الثلاثاء 02 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كُتاب كبار من بريد القراء.. «الشاعر» فرج فودة و«الناشئ» نجيب سرور يطلبان النشر

فرج فودة
فرج فودة

- يعتبر نشر أى نص «أول» لشاعر أو كاتب قصة، أو مقال لناقد، أو مفكر، بمثابة إعلان عن موهبة جديدة يتفاعل معها الناس سلبًا أو إيجابًا

- المفكر والباحث الكبير دكتور فرج فودة كان يقرض الشعر منذ الستينيات وبالفعل نشر قصائد فى مجلة الشعر

منذ أن نشأت المجلات والصحف فى مصر، واشتد عودها، اكتشف أصحاب ومديرو ورؤساء تحرير أن هناك شريحة واسعة من المتعاملين مع المطبوعة ليسوا مهيئين تمامًا للنشر مع عتاة وكبار الأدباء والمفكرين والساسة، ولا يكفى رفض المواد التى يرسلها هؤلاء للمجلة أو الصحيفة، ولذلك تفتقت قريحة المشرفين على المطبوع عن اختراع عبقرى، يسمح لهؤلاء بنشر كتاباتهم الشعرية أو القصصية وخلافه، وكذلك إجراء حوار ممتد معهم حول تلك النصوص أو المقالات، وأحيانًا يرسل الأدباء رسائل تنطوى على أسئلة طبيعية، وأحيانًا أخرى توسلات وغضب لتأخر نشر المادة المرسلة للمجلة، وبالطبع كل ذلك بالإضافة إلى أنه مفيد للمجلة أو الصحيفة، فهو كذلك مفيد للكاتب الشاب نفسه من زوايا عديدة وبديهية، فنشر قصيدة أو قصة لذلك الشاب، تكون فتحًا كبيرًا فى حياته، ويظل طوال عمره معتزًا بتلك الذكرى حتى لو كانت غير ذى قيمة أدبية أو فكرية ملحوظة، وكما أن ذلك الباب كان وما زال مفيدًا للمبدع والمجلة، فهو مفيد أيضًا لكل الحياة الثقافية.

يعتبر نشر أى نص «أول» لشاعر أو كاتب قصة، أو مقال لناقد، أو مفكر، بمثابة إعلان عن موهبة جديدة يتفاعل معها الناس سلبًا أو إيجابًا، وبالتالى فإن تلك الحوارات والمناقشات التى تنشأ وتدور ويشتد عودها على صفحات المجلات الثقافية، كانت تقوم بدور المدارس الأدبية، هكذا كانت مجلات: أبوللو، والرسالة لأحمد حسن الزيات، والكتاب لعادل الغضبان، والثقافة لأحمد أمين، والمقتطف ليعقوب صروف، وبعده فؤاد صروف، والعصور لإسماعيل مظهر، والبلاغ الأسبوعية لعبدالقادر حمزة، والسياسة الأسبوعية لمحمد حسين هيكل، وغيرها من صحف ومجلات- فى زمن التأسيس- كانت تدور فيها الحوارات والمناقشات التى كانت تصل إلى معارك شديدة الوطأة، بين أقطاب العصر آنذاك مثل عباس العقاد، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وغيرهم من الذين تركوا ظلالهم الكثيفة على هامش الثقافة الذى كان يمثله ما يسمى بالبريد الأدبى فى الرسالة، أو مع القراء فى مجلة الهلال، وصولًًا إلى باب «تجارب» الذى أنشأه الدكتور عبدالقادر القط عند تولى رئيس تحرير مجلة «إبداع» فى عام ١٩٨٤، ولأنه كان ناقدًا ذا ذائقة قديمة نسبيًا، فلم يستطع القصائد المفرطة فى التجريب لشعراء السبعينيات، فأنشأ ذلك الباب، حتى لا يحرم هؤلاء من النشر فى مجلة كانت المجلة الرئيسية الثقافية للدولة آنذاك، وبالطبع تعددت التسميات كما أسلفنا من البريد الأدبى، إلى بريد القراء، إلى حوار مع القارئ، وكان رؤساء ومديرو تحرير المجلات يدركون أهمية تلك الحوارات، وكان أصوب من أفصح عن ذلك الإدراك الدكتور على شلش عندما كان يعمل مع الشاعر صلاح عبدالصبور فى مجلة «الكاتب»، إذ كتب فى العدد ١٩٤ الصادر فى مايو ١٩٧٧ وقال فى مقدمته: «أحب أن ألف النظر إلى أن هذا الباب- بريد الكاتب- الذى يظهر من وقت لآخر، ليس مقصودًا به الرد على ناشئة الكتاب الذين يراسلون المجلة، فعلى هذا النحو جرى العرف فى مجلاتنا الأدبية، ولكن بريد أى مجلة أدبية أو غير أدبية، لا يعنى- أو هو يجب ألا يعنى- بالرد على الناشئة فحسب، أو الذين لم تستو سوقهم فحسب، وإنما عناية مثل هذا الباب تنصرف أولًا وأخيرًا إلى توطيد الصلة بين المجلة وكتابها، وقرائها سواء بسواء، وليس فى ذكر أى كاتب أو قارئ عنوان كهذا تقليل من مكانته أو مساس بقدره، ولكن المقصود- فضلًا عما ذكرت- هو أن يقوم هذا الباب مقام الخطاب، بحيث يوفر على المجلة مشقة ضياع الخطابات فى البريد أو ضياعها فى الطريق إلى أصحابها، والمقصود به أخيرًا أن يكون سوقًا للحوار الجاد والبناء بين المجلة وكتابها وقرائها الذين تحول بينهم الظروف وبين الاتصال المباشر...»، المقدمة لذلك الباب جاءت طويلة، لكن ما اقتبسناه يكفى لإرشادنا إلى بعض أهداف ذلك الباب بشكل عام، وفى تنوعاته المختلفة على مدى الزمان والمجلات الثقافية التى تنشئ مثل تلك الحوارات، وكان أول تطبيق عملى لما ساقه الدكتور شلش، كان مع الشاعر عوت الطيرى، وقدمه قائلًا: «فى بريدنا هذه المرة رسالة من عزت الطيرى، كلية الزراعة بجامعة أسيوط، ولست أدرى أطالب هو أم من هيئة التدريس؟ ولكن الرسالة تحمل معها قصيدتين تنمان عن موهبة لا شك فيها، وها هى إحداهما بعنوان «فصل فى الحكاية»، والقصيدة تبشر بخير وفير ستزداد وفرته إذا اهتم شاعرنا بالفكرة قدر اهتمامه بالصورة والتراكم الصورى إذا صح التعبير»، وبعد هذا التقديم الجميل، نشر القصيدة، وسوف أنشر منها هنا المقطع الأول:

«هو الحب يغمرنا بالضياء، يطارد فينا خفافيش حقد المساء، يبلل أعماقنا بالطهارة، يغمسنا فى رحيق التصافى، نصير عصافير تخفق بالأمنيات العذارى، ويسرقنا من سويعاتنا المتعبات الدقائق، يحملنا فوق جنح اشتهاءاتنا نحو ليل المواويل والأغنيات الطروبة يزرعنا فى حقول التلاقى، وينثر فوق الرءوس المودة، تنمو نسورًا تطارد أشباح ليل عذاباتنا، تستحيل انتحارًا، فتغلى المراجل فى صدغها، تقتل الأخطبوط المرابط فوق جسور صباباتنا».

وقبل أن ننتقل للحقبة الحديثة، لا بد أن أنوّه إلى ذروة واحتدام حالة بريد القراء والتعقيب على النصوص، جاءت ذروتها مع مجيئ ناقد ذى عقل نقدى جبار، وهو الناقد أنور المعداوى الذى تولى بابًا تحت عنوان: «تعقيبات» فى مجلة «الرسالة»، وذلك فى عام ١٩٤٨على وجه التحديد، وكانت مجلة الرسالة فى ذلك الوقت غاية وهدف كل الأدباء المصريين والعرب، ومن لم ينشر فى الرسالة، تأخر ظهوره، لذلك كانت تأتى إلى المعداوى رسائل شتى، ومن أدباء عديدين، ليس من مصر فحسب، بل من كل أنحاء الوطن العربى، وفى كتاب ضخم، نشر الناقد محمد أحمد عطية كل الرسائل التى وصلته من ابن شقيق المعداوى، وكان قد سبقه الناقد على شلش، ونشر على مدى ثلاثة أعداد من مجلة «الكاتب»- أغسطس ١٩٧٥، أكتوبر ١٩٧٥، يناير ١٩٧٦- عددًا وافرًا من الرسائل من أصل ٣٠٠ رسالة، سنقتبس فقرات قصيرة من تلك الرسائل، وها هو الشاعر الشاب نزار قبانى يرسل له رسالة من أنقرة بتاريخ ٨ ديسمبر ١٩٤٨ يقول فيها:

