السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عبدالله السلايمة يكتب: سكتة قلمية

حرف

كعقاب على رفضى القاطع طباعة كتاب مشترك بيننا، دأب «صالح» على استفزازى حتى فاض بى الكيل، ودفعنى غضبى منه ذات مرة لتوبيخه ووصفه بالغبى، فما كان منه إلا أن رد فى تحدٍ: لنرَ أى منّا يفوق الآخر ذكاءً. 

أبت نعرة البداوة بداخلى قبول ما اعتبرته إهانة، فكيف لمثله أن يعلن عن تحديه بشكل سافر لرجل صحراوى مثلى، الأمر الذى دفع بى لقبول تحديه. 

وكأنه وجدها فرصة لمعاقبتى على طريقته الخاصة، فاجأنى قائلًا فى ثقة أثارت دهشتى: 

ـ لا أريده تحديًا

ـ ماذا تريد إذًا؟!

أجاب بنفس نبرة الثقة، مؤكدًا: 

ـ بل رهانًا.. 

أشعرتنى ثقته الزائدة بشىء من الارتباك، حاولت السيطرة عليه بافتعالى ابتسامة استخفاف، من خلفها تساءلت: 

ـ علام؟

نظر فى عينىّ مباشرة، وبدا على وجهه سمات التحدى، وهو يجيب: 

ـ على أن أشاركك طباعة كتاب، إذا ما فزت بالرِّهان. 

ـ وإذا ما خسرت؟!

ـ لك أن تحكم علىّ بما تراه.

ولما أجهض البدوى داخلى أى محاولة للانسحاب، قبلت الرِّهان على مضض. 

لو كان قد اكتفى لاحقًا بإقرارى له بخسارتى، لما دفعنى للعض على نواجذى ندمًا كلما تذكرت ذلك اليوم المشئوم الذى وافقت فيه على قبول مراهنته، وإحساسى الدائم بالعار للحد الذى جعلنى أفكر بشكل جدى فى أن أترك له البلدة بكاملها.

لم يبدُ عليه أنه ذكى، فقد كان بسيطًا وثرثارًا للحد الذى جعلنى أحكم عليه بالسطحية، تصورى الخاطئ عنه واستهانتى بقدراته، هما ما دفعا بى لأن أحكم عليه من الخارج، وأغفل عن حقيقة أنه من ذلك النوع من الرجال الذى يصعب معرفة ما بداخله، حكم تسرعت فى اتخاذه، وكلفنى ثمنًا باهظًا. 

لم يكتفِ بما سببه لى من إنهاك على مدى أيام، قضيتها فى تخمين ما قد يتبعه من أساليب غير نزيهة ليس لضمان خروجه من المعركة منتصرًا، بل خسارتى لخطيبتى التى وصل إليها بطريقة أوقفت شعر رأسى دهشة وغيظًا. 

بعد أن تأكد له استنفادى كل أساليبى الوقائية، وربما نسيانى الأمر برمته، فاجأنى ذات يوم برفقة شاب فى المقهى، عرّفه كأحد المعجبين بكتاباتى، غمرتنى لحظة انتشاء، تحت تأثيرها ابتسمت بشكل ينم عن امتنانى لتقديرهما لى، أخذت أفتش فى حقيبتى علنى أجد كتابًا يخصنى، ويرقى لمستوى توقعات الشاب بى. ولحسن حظى، وربما لتعثره، تصادف أن وجدت واحدًا. 

ولكى تكون المؤامرة أكثر إحكامًا أخذ «صالح» يثنى على ذوق الشاب الرفيع ورُقيه، مستشهدًا باختياره لمثل أعمالى، ولم يفته امتداحى بشكل أشعرنى كما لو كنت أسدى للشاب جميلًا وأنا أكتب له إهداءً بخط يدى، وأناوله الكتاب. 

ولم يُضع اللئيم وقتًا، وشرح للشاب ما عليه فعله. 

أمام باب منزل خطيبتى الذى كنت سأعقد قرانى عليها قريبًا، وتصادف وقوفها بالشرفة تسلى وحدتها بالفرجة على المارة، تظاهر الشاب بسقوطه إثر تعثره بحجر، أمسك بقدمه متظاهرًا بالألم، ما دعا خطيبتى الساذجة للإشفاق عليه، ومحاولة مساعدته. 

دعته للجلوس فى مدخل البيت، وعرضت عليه أن تمده ببعض الإسعافات الأولية، إذا ما كانت حالته تستدعى ذلك. 

شكرها على اهتمامها، واعتذر على إزعاجه لها، فاستأذنته ألا يبرح مكانه حتى تحضر له مشروبًا، لم يمانع متظاهرًا بالامتنان لها، وما أن استدارت داخلة حتى أسرع بالمغادرة تاركًا الكتاب الذى أهديته له صباحًا خلفه على سلم المنزل. 

فى المساء ذهبت لأصحب خطيبتى فى نزهة، وفيما كنت جالسًا بانتظار انتهائها من زينتها، رحت أمرر نظرى فى أرجاء الصالون، لمحت كتابى ملقيًا على الأريكة، همست فى ارتياح: «ربما كانت تقرأه»، لكننى ما أن قلبت غلافه حتى صدمنى ما لم أكن أتوقعه. همست مأخوذًا: «يا الله إنه نفس الكتاب الذى أهديته للشاب فى الصباح». 

عقدت ذراعىّ فوق صدرى فى توتر، جلست ساهمًا، حاولت طرد الأفكار السيئة من مخيلتى، لكنها أبت المغادرة قبل أن تخلّف وراءها فكرة أن خطيبتى تخوننى. 

وكدليل دامغ على خيانتها لى ما أن دخلت حتى تساءلت وأنا أرفع الكتاب أمام ناظريها: من أين لكِ بهذا؟

وفيما كانت تحاول شرح ما حدث، رحت أتفحصها بنظرات مرتابة، وتشى بعدم تصديقى لها، ما زاد من حدة تصاعد التوتر وشُقة الخلاف بيننا، وما دفع بى فى النهاية لأن أتركها وأغادر شاقًا طريق عودتى كثور هائج، لاعنًا «صالح» واليوم الذى تعرفت فيه إليه.