إيثريدچ نايـت.. السجين الذى صار شاعرًا

- يجب على الفنان الأسود أن يتصور ويجسد الطموحات الجماعية والرؤية الجماعية للشعب الأسود
- خلال فترة سجنه اكتشف نايت هدف حياته: «الشعريَّة» Poeting وهو المصطلح الذى استخدمه لوصف فن كتابة الشعر
فقرٌ واضطهادٌ وعُنصريَّةٌ وطفلٌ مولودٌ بموهبةٍ شعريَّةٍ غير عاديَّة، هل ستكون للموهبة تأثير وقوة على كل تلك الظروف التى نشأ فيها هذا الطفل؟ هل سيتغلَّبُ على معيشةٍ لم توفر له سُبلًا للنجاحِ؟ إذا وُلِدَ طفل فى مثل تلك الظروف، متى سيتأمَّل ذاته ليكتب؟ متى سيكتشف فى نفسه الشَّاعر؟ وهل عندما يكتشف نفسه شاعرًا، هل ستتاح له الفرص للنجاح أم سيفشل بعد أول محاولةٍ؟ راودتنى تلك الأسئلة عندما بدأت قراءة سيرة الشَّاعر الأمريكى من أصل إفريقى «إثيريدچ نايت»، وعندما توصلت إلى إجاباتى شعرتُ بالخجل من نفسى عندما يراودنى بعض الزهق أو الملل أثناء ممارسة عملى، فكيف لى أن أمَّل وأنا فى مسكنى آمنة ومعافاة، أعيش فى بيئة صحية ليس فيها اضطهاد ولا غدر ولا استياء من وجودى ولا انتهاك لإنسانيتي؟ وعرفت أننى سأكتب سيرة ملهمة لى ولأجيال كثيرة بعدى عن شاعرٍ تجاوز الفقر والحرب والسجن وقفز إلى المربع الأول فى الحياة، مربع النجاح والتحقق والشهرة عبر كتابات شعرية بدأها داخل السِّجن.
عاش نايت طفولةً صعبة مليئة بالفقر، كان واحدًا من سبعة أطفال لايثيريدج وبيلزورا كوزات نايت.

ولد نايت فى كورنث، ميسيسيبى عام ١٩٣١، لكنه نشأ فى باذوكا، كنتاكى، بدأ يتردد على قاعات البلياردو والحانات، حيث تعرف بالجانب القاسى من الحياة، بعد أن ترك المدرسة من الصَّف الثامن. ووجود نايت فى هذه البيئة السَّامة أدى إلى حياة مليئة بالجريمة وتعاطى المخدرات، وممارسة «توست» toast. «التوست» وهو تقليدٌ شفوى إفريقى أمريكى يروى فيه قصصًا طويلة بسجعٍ شعرىٍّ. كانت هذه القصص تُروى بأبياتٍ مُزدوجة مُقفَّاة وتصف حياة الشارع باستخدام ألفاظ قاسية ولغة صريحة. كانت موضوعاتها تُركِّز على المُخدرات والجنس والأعمال غير القانونية والعنف، وكان «التوست» أول وسيلة لنايت للتعبير عن نفسه فنيًّا.
انضم نايت إلى الجيش الأمريكى عام ١٩٤٧ وخدم بوصفه فنيا طبيًا فى كوريا حتى عام ١٩٥١. عندما أُصيبَ بشظيةٍ وبعد عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، استسلم لإدمان المخدرات الذى بدأ قبل التحاقه الجيش وأصبح مُدمنًا للمورفين الذى كان يُعالج به. وخلال هذه الفترة من السقوط والإكتئاب، أُعتقل بسبب سرقة ارتكبها ليتمكن من شراء المخدرات التى أدمنها، وقضى فترة سجنه فى سجن ولاية إنديانا من عام ١٩٦٠ إلى ١٩٦٨.
خلال فترة سجنه، اكتشف نايت هدف حياته: «الشعريَّة» Poeting، وهو المصطلح الذى استخدمه لوصف فن كتابة الشعر.قال فى إحدى مُقابلاته: «لقد مِتُّ فى كوريا بسبب جرح بشظيةٍ وأحيتنى المخدرات. مِتُّ فى عام ١٩٦٠ بسبب حُكم السِّجن، وأعادتنى الشعريَّة إلى الحياة». الكتابة علاج ومهرب ومأوى بعيدًا عن الحياة الصعبة والقاسية التى عاشها نايت، ربما كانت فترة سجنه فرصة عظيمة لأن يكتشف نفسه كشاعر وأن يتأمل ذاته وحاله التى كانت تائهة منه خارج القضبان، فالكتابة الشعرية تحتاج إلى كثير من الهدوء لا الصخب، التركيز لا التيه، فالمنح قد تُولد من رحم المحن، وقد تكون فرصة للإنسان أن يُعيد اكتشاف نفسه وذاته من جديد.

