الاسم الخطأ.. غلطة الجامعة الأمريكية فى حضرة نجيب محفوظ

من هذه الزاوية نستطيع الكلام عن ما أثير حول اسم رفائيل كوهين الذى اختارته الجامعة الأمريكية ضمن لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ، والزاوية التى أقصدها هى اللحظة التى يتقاطع فيها الأدب بالوجدان، والرمز بالمعنى، وهى ما غابت تمامًا عن أصحاب الجائزة، حيث اختارت الجامعة أن تغامر باسمٍ لا يحتمل المغامرة، فأن تضع اسم نجيب محفوظ، وهو من هو، فى موضع اشتباه أو التباس، يعنى أنك لم تدرك بعد أن هذا الاسم ليس جائزة فحسب، بل هو ميثاق شرف وطنى وإنسانى، وجزء من الهوية الثقافية التى تعلو على كل الحسابات الأكاديمية الباردة.
لذلك يأتى اختيار رفائيل كوهين عضوا فى لجنة التحكيم، فى زمن يشتعل فيه الضمير العربى بنار غزة، لم يكن قرارا غير موفق فحسب، بل كان قرارًا يعكس غياب الحسّ باللحظة التاريخية، فالناس اليوم لا تزن الأمور بالدرجات العلمية، بل بالرموز والمواقف، ولا تقرأ الأسماء فى سيرها الذاتية فقط، بل فى سياق الدم والصورة والنار الآتية من فلسطين.
ثم جاءت المفارقة الأشد إيلامًا عندما انبرى بعض المثقفين المدافعين عن الاختيار، متسلحين بلغة الوصاية والاستعلاء، يوبخون من تجرأ وسأل أو شكّ أو رفض، كأن الحقيقة حكر عليهم وحدهم، وكأن الشارع الثقافى ليس من حقه أن يتساءل عن رجلٍ غامض الخلفية، تم إلقاء اسمه فجأة فى قلب جائزة مصرية تحمل اسم نوبلنا العربى الأول، تلك اللغة التى استخدمها المدافعون لم تكن دفاعًا عن حرية الفكر كما يزعمون، بل كانت نوعًا من التهكم المتعالى على وعى الناس، واستهانة بوجدان يرى فى نجيب محفوظ رمزًا مصريًا لا يُمس إلا بأيد مغسولة بالضوء.
الذين انتقدوا اختيار كوهين لم يصدر انتقادهم عن كراهية أو تعصب، بل عن غيرة أصيلة على الثقافة الوطنية، وعن شعور بأن شيئًا من القداسة الأدبية يتم سحبه من بين أيديهم ببطء، هؤلاء لم يخطئوا حين قالوا إن هذا الوقت ليس هذا وقت التجارب، ولا هذا وقت الغموض. لقد عبروا، بصوتهم العفوى، عن حس شعبى دقيق يدرك أن الرموز ليست محايدة، وأن التوقيت أحيانًا يصنع المعنى، تمامًا كما يصنع الأدب اللغة.
إن الجامعة الأمريكية، بكل مكانتها، كان عليها أن تدرك أن اسم نجيب محفوظ ليس تراثًا جامعيًا لتتصرف فيه كما تشاء، بل هو تراث وطنى له جذور تمتد فى الوعى الجمعى المصرى والعربى، وكان الأجدر بها أن تلتفت إلى عشرات الأسماء المصرية والعربية القادرة على تمثيل الجائزة ببهاء فكرى وإنسانى دون أن تثير شبهة أو غموضًا أو جدلًا.
