك بالعود ويدندن.
أما أنا فكنتُ شابًا عاديًا أرتدى بنطلون جينز أزرق وتى شيرت ماركة بولو بشعار راكب الحصان الذى يمسك مضربًا طويلًا فى يده كأنه يهم بضرب كرة غير مرئية.
لمحتُها فى ركن بعيد وقد انتهتْ للتو من نصف كوب عصير ليمون. كانت ترتدى بلوزة بنفسجية فضفاضة تُدارى نحولها. تحجيبتها الريفية تضفى عليها مسحة فرعونية.
استأذنتُها. ظنتْ أننى أرغب فى سحب كرسى لكننى جلستُ فى مواجهتها. عيناها ضيقتان قليلًا وفيهما لمعة نباهة. لم تسعفنى الذاكرة بشىء مضحك يكسر الحاجز بيننا.
عرضت عليها تذكرة فشكرتنى لأنها حجزت بالفعل. معنى ذلك أننا جئنا إلى هنا للسبب نفسه: حفلة أم كلثوم. أهديتُ التذاكر لأربع شابات كن يضحكن على طاولة مجاورة.
بعد الحفل اكتشفنا أننا نسكن فى الاتجاه نفسه، فأخذنا التاكسى معًا. تحدثنا بحذر أقل، وكتبتْ فى وريقة صغيرة رقم تليفون السكن.
اسمها وسام من «المحمدية» فى دمياط. تقيم فى القاهرة لأنها مرتبطة بمحاضرات الماجستير، وتعمل مدرسة لغة عربية فى حضانة لذوى الاحتياجات. كانت متعلقة بجدها عبدالبديع إمام المسجد الصوفى الذى يخرج الثعابين من الجحور، والوحيد الذى شجعها على السفر ضد رغبة أمها زنوبة.
مرة ثانية التقينا فى مقهى الفيشاوى. شربنا الشاى الخفيف بالنعناع. سمحتُ لنفسى أن أحضن يدها الصغيرة بين يدىّ. أغمضتْ عينيها. كان فى أصابعها بعض العُقل البارزة وعروق مزرقة.
قالتْ بخجل:
ـ «يدى ليست جميلة»
ـ «بالعكس. فيها شىء عنيد وطموح»
كانت كذبتى الأولى. كيف يكون فى اليد شىء عنيد وطموح؟!
هبتْ نسمة صيفية. أوقدوا أنوار الليل حولنا. اقترب رجل ستينى يرتدى طربوشًا أحمر. ابتسم لنا، ابتسامة من يرى الحب مجسدًا فى شاب وفتاة فى السادسة والعشرين. دندن بجوارنا شاب بدين على العود، مُعطيًا الفرصة للعجوز كى يغنى بركوز جميل:
«افرح يا قلبى.. لك نصيب..
تبلغ مُناك ويا الحبيب..
افرح يا قلبى..».
والمنحى ذاته نراه عبر أغنية «فكرونى»، حيث «نجلاء الرفاعى» من محرم بك، فى الإسكندرية.
وكذا أغنية «اسأل روحك» التى تحبها الأم، وشريط الكاسيت الذى أعاد إليها زوجها معتذرًا عن إغضابه إياها: بعد سنين، اعترفت لى أمى أن والدى الحاج عبدالفتاح عاشور كان قد غضب منها ورمى عليها يمين الطلاق مرة واحدة فقط، ولم تكن أنجبت سوى شقيقى الأكبر عماد.
مكثت شهرًا غضبانة فى بيت الجدة إلى أن أرسلتْ إليه كاسيت «اسأل روحك» مع «أم زغلول» الداية، بعدها زارها وقبّل رأسها معتذرًا. لم تسترسل فى التفاصيل كى لا تجرح ذكراه. فكرتُ أنه لولا هذه الأغنية، ما كنتُ لآتى إلى الدنيا.
تصحب أم كلثوم الراوى فى صحوه ومنامه، تلوح له بملابس الإحرام فى النهاية، يعتقد أنها أمه، لكنها تخبره قائلة «أنا الست يا جلال». ثم يغنيان معًا «غنى لى شوى شوى»، وفى كل مقطع غنائى ثمة مقطع سردى يتخلله فى تعضيد مغاير لسردية المقطع والكوبليه.
وبعد.. «مجانين أم كلثوم» نص ينهض على جدل التوثيق والتخييل، ويضرب فى مساحة تخصه وحده حول موضوعة تبدو للوهلة الأولى مطروقة، لكن الكتابة دومًا كان سؤالها الأساسى: كيف تقول؟، وليس ماذا تقول فحسب، تعززها جملة بيتر ماكيلر عالم النفس الشهير: الفن تفاعل معقد بين التفكير الواقعى، والتفكير الخيالى.