فى فترة سجنه، استكمل نايت اهتمامه بـ«التوست»، ووجد جمهورًا له بين زملائه السُجناء.ممارسته التوست علمته أهمية تطوير الشخصيات والمواقف بشكلٍ كامل كوسيلة لجذب الجمهور والحفاظ على اهتمام السُجناء، وبعد ذلك طبَّق مواهبه فى «التوست» على كتابة الشعر. فى عام ١٩٦٣، كتب نايت الشعر وعرَّفَ نفسه بوصفه شاعر، كما بدأ بإقامة علاقات وطيدة مع شخصيات بارزة فى المجتمع الأدبى الإفريقى الأمريكى، مثل الشاعرة الأمريكية «جويندلون بروكس» Gwendolyn Brooks «١٩١٧-٢٠٠٠» التى زارته فى السجن وراجعت أعماله والشاعرة الأمريكية «سونيا سانشيز» Sonia Sancshez «١٩٤٣» التى تزوجها لاحقًا، والشاعر الأمريكى «دودلى راندال» Dudley Randall «١٩١٤-٢٠٠٠»، صاحب دار نشر «برودسايد»، الذى نشر لنايت أول كتاب شعرى عام ١٩٦٨، فى العام نفسه الذى أطلق فيه سراحه من السجن والكتاب كان بعنوان «قصائد من السجن» Poems from Prison.نشر نايت كتابه الشعرى الثانى «أصوات سوداء من السجن» Black Voices from Prison فى عام ١٩٧٠.تحدث نايت فى هذين العملين على تيمات مثل حياة السجن والمشكلات العرقية والمشاركة المجتمعية والسياسية.
وفى عام ١٩٦٥، أثناء وجوده فى السجن، كتب نايت فى دفتر ملاحظاته: «سأكتب جيدًا، سأكون كاتبًا مشهورًا وسأعمل بجد وستكون أعمالى جيدة. سيُسمع صوتى وسأساعد شعبى»، وكأن ذلك كان قرارًا داخليًا وأصر ونجح فى تنفيذه بشكل لافت للنظر.

جعلت مكانة نايت بوصفه شاعرًا جديدًا فى المجتمع الإفريقى الأمريكى فى قلب حركة الفنون السوداء Black Arts Movement، التى ازدهرت منذ أوائل السيتينيات حتَّى منتصف السبعينيات حتى إن الصحفى الأمريكى «لارى نيل» Larry Neal «١٩٣٧-١٩٨١» نشر فى ملف تعريف بنايت فى أكاديمية الشعراء الأمريكيين وصف فيه الحركة بأنها: «معارضة جذريًّا لأى مفهوم للفنان الذى ينفصل عن مجتمعه».
والفنون السوداء هى الأخت الجمالية والروحية لمفهوم القوة السوداء، وبهذا المعنى، فهى تتصور فنًّا يتحدث مباشرة إلى احتياجات وتطلعات أمريكا السوداء. كان هذا الاعتقاد فى صميم حركة الفنون السوداء. خلال أوج هذه الحركة، علَّق نايت بأنه شعُر بالحاجة إلى أن يكون مسئولًا فقط أمام المجتمع الإفريقى الأمريكى.
أصبح أسلوب نايت فى الكتابة أكثر تعقيدًا فى الكتابة بعد إطلاق سراحه من السجن. على مدار السنوات القليلة التالية، شغل نايت منصب كاتب مقيم فى عدة جامعات وذلك فى عامين ١٩٦٨ و ١٩٦٩ فى جامعة بيتسبرج. عمل نايت بوصفه محررا شعريًّا لمجلة موتيف Motive، أثناء إقامته مع زوجته الشاعرة الأمريكية سونيا سانشيز فى بيتسبيرج. أما فى عام ١٩٧٣، نشر نايت كتابه الشعرى الثالث «أُغنية البطن وقصائد أُخرى» Belly Song and Other Poems وعكس هذا العمل تجارب حياته الجديدة ومواقفه تجاه الحب والعرق. أشاد القراء والنقاد بهذا العمل الشعرى حتى إنه رُشح لجائزة الكتاب الوطنى وجائزة بوليتزر، ونذكر أن جائزة بوليتزر لم تُمنح لأى شاعر أسود فى فترة السبعينيات.

