الإثنين 06 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المعرض.. مرآة متحركة للهوية المصرية

حرف

من النادر أن يتجسد تاريخ أمة فى احتفال سنوى متجدد، لكن معرض القاهرة الدولى للكتاب فعل ذلك بامتياز. فمنذ خمسين عامًا وأكثر، صار المعرض أشبه بمرآة متحركة للهوية المصرية: كل دورة تعكس وجهًا جديدًا من المجتمع، من أحلام طلاب الجامعة فى سبعينيات القرن الماضى، إلى انفتاح التسعينيات، ثم الحضور الرقمى لجيل الألفية. المعرض ليس مجرد تظاهرة ثقافية تتكرر، بل هو سجل حىّ يوازى كتب التاريخ نفسها، يسجل كيف قرأ المصريون والعرب العالم، وكيف قرأ العالم القاهرة.

لعل سر فرادة هذا المعرض أنه جمع بين ما يبدو متناقضًا: فهو سوق صاخبة للكتب، لكنه أيضًا لحظة للتأمل؛ احتفالية جماهيرية ضخمة، ومع ذلك فضاء لجدالات نخبوية رصينة؛ مسرح لكتب الأطفال الملوّنة وألعابهم، وفى الوقت نفسه ساحة للجدالات الفكرية والفلسفية حول قضايا العصر. إنه مساحة التقاء نادرة، حيث تتحرك العائلة المصرية البسيطة بجوار الباحث الأكاديمى، ويجلس المثقف العربى القادم من الخليج أو المغرب بجوار زائر أوروبى جاء بدافع الفضول. هذا التداخل الاجتماعى الإنسانى هو ما جعل المعرض يتجاوز حدود «الحدث الثقافى» ليصبح جزءًا من الذاكرة الوطنية.

لكن المعضلة تكمن هنا: حين يتحول المعرض إلى عادة موسمية فحسب، فإنه يفقد طاقته التجديدية. والتحدى الحقيقى فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين ليس فى الحشد الجماهيرى وحده، بل أن يصبح المعرض مؤسسة إنتاج للمعرفة والقوة الناعمة. نحن أمام لحظة فارقة: إما أن نعيد ابتكار المعرض ليواكب روح مصر الجديدة، أو نتركه أسيرًا لمجده الماضى.

المعرض بين الذاكرة والتجديد

فى وجدان ملايين المصريين والعرب، ارتبط المعرض بذكريات شخصية لا تُنسى: أول كتاب اشتروه، أول توقيع حصلوا عليه من كاتب مفضل، أول ندوة حضروها، أو حتى أول مرة وقفوا فى طابور طويل عند بواباته فى مدينة نصر. هذه الذاكرة الشعبية ليست مجرد حنين، بل هى رأسمال ثقافى يجب الحفاظ عليه. لذلك، من المهم أن يخصص المعرض جناحًا بعنوان «ذاكرة القاهرة»، يضم صورًا أرشيفية نادرة منذ دورته الأولى عام ١٩٦٩، ومقاطع فيديو، وشهادات مصوّرة لقراء وكتّاب وطلاب. إن استعادة الذاكرة ليست فقط تكريمًا للماضى، بل تأسيس لجسر يصل الأجيال الجديدة بتاريخ طويل من الثقافة والحياة الفكرية.

تحدى المعرفة الجديد

خلنا عصرًا لم يعد فيه الكتاب الورقى وحده كافيًا. القارئ اليوم يتنقل بين الكتب الإلكترونية، والكتب الصوتية، والمكتبات الرقمية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعى التى تقدم توصيات مخصصة. هذا التحول لا يعنى نهاية الكتاب الورقى، بل يعنى اتساع آفاقه وتعدد وسائطه. ومن هنا تأتى ضرورة أن يطوّر المعرض بنيته الرقمية. إطلاق تطبيق رسمى حديث لم يعد رفاهية، بل ضرورة حيث يتيح للزائر معرفة خريطة الأجنحة، وحجز اللقاءات والندوات، والبحث عن الكتب والمؤلفين، بل وحتى القيام بجولة افتراضية لمن لا يستطيع الحضور. ويمكن ربط التطبيق بخدمة توصيل الكتب إلى المنازل طوال فترة المعرض، لتتحول تجربة الشراء إلى خبرة ممتدة تتجاوز أسوار أرض المعارض.

