الثلاثاء 02 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

مكتبتي..

سرقوا الصندوق يا محمد

سيد درويش
سيد درويش

تخيل يا مواطن إنه سنة ١٩١٧، مصر كان عندها حياة صحفية حافلة، عشرات من الجرايد والمجلات بـ تتطبع والمكن بـ يدور والحبر يسيل ومئات الآلاف من القراء «على قلة سكان مصر وقتها» بـ يتابعوا كتابهم المفضلين وصحفهم اللى بـ تعبر عنهم.

واحدة من الجرايد اللى كانت موجودة وقتها جريدة اسمها «السيف»، لـ صاحبها ومديرها حسين على، وكان بـ يكتب فيها حسين شفيق المصرى، وبـ الطبع ما دام شفيق المصرى يعنى هـ تهتم بـ الأشعار والأزجال وما إلى ذلك، كمان لغتها العامة كانت اللغة المصرية، ومن الزجالين اللى كانت الجريدة بـ تنشر لهم شاعر اسمه بديع خيرى «أيون بديع البديع».

واحد من قراء هذه الجريدة الدائمين كان الموسيقار العظيم سيد درويش، عجبته أزجال الشاعر المذكور، اللى ما كانش لسه يعرفه ولا حتى شافه، ومن الأزجال اللى علقت مع سيد زجل نشره بديع بـ عنوان «دنجى دنجى».

الجريدة كانت ضد الاحتلال الإنجليزى، ودا حس مبكر شويتين قبل سنة ١٩١٩، وبديع كان بـ ينشر فى إطار خط الجريدة، ووقتها كان فيه موضوع مطروح بـ قوة هو إنه الاحتلال الإنجليزى بـ يتعمد فصل مصر عن السودان، وبـ يخلق بين شعبى وادى النيل «عداوات». 

خلينا هنا نلاحظ إنه ما كانش لسه مطروح وقتها فكرة «الدولة» المستقلة وشكلها وحدودها فـ القصة مش إنه الإنجليز بـ يروجوا إلى إنه مصر دولة مستقلة والسودان دولة أخرى مستقلة، دا موضوع تانى يطول الكلام فيه، إنما كانت بـ تروج لـ عداوات بين الشعبين من خلال مبدأ «فرق تسد» الشهير، ودا اللى كان شاغل بديع فى الزجلية مش الشق السياسى لـ الموضوع.

الزجل بـ يقول: 

قالت لى خالتى أم أحمد 

كلماية فى مثلاية «كلمة فى مثل»

سرقوا الصندوق يا محمد

لكن مفتاحه معايا

والصندوق هنا هو السودان، يعنى الاحتلال سرق الصندوق، لكن مش هـ يقدر يعمل بيه حاجة لـ إن مفتاحه معايا أنا «المفتاح هو نهر النيل ذاته».

وبـ يقول كمان: 

يا مصيبة وجانى من بدرى

زى الصاروخ فى ودانى

مافيش حاجة اسمه مصرى

ولا حاجة اسمه سودانى

بحر النيل راسه فى ناحية

رجليه فى الناحية التانى

فوقانى يروحوا فى داهية

إذا كان سيبوا التحتانى

وهكذا من المشاعر اللى بـ تأكد وحدة وادى النيل «مرة تانية مش بـ المعنى السياسى» إنما بـ معنى إنه فيه على الأقل تكامل بين الشعبين.

سيد درويش عجبته الزجلية وأفكارها، فـ قرر يعمل لها لحن، وكـ العادة عمل حاجة سابقة كتير لـ عصرها وأوانها، يعنى عامل اللحن من النهاوند ودا مقام مطروق عادى فى المزيكا اللى بـ نسميها الشرقى، لكن على إيقاع سودانى اسمه «الدلوكة» لـ درجة إنك تحس بـ شكل ما إنه الميلودى نفسه سودانى، والإيقاع دا فضلًا عن كونه سودانى فـ هو حركى جدًا خالق حيوية غريب جدًا تلاقيها فى ذلك الزمان.

درويش لحن الزجلية مش فى إطار حاجة معينة، لـ نفسه كدا، ثم إنه بعد سنة تقريبًا قابل بديع خيرى وبدءوا سوا مشوار المسرح العبقرى اللى اشتركوا فى تقديمه، ثم إنهم قدموا الغنوة على المسرح فى مسرحية الطاحونة الحمرا مع فرقة عكاشة، ثم انطبعت على إسطوانات مطلع العشرينات مع شركة مشيان، تحديدًا ١٩٢٢.

بعدها غناها ناس كتير، لكن تقديرى إنه أفضل نسخة ممكن تسمعها هى اللى غناها بعدين سيد مصطفى، الملحن اللى حفظ كتير من تراث سيد درويش، ولو مش عارف سيد فـ هو سواق الحنطور فى الصورة الغنائية «نزهة» الشهيرة بـ اسم «الجوز الخيل والعربية».