مصطفى نصر.. عميد أدباء الإسكندرية يرحل دون وداع رسمى
- عاش مصطفى نصر كل مرحلة مرضه الأخيرة دون ذلك الاهتمام الرسمى الواجب
لم يكن الكاتب الروائي السكندري الكبير مصطفى نصر متهافتًا على المكاسب غير المشروعة التي يسعى إليها كثير من الكُتّاب، بل كانت كرامة الأديب بالنسبة له هي السمة الأسمى وعلامة الجودة لأي كاتب حقيقي. لم يعرف يومًا طريق الاستجداء، لكنه تعامل مع صفحة الـ«فيسبوك» التي كان يديرها بمفرده كمنبر أراد أن يقول فيه كل شيء.
وحين راجعه أحد الأصدقاء وناشده أن يكف عن ذلك الوضوح الذي تنضح به كتاباته المفعمة بالمرارة، رد عليه ببساطة قائلًا: «اتركني لأقول كل ما في جعبتي؛ فأنا أعيش آخر أيامي، ولا بد أن أفصح عن كل ما لديّ. لو لم أقل هذا الكلام بهذا الوضوح، فلن يقوله أحد غيري، وسيذهب معي إلى قبري من دون أن يعرفه الناس. أريد أن يطول عمري قليلًا لكي أقول ما لم أستطع قوله طوال حياتي».

للأسف عاش مصطفى نصر كل مرحلة مرضه الأخيرة دون ذلك الاهتمام الرسمى الواجب، والضرورى لعقول وأفئدة الأمة، ذلك الاهتمام الذى ناله كتّاب آخرون، وهم أهل لذلك الاهتمام بالطبع، ولم نقرأ مناشدات لوزير أو وزارة الثقافة لإنقاذ حياته، أو لتحمل نفقات العلاج الباهظة، حيث وصلت حالته الصحية إلى درجة أنه لا يستطيع الذهاب إلى المستشفى، ولا بد من دكتور «خصوصى» يتابع حالته الصحية فى منزله، وتكاليف زيارات ذلك الطبيب. وعندما هاجمه المرض بشراسة، وهو فى عمر متأخر، كانت تكاليف العلاج غير متوافرة لديه، وهو لا يملك سوى معاشه الذى ينفقه على كل أمور حياته الاجتماعية البسيطة، وكم صرخ وصرخنا على صفحات التواصل الاجتماعى لكى تنتبه له الجهات المسئولة، وتتحمل نفقات علاجه الباهظة، ولكن تلك الجهات ضربت عرض الحائط ولم تلتفت إليه بالقدر الكافى، وعلى رأس تلك المؤسسات والجهات، اتحاد الكتاب الذى يطلق عليه قادته «النقابة العامة»، أى الجهة التى ترعى التابعين لها، والأعضاء فيها، والذين ظلّوا طوال حياتهم يدفعون الاشتراكات بانتظام فى مدى مراحل عمرهم المختلفة، منذ الشباب، حتى الكهولة، وصولًا إلى مرحلة الشيخوخة، لكى ينالوا بعضًا من الرعاية، لكن لا حلول حاسمة فى ذلك الأمر، رغم أن ذلك كان ممكنّا، وكلنا يعلم أن الأعمار ليست بيد أحد، لكن التخفيف عن المريض فى تلك المرحلة، وتحمل نفقات علاجه، هى أول واجبات تلك النقابة.

أما المؤسسة الأخرى فهى كذلك لم تستجب، فلم نقرأ خبرًا عن زيارة وزير الثقافة له فى منزله، ولم نعرف أنه قام بتوجيه الأجهزة الثقافية المعنية بالاهتمام به، وبالتالى لم نقرأ فى وسائل الإعلام مقالات عن مصطفى نصر، ولم نعرف تلك الملاحقات الإعلامية حول ضرورة علاجه، أو طبع ونشر مؤلفاته التى نفدت أو كادت من الهيئة العامة للكتاب، ولولا الناقد الدكتور أحمد مجاهد فى فترة توليه الهيئة، ورئاسة تحرير سلسلة الأعمال الكاملة، لما نشر له كل أعماله التى صدرت حتى عام صدور المجلدات، وهو عام ٢٠١٦، وكان دكتور أحمد مجاهد قد ترك الهيئة، لكى يظل رئيسًا لتحرير سلسلة الأعمال الكاملة، ولولاه ما كان أحد المسئولين قام بذلك العمل النبيل، لأن كاتبنا الراحل خاض رحلة شديدة القسوة منذ بدأ مشواره الأدبى، فنشر أول أعماله الروائية «الصعود فوق جدار أملس»، عام ١٩٧٧ عن دار نشر مستقلة، بل مجلة ماستر فقيرة من حيث الطباعة، وكان أى مبدع يتحمل تكاليف النشر، وكانت تلك الفترة فترة كساد، ليس كسادًا إبداعيًا، ولكنها كانت فترة طاردة، فنشر معظم الكتّاب النشطاء منشوراتهم فى بيروت والعراق وسوريا، أما قليلو الحيلة، فلجأوا إلى تلك الطريقة فى النشر، ثم نشر روايته الثانية عن مطبوعات الثقافة بالإسكندرية عام ١٩٨٢.