أما عن كتابة نايت الشعرية فأشار الشاعر الأمريكى راندال فى كتابه «ذكريات برودسايد: شعراء عرفتهم» Broadside Memories :Poets I Have Known، إلى أن «نايت لا يهجر القافية مثل العديد من الشعراء المعاصرين، فهو يقول إن الرجل الأسود العادى فى الشارع يعرِّف الشعر على أنه شىء مقفى، ونايت يجذب الناس بالقافية»، وأضاف أن شعر نايت «مُتأثر بالبسطاء»، ولكنه أيضا «يحظى بتقدير الشعراء الآخرين».
كتب الشاعر والناقد البريطانى «بيتر كلوزير» Peter Clothier فى مراجعة كتب لوس أنجلوس تايمز Los Angeles Times Book Review، «قصائد نايت هى أدوات للاكتشاف الذاتى واكتشاف العالم- إعلانًا مدويًّا للحقائق التى يكشف عنها»، وقال نايت عن تعريفه بالفن والجماليات يفترض أن «كل إنسان سيد مصيره الخاص ويواجه المجتمع بجهوده الذاتية، والفنان (الحقيقى)، من المفترض أن يفحص تجربته فى هذه العملية كانعكاس لنفسه».
ووفقًا لنايت، يجب على الفنان الأسود أن «يتصور ويجسد الطموحات الجماعية والرؤية الجماعية للشعب الأسود، ومن خلال شكل فنه يعيد إلى الناس الحقيقة التى استقاها منهم. يجب أن يغنى لهم عن أفعالهم، وأخطائهم».
كتبت الشاعرة الأمريكية جويندلون بروكس التى كنت كتبت عنها وترجمت بعض قصائدها فى كتابى «ثقب المفتاح لا يرى.. عشرون شاعرة أمريكية حائزات على جائزتى نوبل وبوليتزر»، الذى صدر فى عام ٢٠٢٤، فى مقدمتها فى الكتاب الشعرى الأول لنايت «شعراء من السجن» Poets from Prison:

«دفء هذا الشاعر قوى ومباشر، والموسيقى التى تبدو سهلة، منحوتة ببراعة وبما أن «إثيريدچ نايت ليس فنانًا مكبوتًا، فهناك هواء فى هذه القصائد.هناك سواد شامل، حر ومخيف وجميل».
كانت لإقامة نايت فى ولاية بنسلفانيا أهمية كبيرة فى مسيرته المهنية، فقد حصل خلال هذه الفترة على منحة من الصندوق الوطنى للفنون فى عام ١٩٧٢ وزمالة جوجنهايم فى عام ١٩٧٤.سمحت له هذه الجوائز بخاصة زمالة جوجنهايم بمواصلة دراسة فنون التقاليد الشفوية الإفريقية الأمريكية بوصفها أساس للشعر الأسود. ظهر تأثير هذه الدراسات على كتابه الشعرى الرابع «مولود من امرأة: قصائد جديدة ومُختارة» Born of a Woman:New and Selected Poems، الذى نُشر فى عام ١٩٨٠، وهو العام نفسه الذى حصل فيه نايت على منحة ثانية من الصندوق الوطنى للفنون، كما أنه أُشيد بعمل نايت باعتباره «مقالًا آخر على الحقيقة القوية السوداء فى الفن»، كما كتبت الأكاديمية الأمريكية «شيرلى لامبكن» Shirley Lumpkin فى «قاموس السيرة الأدبية» Dictionary of Literary Biography كما قالت أيضًا عن نايت «أصبح عمله ذا أهمية فى شعر وفنون الأفرو-أمريكيين وفى تيار الشعر الأنجلو-أمريكى المنحدر من والت ويتمان».

بعد ذلك، طلَّق نايت زوجته الشاعرة الأمريكية سانشيز وتزوج بعدها مرتين، وأنجب ثلاثة أطفال. كانت هذه السنوات فى معركة مستمرة مع المخدرات والكحول التى بدأت فى سن مبكرة.نشر كتابه الأخير «اثيريدج نايت الأساسى» The Essential Etheridge Night فى عام ١٩٨٦. قبل وفاته بعامٍ واحد أى فى عام ١٩٩٠، حصل نايت على درجة البكالوريوس فى الشعر الأمريكى والعدالة الجنائية من جامعة مارتن سنتر فى إنديانابوليس «التى تعرف بجامعة مارتن الآن»، كما عُين شاعرها المقيم..
وفى حوارٍ لايثيريدج نايت أجراه معه الأستاذ الجامعى بجامعة تكساس و مؤسس ورئيس تحرير المجلة الأدبية الثقافية الرائدة فى الشئون الإفريقية «كالالو» Callaloo «تشارلز هنرى رويل» Charles Henry Rowell.
سأل رويل نايت: «هل يمكنك التعليق على ما تعتبره الجمالية السوداء؟»
أجابه نايت: «أعتقد أن الجمالية السوداء تختلف عن الجمالية الأوروبية بشكل أساسى، يا رجل، لأنها لا تفصل الفن أو الجماليات عن المستويات الأخرى للحياة، فهى لا تفصل الفن عن السياسة، أو الفن عن الاقتصاد، أو الفن عن الأخلاق، أو الفن عن الدين. الفن هو مسعى وظيفى وتجارى. الفنان ليس منفصلًا عن الناس فإذا أردت تتبع فصل الفن عن الحياة تاريخيًّا، فسترجعه إلى الإغريق عندما جعل أفلاطون وآخرون «العقلانية» هى المثالية - حيث أصبحت العقلانية هى المثالية - وحدث الانفصال بين العقل والعاطفة.

