رواية قبو الوراق
يقولون إنَّ الظلَّ لا يظهر إلا بوجود النور، لكن هناك ظلالًا تمشى بلا أجساد، تُثقل الأرضَ وتُربك العيون. وحين يتقاطع ظلٌّ بظلّ، تولد فجوةٌ فى الهواء، فجوةٌ يسقط منها اسمٌ آخر إلى العدم. كأنّ العالمَ يختنق لحظةً، ثم يزفر اسمًا من أسمائه. لا أحدَ يعرف أين تذهب الأسماء حين تسقط، هل تذوب فى الأرض مثل دمٍ قديم؟ أم تصعدُ فى طبقات السماء حتى تختفى بين النجوم؟ كلّ ما يُرى هو البردُ المفاجئ، والغرفة التى تضيق كصدرٍ أُفرغ من أنفاسه، ثم صمتٌ طويل، وصوتُ محوٍ لا يسمعه إلا مَن اقترب من حافة العدم.
المشهد السابع
رُبى
«رُبى» لم تكن تعرف من أين جاء شغفُها بالأسماء. منذ طفولتها، كانت تنام على وقع الأصوات التى يتهجّاها الآخرون، ثم تُعيدها فى الحلم كأنها جوقة منسية.
فى دفاتر العائلة، كشوف المدارس، شهادات الميلاد الممزّقة كانت تتلصص على سجلات المواليد تبحث عن اسمٍ واحدٍ لم تجده أبدًا. اسمٍ لا تذكره، لكنها متأكدة أنه ضاع. سقط من السجل كما يسقط حجر من جدار قديم. وكانت تنام وهى تُرتّل أسماء بصوت خافت، كما لو كانت تُحصى الغائبين.
كانت تؤمن أن كل اسم يحمل نغمة، وأن حذف الاسم يُشبه كسر نوتة موسيقية من لحن الكون. وحين تسمع اسمًا يلفظه أحدهم، كانت ترى خطًا رفيعًا من الضوء يمرّ بين فم القائل وصدر المُسمّى.
لكنّها أيضًا رأت الخيوط تنقطع فجأةً فى وجوهٍ كثيرة، كأن الاسم انسحب منها وأبقاها قشرةً بلا روح.
فى يومٍ ما، دخلت مبنى الأرشيف القديم.. ذلك المكان الذى لا يدخله أحدٌ إلا بختم. هى لم تحمل ختمًا، لكنها دخلت لأن الباب كان نصف مفتوح. الغرفة تفوح منها رائحة الغبار الذى يشبه عظامًا مسحوقة.
كان هناك رجلٌ بملامحٍ رمادية همس لها:
- الأسماء تُنبت أرجلًا فى الليل.. وتمشى. وكلما ناديتِ اسمًا، مات حرف.
لم تفهم، لكنها لمحت بطاقة معلّقة على صدره.. مكتوبًا عليها «مرجان». وحين رفعت عينيها لتسأله، لم يكن هناك.
فى الأرشيف، بدأت «رُبى» تُفتّش عن اسمها المفقود.
بين الملفات الممزقة رأت أوراقًا مثقوبة كأن أحدهم قصّ الأسماء بالمقص. وصفحات بيضاء مرقّمة، كأن الحبر انسحب منها طواعية.
ووجدت ورقة واحدة مكتوبًا فيها بخطٍ غريب: «ما يُحذَفُ لا يموت.. بل ينتظر مَن يذكره».
خرجت «رُبى»، والاسم فى صدرها صار أثقل.. كأنها لا تملكه بالكامل. وفى الشارع، لمحته.. «مرجان». كان واقفًا أمام متجر مغلق. نفس الملامح الرمادية، لكنه كان يبتسم، وكأنّه يعرف أنها ستراه. وقبل أن تناديه، اختفى. كسرابٍ على طريقٍ صحراوى.
مرجان
كان مرجان طفلًا صغيرًا.. لا يملك اسمًا. ولم يكن يعرف أن هذا عيب.. لأنه كان يظن أن الأسماء تخص الآخرين فقط.
فى إحدى ليالى الحذوفة القديمة، تسلل فى الأزقة، باحثًا عن بقايا خبز، حين سمع صوتًا ليس صوتًا.. بل فراغ يمشى. كان الفراغ يمشى فى الطرقات محدثًا أصواتًا مجوفة. اختبأ خلف باب صدئ.. ورأى رجلًا مغطى بالظلال، يمسح الحروف من الجدران بأصابعه. كلما محا اسمًا تقلّص المكان، وكلما محا حرفًا انطفأ لون.
لم يهرب «مرجان» ولم يصرخ. بل اقترب أكثر من الرجل. أراد أن يسأل:
- ما تفعل؟
لكن، لم يعرف كيف ينطق السؤال؛ لأنه بلا اسم. استدار الرجلُ. وكان بلا وجه. عينان معتمتان، وفم مغلق كخيط. لم يتكلم، لكن أشار إلى صدر «مرجان»، ثم إلى الجدار. ثم رحل. كان لا يمشى، بل يذوب. ذاب فى العتمة.
فى الصباح، ذهب «مرجان» إلى السوق.. ورأى كل الناس قد نُسيت أسماؤهم. ومنذ ذلك اليوم، أقسم الطفل ألا يطلب اسمًا، بل أن يجمع الأسماء، ويتاجر بها، ويحرسها. وصار الوحيد الذى لا يُمحى، لأنه لم يُكتب أصلًا.
وفى كل دورة حذف، كان يبحث عن الرجل الذى لا يتكلم؛ ليفهم:
هل هو إنسان نُسى، أم هو النسيان وقد صار وجهًا؟
قيل فى الأثر:
مَن حمل اسمًا أثقله، كلّما ناداه الناس تقشّر من روحه حرفٌ. ومن فقد اسمه هان، صار ظلًا يذوب مع أول ريح. أما الذى وُلد بلا اسم، فلا يُمحى.. لأنه لم يُكتب. ذاك هو السرّ الذى يُربك الحُفّاظ: إن المجهول أخطرُ من المعلوم، وأن اللا- اسم أقوى من كل الأسماء، وأعسر. الأسماءُ حبّاتٌ فى سبحةٍ لا مرئية، كلما سقطت حبّةٌ انفرط الذِّكر، وكلما اكتمل العددُ، عاد الكون ليتلو سرَّه من جديد.