لكن هذه الثورة الرقمية ستظل ناقصة ما لم تُعالج العقبة الأبرز التى يعانى منها الزوار كل عام: ضعف شبكة الإنترنت فى محيط المعرض. لا يمكن لمعرض يطمح أن يكون نافذة على المستقبل أن يُدار بخدمة اتصال متقطعة تُذكّر بالماضى. لذلك يصبح من الملحّ توفير إنترنت مجانى سريع ومستقر داخل أرض المعارض، مع إنشاء شبكة خاصة بالمعرض تمتد لتغطى محيطه، والتنسيق مع وزارة الاتصالات لتقوية البنية التحتية طوال فترة الفعالية. عندها فقط تصبح التطبيقات والجولات الافتراضية وخدمات التوصيل حقيقة ملموسة، ويشعر الزائر بأن القاهرة لا تكتفى بذاكرة الكتاب، بل تمتلك أيضًا أدوات المعرفة فى القرن الحادى والعشرين.

بل ويصبح من الضرورى أن تطلق هيئة الكتاب تطبيقها الخاص المفعّل على مدار العام، بحيث يتيح شراء الكتب والدفع الإلكترونى والتعاقد مع شركات شحن لتوصيل الكتاب ورقيًا ورقميًا إلى كل بيت فى مصر وخارجها. فالثقافة اليوم تواجه طوفانًا رقميًا لا يمكن تجاهله؛ إما أن نتمثل هذه الموجة ونسايرها ونحسن توظيفها، أو نتركها تجرف الكتاب العربى بعيدًا عن جمهوره. إن مستقبل معرض القاهرة، بل ومستقبل الثقافة المصرية، يتوقف على هذه النقلة من الورقى إلى الرقمى، ليس كبديل، بل كتكامل يفتح آفاقًا جديدة للمعرفة.

أدارة بروح المشاركة لا الفوقية

لطالما ارتبط المعرض بقرارات فوقية تأتى من الإدارة وحدها، فى حين أن الثقافة فى جوهرها فعل جماعى. لذلك فإن تجديد إدارة المعرض بروح المشاركة سيمنحه طاقة جديدة. يمكن أن يبدأ الأمر بتشكيل مجلس استشارى مصغّر، يضم نقادًا وناشرين ومبدعين شبابًا، يتولون صياغة مقترحات عملية وسريعة قبل المعرض. كما يمكن إطلاق استطلاع رقمى قصير عبر وسائل التواصل الاجتماعى والموقع الرسمى، لجمع مقترحات الجمهور حول الأنشطة والكتب المفضلة، مع تخصيص جائزة لأفضل مقترح جماهيرى يتم تنفيذه فعلًا. هذا النهج سيحوّل المعرض من مؤسسة مغلقة إلى فضاء مفتوح يشارك فيه القراء فى صياغة ملامحه.

الجسور الثقافية

القاهرة ليست مدينة محلية، بل عاصمة ذات امتداد عالمى. عبر تاريخها الطويل ارتبطت ببغداد ودمشق وإسطنبول وباريس ولندن، وكانت دومًا جسرًا بين الشرق والغرب. يمكن أن يستعيد المعرض هذه الصورة من خلال جناح بعنوان «القاهرة تقرأ العالم»، يعرض وثائق ومخطوطات رقمية وخرائط ثقافية تربط القاهرة بالعواصم الأخرى. هذه المبادرة لا تعيد تقديم القاهرة فقط كعاصمة للكتاب، بل تضعها فى حوار حى مع العالم، وتؤكد أن مصر كانت وستظل نقطة التقاء حضارى لا ينقطع.

الإبداع كفعل حى

الكتاب ليس نصًا جامدًا، بل عملية إبداعية مستمرة. لذلك، فإن تخصيص فضاء داخل المعرض للإبداع الحى سيكون نقلة نوعية. تخيل كاتبًا شابًا يجلس أمام الجمهور ليكتب نصًا مباشرًا، أو فنانًا يرسم غلاف كتاب فى لحظة حية، بينما يتابع القراء العملية الإبداعية وهى تتشكل أمامهم. هذه التجارب تجعل من الكتاب حدثًا معاشًا، وتحوّل القراءة من فعل صامت إلى خبرة جماعية نابضة بالحياة. والأهم أنها تفتح المجال أمام الشباب ليشاركوا فى صناعة الثقافة لا استهلاكها فقط.

