قصة قصيرة
جدارٌ من الجير الرطب.. كيف يرى الأطفال الله؟

- ظلت رائحةُ الجير الرطب بمياه المطر عالقة فى أنف «فرح» كلما أمطرتِ السماءُ
جلستِ الطفلةُ على مقعدها تُحدِّق أمامها وترسم. كانت المعلمةُ ترسمُ على السبورة بعضَ الخطوط الرأسية والأفقية والملتوية والدوائر. ومع الرسم تنطقُ بعض النغمات: أ ر ن ب. ألفون، راءون، نونون، باءون.
الخطوط تُسمى: «حروفًا»، هكذا قالت المعلمة. والنغماتُ: تجرى وتتنطط وتأكل وتنام وتضحك وتبكى.
حروفٌ مفرّطة إن تشابكت تصيرُ كائنًا حيًّا يقفز ويقف على قدميه ويمسك بيديه جزرةً، يقضمُها بأسنانه الأمامية البيضاء الكبيرة. بجوار الحروف، رسمتِ المعلمةُ صورة الأرنب على السبورة. مسحتِ الحروفَ فاختفى الأرنبُ واختفت الجزرة. بدأت المعلمةُ ترسم حروفًا أخرى وترسمُ صورًا جديدة.
الحروفُ صارت: «قطة، أسد، حصان، نملة، بابا، ماما، كتاب، قلم».
ماما وبابا فى البيت، والأسدُ لا يأكلُ الأرنب فى كتاب المدرسة. لكن المعلمة قالت إن الأسد يأكل الأرنب فى الغابة.
اليومَ، تعلمتِ البنتُ شيئًا جديدًا. الحروفُ ترسم الحيوانات والبشر والبيوت. فكّرت «فرح» فى شىء سوف تسأل عنه أمّها حين تعود إلى البيت.
شىء جميل تريد أن ترسمه بالحروف وتراه متجسدًا فى صورة على السبورة كما شاهدت اليوم فى حصة القراءة.
راحت «فرح» تعد الدقائقَ والساعاتِ والحصص. تتعجلُ العودة إلى البيت حتى تسألَ أمَّها عن الصورة التى خبأتها فى عقلها، لئلا يراها أصحابُها فى الفصل، ولا المعلمةُ التى تزعقُ طول النهار وتعاقبُ الأطفالَ بالضرب على أصابعهم بالمسطرة إن أضاعوا القلم أو أخطأوا فى تذكّر الخطوط التى ترسم الصورَ.
جرسُ الفسحة يدقُّ. ركضت «فرح» إلى الحوش لكى تلعب مع رفاقها. شاهدت قطة تتسلق سور المدرسة فنادت عليها:
- يا قطّة. أنا أعرف الخطوط اللى بترسمك. قافون طاءون تاءون.
نظرت إليها القطة ونزلت من السور حينما لمحتْ الساندويتش فى يد «فرح». أعطتها «فرح» قطعة منه وسألتها:
- تعرفى يا قطة الخطوط اللى بترسمنى؟
أجابت القطة بمواء رفيع اعتبرته «فرح» علامة النفى.
قالت «فرح»:
- سهل خالص: فاءون، راءون، حاءون.
اقتربت منها القطة وتمسّحت فى ساقيها. فربتت «فرح» على ظهرها وتركت لها بقية الشطيرة حين دق الجرس. عادت إلى الفصل، تعدُّ الدقائق والساعات والحصص، تتعجّل العودةَ إلى البيت لكى ترسم الصورة الجميلة؛ بعدما تعرف من أمها الحروف التى ترسمها.
فى البيت ركضت «فرح» إلى أمها وسألت:
- ماما.. باعرف أرسم بالحروف قطة وأسد وأرنب وماما وبابا.
- شطورة يا فرح. اكتبى الواجب كله عشان تكبرى وتبقى دكتورة جميلة.
- ماما إزاى أكتب: ربنا؟
- الله: «ا ل ل هـ». ربنا: «ر ب ن ا».
دوّنت «فرح» الحروف فى كراسة الواجب. وراحت تعدُّ الدقائق والساعات ولم تستطع إغماضَ عينيها حتى الصباح. مكثتْ تنظرُ إلى سقف الغرفة وهى تبتسم وتتمتم بكلمات غير مسموعة، وقلبُها يرقص.
فى اليوم التالى انتظرت حصةَ القراءة بفروغ صبر. دخلت المعلمةُ، نظرت إلى السبورة فوجدت الحروف المكتوبة بخط طفولى: «ر ب ن ا».
- مين كتب على السبورة يا ولاد؟
- أنا يا ميس. «قالتها بفخر وهى تقفز من المقعد».
- أنتِ يا فرح؟ طيب شطورة. اقعدى. افتحوا كتاب القراءة وطلعوا كراسة الواجب.
- من فضلك يا ميس ارسمى الصورة جنب الكلمة.
- صورة إيه؟
- صورة ربنا.
- بتقولى إيه يا فرح؟! اسكتى وطلعى الكتاب والكراسة!
- عاوزة أشوف صورة ربنا. أنا باعرف حروف ربنا وعاوزة أشوفه عشان بحبه.
-حرام يا بنت الكلام ده! ها تروحى النار. اسكتى وطلعى الكتاب والكراسة وما سمعش صوتك النهارده خالص.
بدأت «فرح» تبكى ورفضت الاستجابة لأوامر المعلمة. خبأت رأسها فى ذراعيها فوق الديسك. ذهبت إليها المعلمة وجذبتها من شعرها لترفع رأسها فوجدت وجهها غارقًا فى الدموع. صرخت فيها أن تخرس، فصرخت الطفلة فى وجهها فى تحدٍّ طفولى برىء:
- ما ليش دعوة عاوزه أشوف ربنا. أنا باحبه وعاوزه أكلمه وأقول له على حاجات كتير. وهو كمان بيحبنى!
أمسكت المعلمة بالطفلة من ظهر المريول، وحملتها مثل زكيبة صغيرة، وذهبت إلى باب الفصل فتحته وألقت بها على الأرض، وهى تهتفُ فى توعّد وحزم.
- شايفة الحيطة اللى هناك دى؟ تروحى وتحطى وشك فيها وإيديكى مرفوعة لفوق، لغاية ميعاد المِرْوَاح. وإياكى تتحركى من هناك».
جرجرتِ الطفلةُ قدميها الغائصتين فى رمل الفناء الذى صار وحلًا بسبب الأمطار. وقفت أمام الجدار الجيرى، وذراعاها مشرعتان للأعلى، وعيناها غائمتان بالدموع.
ظلت رائحةُ الجير الرطب بمياه المطر عالقة فى أنف «فرح» كلما أمطرتِ السماءُ، وحتى كبُرت وصارت أمًّا لأطفال صغار. وظلت رائحة الجير الرطب تلاحقها كلما أمطرت السماء، تذكّرها بأنها كانت يومًا طفلة تبحث عن وجه الله.