«الحبيب أنور

الريشة التى ترتجف بهواك، فى أنقرة، مدادها من عروق المغرب الرمادى، وتلاحينها تنبع من صميم الأناضول، ولهاثها على الورق من بكاء النهوند، وحنين الرصد...»، ورسالة أخرى من الشاعر عبدالوهاب البياتى من العراق، يناشده فيها من ألا يحرمه من النشر فى المجلة، أما الشاعر السودانى المصرى يرسل رسالة شديدة القسوة، فيقول: «.. أخى: إن لدى شعرًا كثيرًا نزفته من قلبى، وكتبته بدمى، وإن أمنيتى الكبرى هى أن أراه يومًا وقد استنقذته الرسالة ديوان الخالدين، هنالك سوف أغمض عينىّ هاتين مطمئنًا إلى مصيرى فيها، لاثمًا بقلبى تلك اليد البيضاء التى امتدت إلىّ فى ظلماتى الخانقة، وأخرجتنى إلى عالم النور والحياة...»، الرسالة طويلة من بين أربع رسائل أرسلها الفيتورى إلى المعداوى مستحلفًا بالله أن يعطف عليه لكى ينشر له قصائده، إذ كان الفيتورى وصل إلى حالة من اليأس والضياع التى كادت تؤدى به إلى حالة الانتحار التى صرّح بها، تلك الرسائل التى كانت ترد للمعداوى فى بريد القراء، ويعقّب عليها فى بابه تعقيبات، بلغت أسماء الأدباء النجوم المصريين والعرب، منهم رجاء النقاش، ووحيد النقاش، وسهيل إدريس اللبنانى ورئيس تحرير مجلة الآداب فيما بعد، وسعيد تقى الدين، ومحمد أبوالمعاطى أبوالنجا، وللأسف لم تنشر كل الرسائل فى كتاب الناقد أحمد محمد عطية، وأتمنى أن تتبنى نشر تلك الرسائل دار نشر، فهى رسائل تعتبر مرحلة مهمة من تاريخ الأدب العربى، وكذلك تنشر تعقيبات أنور المعداوى، تلك التعقيبات التى جاءت حادة فى كثير من الأحيان، لذا عندما نشر كتابه الأول «نماذج فنية من الأدب والنقد» عام ١٩٥١، نوّه عن تلك الحدة التى كان يكتب ويعقب بها، إذ كتب يقول: «قيل عنى يومًا أو قيل لى: إنك عامل هدم فى الحياة الأدبية، ولست عامل بناء، لماذا»، لأننى منذ أن تناولت قلمى لأكتب، تحول قلمى فى يدى إلى معول ثائر، معول تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع، ولم أضق بهذا الاتهام السافر الذى وجه إلىّ على صفحات (الرسالة)، لأننى قد طبعت على ألا أضيق بأى اتهام ما دمت قادرًا على الدفاع..».

كان أنور المعداوى بمثابة ثورة نقدية وفكرية عارمة فى ذلك الوقت، بدأت تلك الثورة فى مجلة الرسالة، وظلّ يكتب ويثير قدرًا واسعًا وعميقًا فى الحياة الأدبية، حتى أغلقت المجلة أبوابها عام ١٩٥٣، وحلّت محلها مجلة «الرسالة الجديدة»، التى ترأس تحريرها الكاتب يوسف السباعى، ولأن ثورة يوليو كانت قد هيمنت على كل أشكال الحياة السياسية والفكرية والثقافية، فلم يجد المعداوى لنفسه مكانًا فى أجوائها، ولم يستطع التعاطى مع الخطاب الثقافى الجديد، ولم تتسع له المجلات المصرية، فلجأ إلى مجلة الآداب اللبنانية والتى كان قد أسهم فى تأسيسها مع سهيل إدريس، ولكن كانت قد ارتبكت أداءاته الثقافية، فشعر بغربة قاتلة أودت بحياته فى عام ١٩٦٥.

