السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فاطمة ناعوت تكتب: بابٌ من صفيح

بابٌ من صفيح
بابٌ من صفيح

نظرتْ طويلًا إلى باب الشقّة الخشبى، وأغمضت عينيها فجأةً حتى تقبضا على الباب داخلهما، فلا يهرب. ثم فتحتْ عينيها على اتساعهما، ومشت نحو الباب بحذرٍ حتى تتأكدَ من إحكام إغلاقه. هى الآن فى أمان من العالم الخارجى القاسى قسوةَ الضباع على جيفة. رأتْ نفسَها تتجوّلُ بين غرف بيتها الدافئ كما بطلات السينما. تُسدلُ ستائرَ النوافذ، بعد إغلاق مصاريعها. تنسِّقُ الزهورَ فى المزهريات. تُعدِّل من وضع السجادة الصوفية على الأرضية الخشبية الدافئة. تفرشُ سريرَها الواسع بملاءة وردية ناعمة، وترتِّبُ الوسائدَ الرخوة التى سوف تحتضنُ رأسَها الخائفَ حينما يهبطُ الليلُ من السماء. وضعت رأسَها فغرقت من فورها فى النوم كأنما سقطت فى بئر عميقة لا قرار لها. بعد برهةٍ صحت على ركلاتٍ تضربُ بطنَها، ولُعاب لزج يُغطى وجهَها ورقبتَها، ورائحة عطِنة تعرفها جيدًا، تملأ أنفَها. فتحت عينيها فى فزع لترى أصدقاءها الكلابَ الأربعة التى لا تتركها تهنأ بغفوة فى ليل أو فى نهار. بحثت بعينيها عن الكلبة الخامسة التى كانت على وشكِ الوضع، فوجدتها منزوية فى ركن العِشّة وقد وضعت على الأرض حملَها، واستراحت. كانت الكلبةُ تلعقُ جراءها الصغيرة بلسانها حتى تنظّفها من دم النفاس. فرحَتِ الفتاةُ وراحت تربتُ على ظهر الكلبة الأمّ ورأسها، ووعدتها ببعض الحليب والعظام إن أكرمها اللهُ بجنيه أو جنيهين من جيوب أصحاب السيارات. شطفتْ البنتُ وجهَها من ماء الزير، وجالت عيناها صوب جدران العشّة الصغيرة التى كلما شيّدتها، أسقطتها الأمطارُ والرياح ومعاركُ الكلاب والقطط والفئران وبنات آوى. أزاحتْ عنها الكلابَ التى تحذو حذوَها كلما تحركت، ثم بدأت تُرتِّبُ ألواح الورق المقوّى الساقطة التى اقتطعتها من كراتين الشيبس الملقاةِ فى صناديق القمامة، وراحت تثبّت عيدانَ الخوص فى السقف الذى غطته بكيس المشمّع المهترئ الذى منحه لها البقالُ بعدما نال من جسدها ما نال، فى مخزن الدكان المعتم. لكن الرجل البخيل ضنَّ عليها بصفيحة الجبن الدمياطى؛ رغم دموعها المتوسّلة أن «يُشحّتها» لها بعدما تفرغ؛ حتى تقطّعها وتفردها وتصنع منها بابًا من الصفيح لعشّتها، تحميها من الكلاب الناهشة التى تغزو الخرابة بين الحين والحين، ولا يقوى على حمايتها منها أصدقاؤها الكلابُ الخمسة. «انتى عارفة الصفيحة دى بكام يا بنت الكلب؟ غورى من هنا. كفاية عليكى لوح المشمّع خسارة فى جتتك». هكذا انتهرها «الحاج جمعة» البقال وهو يعدّل فوضى ملابسه، وهى تحاول أن تسرقَ صفيحة الجبن الفارغة. كان حلمُ حياتها يتمحورُ حول بابٍ من الصفيح لعشتها. لكن الصفيحَ غال، وسترَ العوراتِ أغلى.

أغمضتْ البنتُ عينيها طمعًا فى أن تعودَ إلى الحلم الرغد الذى رسم لها بيتًا له بابٌ متينٌ من الخشب، وجدرانٌ حقيقية من الطوب، وسقفٌ حقيقى من الأسمنت، وسريرٌ ووسائدُ ومقاعدُ... ولكن الحُلمَ كما الفرح، لا يأتى حينما ندعوه، بل حين يعِنُّ له أن يأتى.

كانت تكره الشتاءَ لأنه يهدم عشّتها بأمطاره. وتكره الصيفَ لأنه يحرق سقفَها البلاستيكىَ بشمسه اللاهبة. وتكره الخريفَ لأن رياحَه تنزعُ العصيانَ التى تتكئ عليها أعمدةُ عُشّتها. وتكره الربيعَ لأن خماسينه تملأ عينيها بالرمال ويخزُ جسمَها بلسعات البعوض وعُشتَها بالزواحف والقوارض.

