الخميس 04 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

بـ السلام إحنا بدينا

حرف

حضرتك عارف إنى مواليد السبعينيات، لـ ذلك وأنا طفل كنت بـ أشوف كتير فى التليفزيون أغنية «بـ السلام إحنا بدينا» لـ أم كلثوم، بـ أقول «بـ أشوف» مش «بـ أسمع» لـ إن الغنوة وقتها كانت بـ تتذاع مصحوبة بـ صور ومقاطع فيديو لـ السادات خاصة بـ السلام مع إسرائيل: زيارة القدس، كامب ديفيد، إلخ إلخ.

كـ عيل صغير لسه ما يعرفش حاجة، استقر فى ذهنى إن الست دى «ثومة» غنت الغنوة دى لـ الرئيس دا «السادات» فى الحدث دا «السلام» لكن طبعًا يدوب بقيت عشرة حداشر سنة عرفت إنه هذا مستحيل، إذ إنه الست توفاها الله قبل ما السادات يجيب سيرة أى سلام مع إسرائيل.

ما كانش متاح وقتها إنترنت ولا أرشيف ولا أى حاجة تعرفنى الغنوة دى بتاعة إيه غير إنك تسأل الكبار، ولما سألت قالوا لى إنها غنتها لـ عبدالناصر، وإنه فيها مقطع محذوف من النسخة اللى سمعناها فى طفولتنا بـ تذكر اسم ناصر صراحة، وطبعًا ما عرفتش وقتها أوصل لـ الأصل، ثم إنه فضل السؤال: سلام إيه اللى بـ تغنى له الست.

كبرت شوية، وبدأت أسأل ناس أكتر خارج نطاق العائلة، فـ اتقال لى إنها اتغنت أيام مؤتمر باندونج ١٩٥٥، أهى كدا معقولة شوية! بـ اعتبار يعنى إنه باندونج كان بذرة حركة عدم الانحياز، فـ منطقى إنه نتكلم عن «السلام». 

إنما ربك والحق، فضل فى نفسى شىء من هذا، إذ إنه منطق الغنوة ومنطوقها بعيد عن أجواء باندونج، اللى كانت حماسية أكتر وفيها صوت المطالبة بـ الاستقلال أعلى من السلام، ثم إنه صعب وقتها الست تغنى من ألحان الموجى اللى كان لسه بادئ يتعرف مع حليم.

كبرت شوية كمان، وبقيت أطّلع على مصادر من هنا وهناك، فـ لقيت اللى بـ يقول إنها اتغنت ١٩٥٦ مش ١٩٥٥، لكن دا تقريبًا كان بـ النسبة لى مستحيل، وسط حرب السويس والعدوان الثلاثى نغنى غنوة كدا، ولقيت ناس تانية بـ تقول إنها إنتاج ١٩٥٨، ودا كمان صعب علشان دى سنة الوحدة مع سوريا.

فيييين، لما بدأت رحلتى مع أرشيف الجرايد والمجلات، ورجلى أخدت على دار الكتب، عرفت ملابسات الغنوة، والواقع إنها واكبت حدث ضخم وعظيم ومهم سقط من ذاكرتنا بـ فعل فاعل.

اللى حصل إنه سنة ١٩٦٠ كانت الدورة الـ١٥ لـ الأمم المتحدة، وقتها المنظمة الدولية فى عزها وعنفوانها، ما كانتش هيئة لـ إعراب القلق، وكان ليها دور فعال وكلمة مسموعة، وكان همرشولد السكرتير العام لها زيه زى أى رئيس جمهورية كبرى أو قائد ويمكن أكتر، بـ التالى الدورة ما كانتش حدث روتينى، والدورة دى بـ الذات كانت تاريخية.. ليه؟

الدورة دى حضرها أيزنهاور بـ نفسه، وخروشوف كمان وماكميلان رئيس الحكومة البريطانية، بـ التالى اللى جى من بقية العالم هم الرؤساء، محدش يعنى هـ يبعت وزير فى مناسبة حاضرها الأسماء اللى تخض دى.

المهم بـ النسبة لى هنا، كيف تعامل العالم مع مشاركة رئيس الجمهورية العربية المتحدة فى هذا الحدث، والواقع إنى مش هـ أتعامل من خلال الإعلام المصرى أو العربى وقتها، إنما أدعوك لـ مشاهدة فيلم تسجيلى أمريكى اتعامل وقتها، وكان مخصص لـ مشاركة ناصر فقط لـ الحدث، مش لـ الدورة كـ كل.

خلال أيام المؤتمر اللى طالت، برز جمال عبدالناصر بـ اعتباره «المتحدث بـ اسم الحياديين» و«زعيم العرب» ليس فقط كـ رئيس لـ الجمهورية العربية المتحدة «اللى هى مصر وسوريا»، وفى مقر إقامة الوفد المصرى حصل إنه وفود العالم أجمع حرصت على لقاء ناصر.

أيزنهاور راح له «ودى أول وآخر مرة يتقابلوا» وقابل خروشوف، وحتى ماكميلان راح لـ ناصر «رغم توتر العلاقات مع بريطانيا بعد العدوان الثلاثى»، إضافة طبعًا لـ نهرو وتيتو وكاسترو ونكروما وكل بقية الشلة التاريخية دى.

حضور ناصر اللافت وتعامل الرؤساء معه بـ اعتباره قائد الطريق التالت بين المعسكر الشرقى والغربى، خلّى خطابه فى الأمم المتحدة حدث دولى مهم، وكان موضوع خطابه عن موضوع واحد هو «السلام». وماذا ينبغى لـ سيادة السلام وأولها بـ الطبع عودة الحقوق لـ أصحابها.

الخطاب دا ناصر ألقاه بـ اللغة العربية، ودا خلّى الاهتمام بـ اللغة دى يزيد، وكان له أصداء عالمية بـ جد «مش زى ما اتعودنا نقول على أى كلمة تانية لـ أى رئيس عندنا بـ من فيهم ناصر نفسه».

لما رجع ناصر القاهرة استقبله المشير فى المطار وسط حضور عشرات الآلاف من المواطنين رافعين يفط: «عاش محطم الاستعمار»، وطول الطريق من المطار لـ البيت كانت الناس فى الشوارع بـ الآلاف وهو بـ يمر وسطهم فى عربية مكشوفة، ثم إنه التليفزيون العربى أنتج فيديو كليب لـ غنوة ثومة اللى صاحبت الحدث، واللى كتبها بيرم ولحنها الموجى. الست واقفة تغنى مع لقطات من المؤتمر والاستقبال الجماهيرى لـ «البطل».

إييييه! والله كان حدث عظيم جدًا، وكان ممكن نستغل هذا الزخم ونبنى عليه ونعمل دولة، بس يالا، اللى حصل حصل.