واستطاعت مجلة الرسالة الجديدة أن تستقطب كثيرًا من المثقفين الشباب، فضلًا عن الكتاب والأدباء والمفكرين الكبار أو «الشيوخ» مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وأمين يوسف غراب ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهم، وبدأت المجلة تدعو الشباب إلى النشر فى المجلة، ومن لم تستطع استيعابه فى متن المجلة، كانت تستوعبه فى هوامشها الكثيرة، والتى كانت تعبر عن فكرة «بريد القراء»، ولكن تحت اسم «بين القراء وبينى»، ثم «بريد الشعر»، ثم بريد القصة وهكذا، ومن لم ينجح فى النشر من الشباب، راح يرسل كلمات غاضبة، مثل الشاعر الشاب «نجيب سرور»، الذى أرسل سؤالًا غاضبًا يستفسر فيه عن مضمون كلمة «ناشئ»، فكتب لهم سائلًا: «ماذا تعنون بكلمة ناشئ؟، أهو ذلك الذى لا يكتب شيئًا ذا قيمة.. أم إنه ذلك الذى لم ينشر له بعد شىء؟، فأنتم لا تنشرون لمن لا ينشر له من قبل، ولم يتمتع بشهرة واسعة واسم عريض، أليس من الأوجب أن تعلموا أن جيلًا من الكتاب لا يمكنه أن يعيش إلى الأبد، وأن عليه أن يعمل على الأخذ بيد جيل يليه، لتستمر شعلة الأدب وهّاجة فلا تنطفئ شموع حتى تليها شموع، وأخيرًا لى طلب الإذن بمقابلتك.. لأنى- واعذرنى- أخشى أن أصطدم بعنجهية الكبار!»، ووقع: «نجيب محمد سرور.. المعهد العالى لفن التمثيل»، ورغم ذلك الخطاب الحاد، إلا أن السباعى رد عليه قائلًا: «إنى أرحب بلقائك»، وصار نجيب سرور بعد ذلك من كتّاب المجلة حتى سفره إلى موسكو لدراسة الإخراج عام ١٩٥٨.

وما حدث مع نجيب سرور فى مجلة الرسالة الجديدة، حدث مع كثيرين، منهم صبرى موسى الذى نشر قصيدة طويلة، ومحمد الفيتورى، وسامى السلامونى الذى أرسل لهم غاضبًا لتأخر قصته، ولكن السباعى نشر له قصة عنوانها «سميطة»، وقال له بالنص: «لكن ما تبقاش مسحوب من لسانك»، ونشر الشاعر محمد عفيفى عامر مطر من رملة الأنجب منوفية أولى قصائده، ويبدو أنها من بداياته الخضراء، تحت عنوان «ذات الغصن»، وذلك فى العدد الصادر فى مايو ١٩٥٥، والتى يقول فيها:

«سلامًا يا رمز الكفاح...

وراية المخلصين من بنى الإنسان..

سلامًا يا ذات الغصن...

تحملينه أخضر يحكى أحلام الحقول...

نديًا، رطيبًا من كثرة ما شرب من دمع الوديان والسهول..

تحملينه أخضر... نديًا.. رطيبًا لتباركى من سار فى الطريق إلى الرفاق..

رفرفى يا حزينة..

واصعدى فى السماء وصفقى...

والمسى بقوادمك الطهر أوزار البشر...».

وأكتفى بذلك الاقتباس، حيث إن القصيدة ليست على المستوى الذى نضج به عفيفى مطر فيما بعد، وفى عقد الستينيات، ولا تستطيع تلك السطور القليلة أن تحصر تلك النصوص التى انطوت عليها المجلات أو الصحف، لأن هناك مفاجآت مذهلة فى ذلك المجال، وأولى المفاجآت أن المفكر والباحث الكبير دكتور فرج فودة كان يقرض الشعر منذ الستينيات، وبالفعل نشر قصائد فى مجلة الشعر، لكن المفاجأة تتوالى، فبعد رحيل جمال عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، كتب قصيدة ساخنة، ونشرتها له جريدة الجمهورية فى بريد القراء فى ٥ أكتوبر عام ١٩٧٠، والقصيدة جاءت تحت عنوان «الحرب ما انتهتش»، جاء فيها:

«جمالنا لسه حىّ.. فى قلب كل الناس

فى كل لمحة حتى.. فى كل ضربة فاس

فى رعشة إيد حبيبة.. كتبت على الكراسى

بابا جمال ما مامتشى.. والحرب ما انتهتش

الحرب ما نتهتش

يا حارس البيوت.. هيه الرجال بتموت

علمتنا نختار.. نمشى الطريق الصعب

وإن الرجال تنهار.. ممكن يعيش الشعب

وهناك على الحدود.. ولادك الجنود

بيقولوا لأ ما متش.. والحرب ما انتهتش

الحرب ما انتهتش

كبير يا شعب مصر.. كبير على الهزيمة

دمع الرجال مش دمع.. دمع الرجال عزيمة

ومش أول شهيد.. ولا آخر شهيد

لكن.. وده أكيد.. جمال جمال ما متش

والحرب ما انتهتش.. الحرب ما نتهتش».

