حرف الثقافية.. مائة عدد تحتفى بالكلمة وتُهدي الثقافة زهرة جديدة كلّ أسبوع
احتفلت «حرف الثقافية»، الصادرة عن مؤسسة الدستور، بصدور عددها المائة، وهي محطة ليست عابرة في المشهد الثقافي، بل تذكّرنا بأن للكلمة مكانًا محفوظًا، وللثقافة بيتًا يفتح أبوابه كل «أربعاء»، محمّلًا بالمعرفة والالتزام، والرغبة الصادقة في إعادة الاعتبار للكتابة.
ولا يقتصر الاحتفاء على الرقم ذاته، بل يتعداه إلى المعنى الذي كرّسته الجريدة منذ انطلاقتها، حين جاءت بروح العاشقين للكتابة، وبقلب يراهن على قدرة الثقافة على اختراق ضجيج الواقع وإضاءة عتمته.
في هذه المناسبة، كشف رئيس تحريرها، الدكتور محمد الباز، عن فلسفة اختيار الاسم وهدف إطلاق المطبوعة، مؤكدًا أن «حرف» جاءت لتعيد الاعتبار للكلمة، وتمنحها حقها في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتبهت المعاني، وتغيب فيه الأصوات الموثوقة خلف ضجيج السطحية والتكرار.
اللافت أن هذه الرؤية لم تبقِ شعارًا، بل تحوّلت إلى مشروع حيّ وفضاء ثقافي له حضور واضح وسط ساحة إعلامية مزدحمة ومتقلّبة، يلتقي فيها الإبداع بالمساءلة، والفكر بالنقد البنّاء.
وعلى امتداد مئة عدد، نجحت «حرف الثقافية» في ترسيخ هوية مميزة تجمع بين الاحتفاء بالإبداع، ومساءلة الواقع الثقافي، دون الوقوع في فخّ النخبوية المنغلقة أو السطحية المبتسرة. فالقارئ لا يبحث فيها عن خبر عابر، بل عن فكرة تضيء عتمة، وعن نصّ يمنحه لذة المعرفة، وعن ملفّ يفتح أمامه آفاقًا جديدة للتفكير والتحليل.
وهكذا تحوّلت الجريدة إلى مساحة رحبة تتجاور فيها الأصوات المختلفة، وتُمنح فيها المواهب، على اختلاف أجيالها وخبراتها، فرصتها العادلة، ليصبح القارئ شاهدًا على تنوع التجارب الثقافية، ومشاركًا في صناعة خطاب متوازن وواعٍ.
ويشرفني أنني شاركت بالكتابة في بعض أعداد هذه المطبوعة، وهو شرف كبير يعكس التزام «حرف» بإتاحة الفرص للكتاب والمبدعين، وفتح مساحة للتعبير عن الرؤى المتنوعة، بما يدعم حيوية المشروع ويغذّي الفكر، ويمنح القرّاء فرصة اللقاء مع أصوات مختلفة ومتجددة.
ورغم حداثة عهد «حرف» مقارنة بالصحف والمجلات الراسخة، استطاعت أن تصنع حالة ثقافية مميزة، وأن تضيف زخمًا واضحًا إلى المشهد المصري والعربي. فهي لا تكتفي بالشأن المحلي، بل تمتد جسورها نحو الثقافة العربية عمومًا؛ تحتفي بشعرائها، وروائيّيها، ومفكّريها، وتقدّم للقارئ نافذة تطل على تجارب مختلفة من كل العواصم الثقافية، من القاهرة إلى بيروت، ومن الدوحة إلى الرباط. وبذلك، أصبحت الجريدة منصة للحوار والانفتاح، لا جدارًا مغلقًا، ولا صندوقًا مهيمنًا على الفكر، بل فضاءً حيويًا يسمح بتلاقح الأفكار وتنوّع الرؤى.
وتزداد قيمة التجربة حين ندرك أن «حرف» أعادت الاعتبار للمقال الثقافي الجاد، وللنقد بوصفه فعل تفكير لا مجرد ملء فراغ؛ فملفاتها الفكرية، وحواراتها مع رموز الأدب والفكر، ودقتها في اختيار موضوعاتها، أسهمت جميعها في صناعة مطبوعة تحظى بالاحترام، وتنمو بثقة وهدوء، مذكّرة القارئ بأن المشروع الثقافي يمكن أن يبدأ صغيرًا، لكنه يكبر حين يُصغي للموهبة ويحترم العقل، ويمنح الكلمة حقّها في التأثير والخلود.
إن بلوغ «حرف» العدد المائة ليس مجرد رقم؛ إنه بداية مرحلة جديدة، وشهادة على نجاح رؤية، وبرهان على التزام مستمر، ودليل على أن للكلمة قدرة دائمة على أن تكون نورًا مضيئًا في زمن تختلط فيه الأصوات، وتضيع فيه المعاني بين صخب الأخبار المتلاحقة.
لقد قدّمت «حرف الثقافية» للمشهد الثقافي زهرة جديدة كل أسبوع، وأعادت للكلمة هيبتها وفتنتها، مؤكدة أن الثقافة ليست مجرد حدث عابر، بل مشروع مستمرّ يتجاوز الحدود والزمن، ويصنع جسرًا بين الأجيال، بين القرّاء والكتّاب، وبين الفكر والمعيشة اليومية.
ومع كل عدد، نكتشف أن الجريدة ليست مجرد مطبوعة؛ بل هي تجربة ثقافية شاملة، تجمع بين النقد، والتأمل، والإبداع، وتعكس وجدان مجتمع يرفض الانزواء في تفاصيله الصغيرة، ويؤمن بأن الثقافة الفاعلة هي تلك التي تصنع وعيًا، وتفتح آفاقًا للتفكير، وتغذي الروح قبل العقل.
لقد أعادت «حرف» الاعتبار للصحافة الثقافية كمساحة للحرية والإبداع، وللكلمة بوصفها أداة للتغيير والفهم، وللقارئ بوصفه شريكًا حقيقيًا في صناعة المشهد الثقافي.
مبارك لـ«حرف الثقافية»، وللقائمين عليها، وللقرّاء الذين وجدوا فيها رفيقًا صادقًا، وصوتًا ثقافيًا متينًا.
وإلى مائة عدد أخرى… وأكثر، تبقى الكلمة، والزهرة، والفكر، في قلب هذا المشروع المتجدّد.