مستقبل القراءة يبدأ من الطفل

إذا أردنا أن يكون للكتاب مستقبل، فلا بد أن نزرع حبه فى قلوب الأطفال. لذلك يحتاج المعرض إلى مختبر ثقافى للأطفال، يتجاوز الفعاليات التقليدية إلى أنشطة مبتكرة. يمكن أن يضم المختبر طباعة ثلاثية الأبعاد لشخصيات من كتب الأطفال، وركنًا بعنوان «اقرأ بصوتك» حيث يسجل الطفل قراءته لنص قصير ويحصل على نسخة مسجلة يحتفظ بها. بهذه الطريقة يتحول الكتاب إلى مغامرة شخصية، ويصبح الطفل شريكًا فعليًا فى صناعة ذاكرة القراءة.

المقهى الفلسفى

لكى لا يظل المعرض مجرد سوق للكتب، لا بد أن يخصص مساحة للتفكير الفلسفى. يمكن أن يكون ذلك فى «مقهى فلسفى» يجتمع فيه كاتب شاب مع مجموعة من القراء ليناقشوا أسئلة معاصرة: هل يستطيع الذكاء الاصطناعى كتابة رواية؟ هل تتغير هوية القارئ فى عصر الشاشات؟ ما معنى الحرية فى زمن الرقمنة؟ مثل هذه النقاشات تجعل المعرض مساحة للتفكير الحر، وتُعيد للكتاب دوره كأداة للسؤال لا للإجابات الجاهزة.

ليالى الثقافة والفنون

المعرض لا ينبغى أن ينتهى مع غروب الشمس. يمكن أن تمتد أنشطته إلى المساء عبر «ليالى الثقافة والفنون»، حيث تتحول القاعات المكشوفة إلى مسرح ظل، أو فضاء للموسيقى العربية الكلاسيكية، أو شاشة لعرض روايات مصرية تحولت إلى أفلام مثل أعمال نجيب محفوظ، يتبعها نقاش نقدى مع الجمهور. هذه الأنشطة تعيد وصل الكتاب بالفنون الشعبية والرفيعة، وتمنحه حضورًا حيًا فى الحياة اليومية.

الكتاب كترند يومى

فى زمن السوشيال ميديا، حيث يتشكل الرأى العام عبر الترندات اليومية، يمكن للكتاب أن يجد مكانه من خلال مبادرة «كتاب اليوم». يُعرض كتاب واحد يوميًا على شاشات المعرض ويُقدَّم بخصم خاص، ليصبح موضوعًا متداولًا بين الناس. قد يكون الكتاب جديدًا أو قديمًا من التراث. المهم أن يتحول الكتاب إلى خبر يومى يتفاعل معه الجمهور كما يتفاعل مع الأغانى والمسلسلات.

دروس من معارض العالم

المعارض الكبرى حول العالم تقدم دروسًا مهمة. فى فرانكفورت هناك جناح لدولة ضيف شرف ومركز مخصص لصفقات النشر، ما يفتح أبواب الترجمة والتوزيع. فى باريس تُنظم لقاءات بين المؤلفين وطلاب المدارس لتعزيز عادة القراءة. فى تورينو يُخصص جناح للكوميكس والـGraphic Novels يجذب الشباب. فى المغرب تبرز تجربة ركن «الحكايات» وركن «الكتاب والطبخ» الذى يمزج الثقافة بالحياة اليومية. وفى الشارقة وأبوظبى نجد استثمارًا بارعًا فى البث المباشر والكتب الرقمية. كلها تجارب يمكن أن تلهم القاهرة لتطوير نسختها الخاصة بما يليق بتاريخها وريادتها.

مقترحات خلاقة للقاهرة 

يمكن أن يقدم المعرض أيضًا أفكارًا مبتكرة خاصة به: جناح على شكل أتوبيس قديم يضم مكتبة مفتوحة للقراءة والاطلاع، ركن «اقرأ وشارك» حيث يكتب القارئ إهداءً فى كتاب ويُعرض لاحقًا، فضاءات لعروض التنورة والموسيقى الشعبية بعنوان «الكتاب فى الموالد»، قاعة للتجارب التكنولوجية بالواقع الافتراضى والواقع المعزز حيث يعيش الزائر مشهدًا من رواية، منصة «مصر تترجم» لعرض أحدث الترجمات المصرية إلى لغات أجنبية، وجائزة يومية للأطفال بعنوان «وسام القارئ الصغير» تشجعهم على القراءة العلنية.