وصدرت روايته «جبل ناعسة» عن المجلس الأعلى للثقافة، عام ١٩٨٣، وتوالت أعماله القصصية والروائية والنقدية تصدر تباعًا، وفى غزارة ملحوظة، ولو تأملنا السيرة الذاتية له، سنجد أنها كثيفة وغزيرة، ورغم ذلك لم تصاحبها متابعات نقدية لنقاد من طراز دكتور جابر عصفور، أو دكتور صلاح فضل، أو نقاد كبار ومؤثرين مثل الناقد الكبير فاروق عبدالقادر، ومحمود أمين العالم، ورغم أن هناك كتابات نقدية قليلة تابعت بعض ما صدر لنصر، إلا أنها لم تنقد بالقدر أو الاهتمام الكافيين، وهذه آفة حياتنا الثقافية، الانتباه لمن ترتفع أصواتهم، أو ترتفع حولهم أصوات الآخرين لأسباب متعددة، حتى جائزة الدولة لم ينل منها أى حظ، رغم أنه جدير بها، وكم مرة يصعد اسمه إلى أعلى التصفيات فى جائزة الدولة التقديرية، لكنها تجاوزته، وللحق كتب الأستاذ طارق الطاهر فى عدد سبتمبر ٢٠٢٥ «رسالة إلى مصطفى نصر»، جاء فيها: «يستحق مصطفى نصر، البالغ من العمر ٧٨ عامًا، هذه الجائزة منذ سنوات طويلة، وقد أخطأته فى مناسبات عدة. لا أجد مبررًا نقديًا أو إبداعيًا لعدم فوزه، فهو أهل لها تمامًا. وينطبق هذا الأمر على كثيرين من أبناء جيله الذين فضلوا البقاء فى محافظاتهم، يثرون الحياة الثقافية والفنية الرفيعة. عشرات منهم يستحقون جوائز الدولة...».

إن هؤلاء الأدباء هم نقطة الإشعاع الكبرى فى حياتنا. لهم مريدوهم فى محافظاتهم وخارجها، الذين يلتفون حولهم ويتعلمون منهم مفاتيح الإبداع والنقد. لا يبخلون بأوقاتهم فى خدمة قضايا الوطن والأدب والثقافة، ودورهم لا يقتصر على تقييم تجاربهم الإبداعية فحسب، بل يمتد ليشمل اكتشاف الموهوبين وحمايتهم من العزلة، وتقديمهم بما يليق بهم للوسط الثقافى والإعلامى.
وهذه كلمة حق كان يشعر بها كثيرون، وينادى بها آخرون، رغم معرفة الجميع بالقيم التى يمثلها مصطفى نصر فى حقل القصة والرواية والكتابة التاريخية، فهو كان بالإضافة إلى كتاباته السردية، كان شغوفًا بمجال الفن والسينما، فضلًا عن أنه كان باحثًا أريبًا، يعرف كيف يدرج المعلومة التاريخية فى سياقاتها الحثية بذكاء شديد، وهناك كتابات كثيرة فى ذلك المجال تنافس الأكاديميين فى مجال التأريخ الفنى، حيث إن مصادره كانت حيّة، ومزدحمة بمعلومات لم يفسدها التأويل المغرض، والهوى الأيديولوجى، أو التوجه النفعى، فهو كاتب لم يبغ سوى إرضاء الحقيقة وإزالة كثير من الغبار الكثيف الذى فوقها وحولها، ويأتى بالمعلومة القديمة، لكى تكون جديدة على القراء والباحثين، وكان يكتب لوجهها فقط، الحقيقة، دون أن يتكالب لمقابلة كاتب كبير لكى يرتضيه، حتى يرشحه للقراء. وفى مقال له نشره فى مجلة «ضاد» يناير ٢٠١٢، وفى عدد خاص عن نجيب محفوظ، ذكر فيه ثلاثة لقاءات مع الكاتب الكبير، وكان قد اعتذر لأحد أصدقائه عندما دعاه لكى يلتقيا بنجيب محفوظ فى كازينو بترو، حيث يجلس مع رفاق عمره مثل توفيق الحكيم وثروت أباظة، وقال لصديقه إنه لا يريد أن يلقى بظله على محفوظ وهو لا يعرفه، ولم يقرأ له، ولكنه وافق فيما بعد عندما انتقلت جلسته إلى كازينو سان ستيفانو، وعندما جلس مع محفوظ، كان يجلس معه أحد الأدباء ثقيلى الظل، ولأنه لم يسمع عن مصطفى نصر قبل ذلك، ووجده حاضرًا أدبيًا فيما بعد، لم يجد لديه إلا أن يطلق إشاعة عنه بأنه يتعامل مع الأمن، وبعيدًا عن ذلك، فالمقال ممتع، ويكشف فيه نصر عن محاولات بعض الأدباء الذين كانوا يبتزون نجيب محفوظ، لكى يكتب لهم أى كلمة دون أن يقرأ لهم شيئًا، وكان محفوظ يجاملهم لكى يتخلص منهم، لدرجة أن أحدهم ضغط على محفوظ أن يكتب له كلمة عن كتاباته التى لم يقرأها، ولم يجد ورقة لكى يكتب عليها، فأعطاه علبة سجائر ليكتب كلمة تقريظ، وبالفعل كتب محفوظ تلك الكلمة تحت سلاح الابتزاز، ليأخذها ذلك الكاتب ويضعها على غلاف روايته الخلفى.
هكذا لا تخلو كتابات نصر من الحقيقة التى رآها بنفسه، ولا تخلو من الطرافة، أما عالم رواياته وقصصه المدهش، فهو ثرى وعميق، وسيكون محور مقالنا فى الحلقة المقبلة إن شاء الله.