هل غاب عنهم أن لدينا قامات أدبية يحملون فى أرواحهم روح محفوظ؟ هل عجزت المؤسسة عن أن تفتح عيونها على بيتها الثقافى قبل أن تطرق أبواب الخارج؟
أما أولئك الذين تصدوا للدفاع الأعمى عن القرار، فقد نسوا أن الوطنية ليست رجعية، وأن الحذر ليس تعصبًا، وأن السؤال فى ذاته هو جوهر الحرية، من حق المصرى أن يتساءل، من حق القارئ العربى أن يشك، ومن حقنا جميعًا أن نطالب بالشفافية حين يتعلق الأمر باسم يرمز إلى ضمير الأمة، لكن المؤسف أن بعض الأصوات تعامل مع المنتقدين كأنهم رعاع يجهلون، لا كمواطنين يملكون حسًا جمعيًا رفيعا يُدرك أن الرموز لا يتم التفريط فيها حتى من باب حسن النية.
لقد بدا المشهد كله كأنه صدام بين ثقافتين ثقافة الاستعلاء الأكاديمى التى ترى الناس أرقامًا بلا ذاكرة، وثقافة الوجدان الشعبى التى ترى فى نجيب محفوظ نسيجًا من الروح المصرية، ومن المؤسف أن الجامعة اختارت أن تنحاز إلى الأولى، فخسرت تعاطف الثانية.
ليس رفائيل كوهين هو القضية، بل الغموض الذى أحاط به، واللغة المتعالية التى استخدمها بعض المدافعين عنه، والتوقيت الذى جعل من القرار خطأ استراتيجيًا فى الحس والرمزية، فالأسماء الواجب ذكرها بجانب نجيب محفوظ يجب أن تكون من طين مصر، أو على الأقل من طين لا يثير شكوكًا، ولا يجرح الشعور العام فى زمن يفيض بالألم القومى.
لقد كانت الجامعة الأمريكية فى غنى عن هذا اللغط كله، وكان يمكنها أن تحافظ على الجائزة من دون أن تُدخلها فى دوامة الأسئلة، لكنها اختارت الطريق الأصعب، وربما الأبرد، متناسية أن الأدب فى بلادنا ليس مجرد فن، بل قضية وجود.
ثم إن الذين تسابقوا إلى تبرئة كوهين من كل شبهة، لم يكتفوا بالدفاع، بل نصّبوا أنفسهم أوصياء على الوعى العام، كأنهم فوق الناس، لا معهم، رأيناهم يكتبون بحدةٍ ونبرة متعالية، يتهمون المنتقدين بالجهل والتخلف، وكأن السؤال عن رجل غامض بات جريمة فكرية، هذه الوصاية الفكرية هى الوجه الآخر للاحتكار الثقافى الذى تعبت منه مصر، ورفضه جيلًا جديدًا من القراء والكتاب الذين يرون أن المثقف الحق هو من يُصغى، لا من يعلو فوق الناس.
إن الخطاب الذى ساد بين المدافعين كان مليئًا بالمصطلحات الباردة عن «العالمية» و«الانفتاح» و«التحرر من الحساسية الزائدة»، وكأن الوطنية صارت عيبًا، وكأن الانتماء صار تهمة، لم يفهم هؤلاء أن الوطنية ليست نقيض التنوير، بل هى جذره الأصيل، فالتنوير الحقيقى لا يتجاهل الوجدان الشعبى، بل ينصت إليه ويحاوره، أما من يتحدث باسم «العقلانية» ليلغى صوت الناس، فهو ليس مثقفًا، بل هو متعال على الثقافة ذاتها.
رأينا عشرات البوستات والمنشورات الغاضبة لا، لأن الناس تكره الآخر، بل لأنها تشعر أن رمزًا مثل نجيب محفوظ لا يجب أن يتم التعامل معه بقرارات مفاجئة أو غامضة، فالجائزة باسمه ليست محصورة فى حرم جامعى مغلق، بل هى جزء من سمعة الأدب المصرى أمام العالم، وإذا اختارت الجامعة شخصية مثيرة للجدل، فلتتحمل مسئولية ردود الفعل، لا أن تلوم الجمهور الذى أراد التعبير عن حسه الوطنى.