الإعلام من المحلية إلى العالمية

لا يمكن لأى معرض أن ينجح دون استراتيجية إعلامية ذكية. يجب أن يكون للمعرض شعار موحد مثل #القاهرة_تقرأ، مع حملة رقمية تبدأ قبل الافتتاح بأسابيع قليلة، تضم عدًا تنازليًا وفيديوهات قصيرة مع مؤلفين وقراء. داخل المعرض يمكن إنشاء استديو بث حى على شكل مكتبة صغيرة تُنشر لقاءاته مباشرة على «يوتيوب» و«فيسبوك». ويجب التركيز على القصص الإنسانية: قارئ يشترى كتابه الأول، كاتب ينشر مجموعته الأولى، أسرة تعتبر المعرض رحلة سنوية. هذه القصص أكثر تأثيرًا من أى خطاب رسمى، وتجعل المعرض حدثًا يتابعه الناس يوميًا.

أثر متوقع ومردود وطنى

تطبيق هذه الرؤية سيحقق أثرًا مضاعفًا: تنويع الجمهور وجذب الأطفال والعائلات والشباب، تحويل المعرض إلى منصة استثمارية فى حقوق الترجمة والكتب الرقمية، إحياء الذاكرة الثقافية لمصر وربط الماضى بالحاضر، وتصدير صورة القاهرة كعاصمة الثقافة العربية عالميًا. الأهم أن المعرض سيصبح جزءًا من المشروع الوطنى لمصر الجديدة، حيث الثقافة ليست مجرد نشاط، بل أداة لصناعة القوة الناعمة وتعزيز الهوية.

من المعرض إلى الاقتصاد الثقافى

معرض القاهرة الدولى للكتاب لا ينبغى أن يظل مجرد احتفالية سنوية، بل يجب أن يُنظر إليه كفرصة لبناء اقتصاد ثقافى متكامل. العالم اليوم لم يعد يتعامل مع الثقافة باعتبارها ترفًا، بل كقطاع إنتاجى يولّد عوائد هائلة إذا أُحسن تنظيمه. ولعل التجارب العالمية تؤكد أن الإدارة الرشيدة للفعاليات والمتاحف والمعارض قادرة على تحويلها إلى مؤسسات اقتصادية راسخة، تسهم فى الدخل القومى وتدعم القوة الناعمة للدولة.

ولكى يتحقق ذلك، فالمطلوب إدارة احترافية تمتلك لوائح واضحة وأنظمة تشغيل وصيانة وتسويق، وتُحيط بالمعرض منظومة من الصناعات الثقافية الصغيرة: من الطباعة والنشر والتصميم، إلى الحرف اليدوية والمنتجات التراثية والتطبيقات الرقمية. هذه الصناعات المساندة يمكن أن توفر مئات فرص العمل للشباب، وتحوّل المعرض إلى منصة إنتاج متصلة لا مجرد موسم عابر.

النموذج البريطانى مثلًا يوضح كيف يمكن لقطعة أثرية واحدة كحجر رشيد أن تتحول إلى مصدر دخل اقتصادى وثقافى، إذ أسهمت مع بقية الأنشطة فى جعل المتحف البريطانى واحدًا من أكبر مصادر العوائد الثقافية فى أوروبا. وإذا كانت مصر تملك نصف آثار العالم المادية، فمن باب أولى أن تُعيد صياغة إدارة معارضها ومتاحفها لتدر عوائد بالمليارات، وتغيّر خريطة الاقتصاد الثقافى عربيًا وعالميًا.

الفاهرة كما نريدها

معرض القاهرة الدولى للكتاب ليس مجرد حدث ثقافى عابر، بل مؤسسة وطنية كبرى قادرة على إعادة صياغة المشهد الثقافى فى مصر والمنطقة. نحن أمام فرصة تاريخية، فى ظل قيادة سياسية تدرك قيمة الثقافة، أن نعيد صياغة هذا المعرض ليكون تجربة وطنية جامعة تستعيد ذاكرة الأجيال وتفتح أبواب المستقبل. إننى كقارئ ومثقف أحلم بمعرض مختلف، نابض بالحياة، قادر على أن يزاوج بين التراث والحداثة، ويعيد للقاهرة دورها بوصفها ذاكرة الكتاب ومستقبل المعرفة.