كان هناك انفصال. يشبه الأمر محاولة الناس فصل الدين عن الدولة. كيف بحق الجحيم يمكنك فصل الدين عن الدولة؟ سياسة الإنسان تتحدد بناءً على كيفية رؤيته للعالم، وكيف يرى الله.
الجماليات، بالنسبة لى، تعنى كيف يرى الإنسان الجمال، والحق، والحب كما يتعلق بكل مستويات الحياة - ليس فقط من خلال مشاهدة غروب الشمس، ولكن أيضًا من خلال كيفية التعامل مع سياساته وكيفية تعامله مع اقتصاده. كل الفنون تنبع أساسًا من الاقتصاد. جميع الرقصات الغربية والأغانى التى يسميها الناس الموسيقى الكلاسيكية نشأت من صيغ أوروبية. أما كل البلوز «Blues» والأشياء التى نعتبرها ثقافية، فقد نشأت من ظروفنا الاقتصادية. الناس يغنون عن ارتفاع النهر لأن محاصيلهم ستُدمّر، إنه الاقتصاد.
أنا لا أميز بين الجماليات والأخلاق والسياسة أو أى جانب آخر من وجود الإنسان. قد يقول أحدهم إن هذا سياسى، وإن هذا ليس سياسيًّا. كما تقول جويندلون بروكس : «كونك أسودَ فى هذا البلد والسير فى الشارع هو بحد ذاته عمل سياسى».
فى أى وقت تدخل فيه مكانًا مليئًا بـ«البيض العنصريين»، فإنك تقوم بعمل سياسى.
عندما ترتدى بناطيل واسعة الأرجل، ولديك لحية، وشعر أفرو كبير، فأنت تقدم بيانًا سياسيًا بمجرد المشى هناك.
كل شىء سياسى، وكل شىء جمالى، وكل شىء أخلاقى.

سأله رويل: «بعبارة أخرى، أنت تقول إن وجودنا فى هذا البلد هو وجود سياسى».
أجابه نايت: «نعم، بالتأكيد، يا رجل، لأنه عندما تكون مستعبَدًا — عندما تسيطر مجموعة كاملة من الناس على مجموعة أخرى — فإن كل مستوى من مستويات الوجود يصبح سياسيًا. لا يوجد أى واعظ أسود قد ألقى عظة من دون أن يكون ذلك تصريحًا سياسيًا. إذا كان علىّ أن أجمع الأمر معًا، فسأربطه أكثر بالدين والاقتصاد. ليس من قبيل المصادفة أن معظم قادتنا، حتى قبل نات تورنر، كانوا يميلون إلى الدين. لقد كانوا جميعًا وعَّاظًا. من نات تورنر إلى مالكوم إكس، كانوا متعمقين فى الدين. أرى الدين كمنظور شامل للحياة يشمل الاقتصاد، السياسة، الأخلاق، الجماليات، وكل ذلك.

هذا هو فهمى للدين، تاريخيًا، كان الفنانون مرتبطين بالكنيسة فالكاهن والفنان كانا شخصًا واحدًا. توفى نايت إثر إصابته بسرطان الرئة فى عام ١٩٩١، تاركًا أملًا بأن الحياة تُعطى لمن يمنح من روحه، ولمن يؤمن بها، ولمن يسعى من أجل حلم يسهر لتحقيقه مهما واجه من صعوبات ومحن.أرى أن قصة حياة ايثيريدج نايت تصلح لأن تكون فيلمًا ملهمًا لكثير من الأجيال، ليس فقط للسود، ولكن لكل الجنسيات والألوان والأطياف، وإن لم تتحقق أمنيتى فى ذلك، فها أنا كتبت عن حياة شاعرٍ تعاطفت معه كثيرًا وآمنت بشعره أكثر، وترجمت له بعض قصائده لعلها توصل جزءًا من جمال كتاباته الشعرية وبهاء عقله المجروح.