المثقفون الذين انتقدوا القرار لم يرفضوا التعاون الثقافى، ولم يعادوا الأجنبى، لكنهم أرادوا فقط أن يقولوا انتبهوا… هناك لحظات لا يُقاس فيها الصواب بالمنطق، بل بالإحساس الجمعى، وبإيقاع الدم فى العروق، فاللحظة الراهنة ليست لحظة برود، بل لحظة يقظة وكرامة، وما يفعله الكتّاب والمثقفون المصريون حين يدافعون عن رموزهم ليس انغلاقًا، بل دفاع عن فكرة الوطن نفسه فى وجه التباس متعمد.
إن الجامعة الأمريكية اليوم مدعوة إلى مراجعة هذا القرار بجرأة، لا بخجل، لأن الجائزة التى تحمل اسم نجيب محفوظ لا يمكن أن تعيش بالغموض أو الجدل، فهى جزء من ذاكرة مصر الثقافية، ومن عمق القاهرة التى أنجبت محفوظ ونالت به نوبل، ومن الخطأ أن تتحول هذه الجائزة، التى وُلدت لتوحّد، إلى مساحة انقسام.
فالأدب لا يعيش فى المعازل الأكاديمية، بل فى الشارع الذى يقرأ وفى القلوب التى تصدق، وإذا غاب الحس الجمعى عن المؤسسات الثقافية، مات الأدب فى عيون الناس، ولذلك فإن النقد الشعبى لهذا القرار ليس تمرّدًا على المؤسسة، بل هو دفاع عن المعنى الذى تمثله الثقافة المصرية فى زمنٍ تُختبر فيه القيم والمشاعر معًا.
نجيب محفوظ ليس مجرد روائى عالمى، بل هو الضمير العربى الذى كتب عن الحارة لتصبح مرآة للإنسانية كلها. هو صاحب «بين القصرين» و«زقاق المدق» و«أولاد حارتنا»، من جعل من القاهرة رواية مفتوحة على الروح، وحين تُذكر جائزة تحمل اسمه، يجب أن يُحاط الاختيار بنفس الهالة التى كان يعيشها محفوظ من تواضع، شفافية، ووعى باللحظة.
الجامعة الأمريكية مطالبة اليوم، إن أرادت أن تحافظ على مكانتها، بأن تُعيد النظر لا فى الاسم فحسب، بل فى فلسفة الاختيار نفسها، لأن القيمة لا تُقاس بالغرباء الذين يُزينون اللجان، بل بالمبدعين الذين يحملون داخلهم روح هذا البلد.
ولعل الدرس الأكبر فى هذه الأزمة أن الثقافة ليست منطقة حياد، فكما لا يمكن للفنان أن يقف على مسافةٍ واحدة من الظلم والعدالة، لا يمكن للمؤسسة الثقافية أن تتعامل مع الرموز الوطنية بعينٍ باردة. الأدب الحقيقى لا ينفصل عن دم الناس، ولا يتعالى على مشاعرهم.
إن الذين دافعوا عن كوهين بحدة واستعلاء نسوا أن الغموض يلد الشك، وأن الشك يفتح باب الرفض، وأن الرفض ليس جريمة حين يكون الدافع حبًا فى الوطن وخوفًا على رمزه الأكبر، أما الذين انتقدوا، فهم فى جوهرهم أبناء نجيب محفوظ الحقيقيون، الذين تعلموا من أدبه أن يسألوا، وأن يحموا الرموز من التشويه، وأن يدافعوا عن المعنى حتى لو بدا سؤالهم مزعجًا للمتعالين.
سيبقى اسم نجيب محفوظ أكبر من كل جدل، وأصفى من كل شبهة، وسيبقى المصريون أوفياء لرموزهم مهما تبدلت المؤسسات وتغيّرت اللجان، فهناك رموز لا تُمسّ، لأنها ليست مجرد أسماء على جدران، بل ذاكرة تسكن القلب والعقل معًا.