نوبل.. إعادة كتابة التاريخ بنكهة نرويجية

من المثير للدهشة أن لجنة مكوّنة من ستة أفراد يعيّنهم البرلمان النرويجى تحتكر تعريف السلام، وتقرّر- باسم الإنسانية جمعاء- من يستحق التكريم، ومن يُنفى إلى الظل. تمنح الجائزة لمن تشاء وفق المعايير التى أوصى بها ألفريد نوبل، وتمنعها عمّن لا ينسجم مع المزاج الغربى السائد، فى مفارقة تثير السخرية أكثر مما تثير الإعجاب.
والأغرب أن العالم يقرّ برأى هؤلاء الستة، كأنهم أوصياء على الضمير الإنسانى، لا يُخطئون ولا يُحاسَبون. تحولت الجائزة التى أرادها نوبل رمزًا للسلام إلى أداة من أدوات القوة الناعمة الغربية، تُمنح أحيانًا لتلميع صور سياسية، أو لإعادة إنتاج سرديّة تخدم مصالح القوى الكبرى، لا لتكريم نضال حقيقى.
حين كتب ألفريد نوبل وصيّته عام ١٨٩٥ كان يطمح إلى أن تُمنح الجوائز لمن يقدّم أعظم فائدة للبشرية. لكنه- دون أن يدرى- سلّم مفاتيح إرثه إلى مؤسساتٍ أوروبية ستتصرّف لاحقًا وكأنها تملك حق تعريف الفضيلة والمعرفة والسلام.
تحولت وصيته من تعبير عن ضمير إنسانى إلى أداة من أدوات الهيمنة الرمزية. ومع مرور الزمن، صار واضحًا أن لجان نوبل- خصوصًا لجنة السلام النرويجية- لا تعبّر عن الضمير العالمى بقدر ما تعبّر عن رؤية الغرب لذاته، وعن سعيه الدائم لاحتكار معنى الإنسانية.
منذ أولى دورات الجائزة، لم يخل الأمر من الجدل. فبينما مُنحت لشخصياتٍ ملهمة فى أوقاتٍ معينة، استُخدمت أحيانًا لتثبيت سرديات سياسية بعينها. يكفى أن نسترجع قصة باراك أوباما الذى نال الجائزة عام ٢٠٠٩ بعد شهور فقط من توليه الرئاسة، بينما كانت طائراته تواصل القصف فى أفغانستان وباكستان واليمن. بدا القرار وقتها محاولة لتجميل وجه أمريكا بعد سنوات بوش العجاف، لا تكريمًا لسلام لم يولد بعد.
وفى المقابل، لم تُمنح الجائزة إلى المهاتما غاندى رغم ترشيحه خمس مرات، وهو الذى غيّر وجه العالم بالكلمة والعصيان المدنى لا بالسلاح. أى مفارقة هذه؟ يُكرَّم صُنّاع الحروب أحيانًا، ويُهمَّش دعاة السلام الحقيقيون لأنهم لا ينسجمون مع خريطة المصالح الغربية؟
وفى السنوات الأخيرة، عاد الجدل مجددًا، خاصة هذا العام حين مُنحت الجائزة إلى زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، بينما بلادها غارقة فى أزمة سياسية واقتصادية خانقة وصراع على السُلطة. بدا أن الجائزة تُستخدم هنا كأداة ضغط سياسى، أكثر من كونها اعترافًا بإنجاز إنسانى.
فالسلام فى المفهوم النرويجى لا يعنى إنهاء الصراعات، بقدر ما يعنى الانسجام مع الرؤية الغربية لما يجب أن يكون عليه العالم.
حتى فى مجالات أخرى، مثل الأدب، لم تسلم الجائزة من هذا الانحياز. ففى كل عام، تكشف اختيارات الأكاديمية السويدية عن ميل واضح نحو الأصوات التى تعبّر عن الضمير الأوروبى أو تتقاطع معه. فحين تُمنح الجائزة لكاتب غربى يتأمل الذاكرة والحروب والهوية، يُستقبل القرار بوصفه احتفاءً بالإنسانية. أما حين يكون الكاتب عربيًا أو إفريقيًا أو آسيويًا، فإن الاعتراف به غالبًا لا يأتى إلا بعد أن يصبح «مقبولًا» ثقافيًا فى الغرب. حتى نجيب محفوظ نفسه، الذى أضاء السرد العربى، لم ينل الجائزة إلا بعدما صار أكثر قابلية للتداول فى الفضاء الغربى، لا لأنهم اكتشفوا فجأة عبقريته.
لقد أصبحت نوبل فى كثير من الأحيان وسيلة لإعادة ترتيب التاريخ على الطريقة الأوروبية، فبدلًا من أن تكافئ الإبداع أو التضحية أو الفكر الحرّ، صارت تكافئ «الخطاب المقبول» الذى لا يُزعج الضمير الغربى. فيمنحون الجائزة لكاتب يكتب عن المآسى بلسان ناعم، ويتجاهلون آخر يصرخ من قلب الجرح. وكأن المطلوب ليس كشف الحقيقة، بل تقديمها بنكهة يمكن للعالم الأبيض أن يتقبلها دون انزعاج.
إن الخطورة لا تكمن فى الجائزة ذاتها، بل فى السلطة الرمزية التى تُمثّلها. فحين يصفّق العالم لاختيار ما، فإنه- من حيث لا يدرى- يكرّس مفهومًا أحاديًّا للسلام والعدالة والبطولة، يُقصى كل من يختلف عنه.
لقد تحوّلت نوبل إلى نوع من الاعتراف الغربى بالعالم، وكأن الإنسانية لا تُصبح كاملة إلا إذا صدّقت عليها أوسلو أو ستوكهولم.
وربما كان فى ذلك جوهر المشكلة: أن تظلّ معايير الخير والسلام والعدالة رهينة لجنة صغيرة فى بلدٍ صغير شمالىّ بارد، تتحدّث باسم العالم وتوزّع بركاتها الرمزية على من تشاء، متجاهلة الملايين الذين صنعوا السلام الحقيقى دون ضجيج أو كاميرات.
إن إعادة النظر فى «أسطورة نوبل» ليست تمردًا على الفكرة، بل دفاع عن جوهرها. فالجائزة- إن أرادت أن تبقى منارة للضمير الإنسانى- يجب أن تتحرّر من الأيديولوجيا، وأن تستعيد نقاءها الأول: تكريم من يصنع الخير لا من يُسوّق له، ومن يواجه العنف بالفعل لا بالكلام، ومن يكتب ليحرّر الوعى لا ليُطمئن الضمير الغربى المثقل بالذنب.
وربما تأتى السنوات المقبلة لتكشف إن كانت نوبل ستظل أداة لتجميل التاريخ الأوروبى أم ستتجرأ على مصالحة العالم مع تنوّعه الإنسانى الحقيقى. لعلها يومًا ما تُمنح لأولئك الذين يصنعون السلام فى صمت، أو يكتبون من الهامش دفاعًا عن الإنسان، لا لأولئك الذين يكتبون ببرودة محسوبة ترضى المركز وتغضب الضمير.
حتى ذلك الحين، سيبقى السؤال مفتوحًا: هل نوبل جائزة للسلام حقًّا، أم مرآة نرويجية يرى فيها الغرب صورته التى يحب أن يراها؟