عُشّتها لا تصمدُ يومين أمام رياح ومطر وصقيع، فتعيدُ بناءها فى اليوم الثالث ليرقد فيها جسدُها المجهدُ بعد يوم شاقٍّ تتقافز فيه بين السيارات بفوطة متّسخة ووجه يغتصبُ الابتسام. تهمُّ بتنظيف زجاج سيارة، وهى موقنة من أنها لن تتمَّ المهمة. إذ يوقفُها السائقُ بإشارة غاضبة من أصبعه قبل أن تمتد يدُها إلى سيارته، خوفًا من فوطتها القذرة. ولكى تمضى دون لجاجة؛ يمنحها قروشًا بالكاد تكفى لشَقّة فول وشقة طعمية تلتهمُهما بـ نَهَمٍ فى ثوان قليلة هى وأصدقاؤها الكلاب. ثم تقضى بقية يومها فى الركض واللعب مع أصدقائها الكلاب الخمسة فى الخرابة التى شيدت فيها كوخها الآيل دائمًا للسقوط.

فى منتصف ليلة صيفية رطبة، استيقظتْ الفتاةُ على صوت نباح وعويل وأنين وهدد. مجموعة من الكلاب الضالة التى تأتى بين الحين والحين من الخرابة البعيدة لتتطفل على خرابتهم، قامت بعملية غزو جديدة لحرمهم الآمن. دخلت الكلابُ الغازية مع أصدقائها الكلاب الأربعة فى عراك دموى حادّ، فجُرح منها ما جُرح، وهرب ما هرب، وجنّ جنونُ ما جُنَّ جنونُه. وعُقر بطنُ الكلبة الأمُّ التى لم تبرأ بعدُ من نِفاسها. راحت الفتاةُ تقذفُ الكلابَ الغازية بالطوب وقطع الزجاج المهشّمة، لكن الكلابَ لم تزدد إلا جنونًا وعقرتْ ساق الصبية بأنيابها ومخالبها. تحاملتُ الكلبةُ الأمُّ على جراحها وجرجرت خيوطَ نزفها وحملت صغارها بين أسنانها ودخلت العشّة وهى تترنّح ترنّح المُحتضَر، ثم ألقت بصغارها واحدًا واحدًا فى فراش الفتاة، وكأنها توصيها عليهم، ثم رقدت على جنبها وأغمضت عينيها وتوقف قلبُها عن الخفق. دخلت الكلاب الغازية لتُكملَ معركتَها داخل العُشّة مع الكلبة النافقة. تحاملتِ الفتاةُ على آلام ساقيها المعقورتين، وحملت صغارَ الكلبة الثلاثةَ العمياءَ وخبأتها فى صدرها ورفعت ذيل جلابيتها لكى تحميها من غول الافتراس الدامى. ثم ركضتْ بكل ما تملك من قوةٍ واهنةٍ وهنَ النزف والوجع، حتى خرجت من الخرابة نحو الطريق العام. سارتِ الفتاةُ تعرجُ فى الطرقات لا تدرى ماذا تفعل بصغارها الجراء بين ذراعيها، فإذا بسيارةٍ سوداءَ فارهةٍ تتوقف، ويطلُّ من نافذتها الخلفية وجهٌ سمينٌ وعينانِ جاحظتانِ تسمرتا على ساقيها والدم ينزف من بينهما. أخرج البدينُ لسانَه وبلَّل شفتيه بلعابه اللزج وقال لها: «تعالى يا حلوة.» جفلتِ الفتاة. فتلك هى المرةُ الأولى التى تسمع فيها هذه الكلمة: «حلوة؟!!!!» فتح لها البابَ الخلفىَ وأفسحَ لها لتجلسَ إلى جواره والجِراء الصغيرة فى حجرها. فى بيته الوثير أنامتِ الفتاةُ صغار الكلاب فى ركن المطبخ، ووضعت أمامها صحنًا به بعضُ الحليب. ثم استسلمت ليد الرجل البدينة ليجرّها إلى سريره الوثير ويفعل بها ما اعتاد الذكورُ أن يفعلوه بها بثمن، أو دون ثمن. عند الفجر، تسللت من فراشه إلى حيث المطبخ، حملت الصغارَ على ذراعها، وبيدها الأخرى نتشت من فرن البوتاجاز صينيتين عريضتين من الصفيح، ستجعل منهما بابًا لكوخها، يحميها ويحمى صغارها من أهوال العالم القاسى. فتحت باب الشقة الخشبى الضخم، وتسلّلت فى قلب الظلام.