فرج فودة.. معيد بزراعة عين شمس.

بعد رحيل جمال عبدالناصر، جاء الرئيس محمد أنور السادات، وتمت تصفية المجلات بضربة شبه قاضية على يد الدكتور محمد عبدالقادر حاتم نائب رئيس الوزراء، وذلك بعد حركة «التصحيح» فى ١٥ مايو ١٩٧١، وتم اختصار المجلات الثقافية فى مجلتين أساسيتين، الأولى هى مجلة الجديد التى تولى رئاسة تحريرها الدكتور رشاد رشدى، والثانية مجلة «الثقافة»، وترأس تحريرها الدكتور عبدالعزيز الدسوقى، وأصبحت المجلتان هما صوت اليمين الثقافى بجدارة، ولكن الشباب الصاعد وجد نفسه فى مأزق التعامل مع المجلتين، حيث إن ذلك الشباب الجديد لا يملك خبرة التعامل مع المجلات والمطبوعات العربية التى كانت متنفسًا ذا بريق آنذاك، لذلك فوجدنا أقلامًا شابة جديدة تظهر فى المجلتين، خاصة مجلة «الجديد»، والتى تم تخصيص بابين للتفاعل مع ذلك الشباب، الباب الأول ويقع فى صدر المجلة، وقبل افتتاحية رئيس التحرير، وهو باب «بريد القراء»، وهو عبارة عن رسائل موجهة إلى رئيس التحرير شخصيًا، وهى فى غالبها رسائل تمدحه، أما الباب الثانى فهو فى آخر المجلة، وهو باب «كتابات جديدة»، ولاحظنا أن كثيرًا من الأقلام الشابة التى شاركت بقوة فى صياغة شكل ومضمون وتوجهات الحياة الثقافية فيما بعد: أحمد زرزور، أحمد سويلم، أحمد عبدالرازق أبوالعلا، إدريس على، حلمى سالم، جمال القصاص، أحمد طه، عبدالمقصود عبدالكريم، محمد عيد إبراهيم، عبدالمنعم رمضان، مختار عيسى، مديحة أبوزيد، قاسم مسعد عليوة، رفقى بدوى، محمد الخضرى عبدالحميد، محمد عبده العباسى، وغيرهم مما لا يمكن حصره، ويحتاج إلى توسع فى مجال آخر لرصد الملامح الأولى لذلك الشباب، لذا سأشير إلى شاعرين كبيرين من جيل السبعينيات كانا يراسلان المجلة وهما الشاعر عبدالمنعم رمضان عبيد، وهو الشاعر الكبير عبدالمنعم رمضان، والشاعر الكبير حلمى سالم الذى كان يكتب أيضًا باسمه الثلاثى «حلمى عبدالغنى سالم»، والمفاجأة أن قصيدتى الشاعرحلمى سالم كانت بالعامية، الأولى وهى قصيدة «غنائية إلى سيناء» للشاعر عبدالمنعم مضان، ونشرت فى العدد ٥٣ مارس ١٩٧٤، ونقتبس منها:

«كونى لهم ريحًا مواتية

كونى لهم سهلًا ورابية

يمضى بك التاريخ ناسيًا

همومه مسترجعًا لياليه

يمضى ولا شىء سوى غد

تخيطه الحيتان والزبانية

وفجر أخوتى

وميتتى

وبعثى المرسوم فوق صدر أمتى...».

أما قصيدة حلمى سالم فقد نشرت فى مجلة الجديد بتاريخ ١٥ سبتمبر ١٩٧٢ تحت عنوان:

«الورقة الأخيرة من مذكرات دون كيشوت»، وجاء فى مطلعها:

«واتلمت الأسواط وصفعات الطبول

واتلمت التعاويذ

واتلمت الأحجار تطهر رجس جسمى

واتلم فى عنيه الذهول

أعلن كفرى للشمس.. للكلمة.. للناس

واحرس لهفتى ليكى

وامشى بين الحراس

وأنا شاهر حبك

يلبسنى صوتك 

كل الربيع فى الخريق

كل الشجر فى ساعة القيلة

كل الأعانى ...».

الأمر يحتاج إلى استطراد أكثر لمعرفة التوجهات الأولى للكتاب والمبدعين فى أطوار حيواتهم المتوالية، والسطور السابقة لم تكن إلا إشارات عابرة لملامح أولى نتمنى رصدها فى زمن لاحق إن شاء الله.