عماد فؤاد يكتب: لم يكن خطأً يا آدم

لو سألَنى أحدٌ عن مَعْنى كلمةِ «فَنٍّ»
فسوف أجيبُ: «يدُ أُمِّى وهْيَ تطبخُ»
ولو طُلِبَ مِنِّى أن أقولَ شِعْرًا،
لرفعتُ مِلْعقةً وقلتُ: «تَذَوَّق».
أوَّلُ رائحةٍ عَلِقَتْ بأنفى فصرتُ أتشهَّاهَا مُذْ كنتُ طفلًا، كانت صدرَ أُمِّى، تحملنى على بَطْنِها بيدٍ، لتنحنى قاطفةً باليدِ الأخرى ثمرَ الطَّماطمِ مِنْ أرضٍ خضراءَ فى ظهيرةٍ مُشْمِسةٍ، كانت تَقِينِى حَرَّ الشَّمسِ بطرْحَتِها المفرودةِ على رأسى، وأنفى يتشمَّمُ فى الظّلِّ رائحةً حُلوةً لثَمَرٍ يانع.ٍ
اليومَ، وأينما كنتُ، لا أنتظرُ العودةَ إلى البيتِ حتَّى أفتحَ كيسَ الطَّماطِمِ أو عُلْبَتَهُ بعد خُروجى من أىِّ سوبر ماركت، أتناولُ عُنقودَ الثَّمرِ وأَتشمَّمُ الرَّائحةَ، وحينَ أجدُها غامرةً أُغْمِضُ عينىَّ وأنا أتنفَّسُها طويلًا. وحين لا أجدُها، ألعنُ التَّمدُّنَ الذى أوصلنا إلى ثمرٍ بلا طَعْمٍ ولا رائحةْ.
صرْتُ اليومَ حينَ أتعبُ، أُغمضُ عينىَّ وأعودُ إلى مَشْهدٍ بعيدٍ، أفتحُ فيه عينىَّ طِفْلًا فى الثَّامنةِ أو التَّاسعةِ، على نُورِ فَجْرٍ مُضبَّبٍ فى قريةٍ بعيدةٍ، حيثُ لمْ تُشْرِقْ الشَّمسُ بعدُ.
إحدى خالاتى تفتحُ بابَ الدَّارِ الخشبىِّ الكبيرِ، فَيَصُرُّ البابُ مع تحرُّكِ ثقله على مِفَصَّلاتِهِ الحديديَّةِ الصَّدئةِ، وخالةٌ أخرى تكنِسُ حصيرةَ القشِّ المفرودةَ على الأرضِ فى بهوِ الدَّارِ، وثالثةٌ تُشعِلُ «المَنْقَدَ» قبلَ أن تحملَهُ بين يديها، مُبْعِدَةً وجهها إلى أقصى درجةٍ كى لا يَطُولَها اللهبُ، لتضعَهُ فى مُنتصفِ الحَصِيرةِ بعدَ أن كُنِسَتْ.
أقاومُ كَسَلِى مُستجيبًا لنداءاتِ خالاتى لأنَّنا «بقينا الضُّهر»، فأَهْرَعُ زحْفًا مِن السَّريرِ لأجلسَ قُرْبَ النَّارِ، علَّ الدِّفءَ يوقظَنى.
هكذا أَفْهمُ اليومَ مَعْنَى كَلِمَةِ «الغُرْبَة»، الـمَسَافَةُ بَيْنَ مَكَانِى الآنَ وبَيْنَ هذا الـمَشْهَدِ، لَهَا طَعْمٌ مُرٌّ لا يُلَخِّصُهُ سِوَى هذهِ الكلمَةِ.
فى فيلم «عرق البلحِ» ثَمَّةَ جُمْلَةٌ مَبْحُوحَةٌ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ امْرَأَةٍ قَبْلَ الأُغْنِيَةِ الشَّهِيرَةِ وهىَ تقولُ: «نُوحْ يا غُرَابْ ع اللِّى قَتَلَتْهُ الغُرْبَة… نُوحْ يا غُرَابْ ع اللِّى قَتَلَتْهُ الغُرْبَة»، حِين سَمِعْتُهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ اِرْتَجَفَتُ، الصُّورَةُ وَحْدُهَا مُوجِعَةْ، لكِن آلَمَنِى أكثَرُ هذَا التَّشَابُهِ الغَرِيبِ بَيْنَ كَلِمَتِى «غُرَابٍ»... و«غُرْبَةْ».
مُنْذُ سِتَّةِ عَشَرَ عامًا وأنا هُنَا، قَلْتُ ليكُنْ، كما مُدَّتْ جُذُورِى بِلَا مَشِيئَةٍ مِنِّى هُنَاكَ، أَمُدُّهَا هُنَا بِمَشِيئَتِى، وكانَ أَنْ بَقَيْتُ، أُرَاوِحُ أحيَانًا بيْنَ الـمطَارَاتِ والـمُدُنِ، لكِنَّ ظَهْرِى مَسْنُودٌ إلى مكَانٍ بَعِيدٍ، بَيْتِى الَّذِى لا يَزَالُ هُنَاكَ، الـجُذُورُ الـحَيَّةُ الَّتِى تَرَكْتُهَا خَلْفِى، أَنْتَمى إِلَيْهَا وَتَنْتَمى لِى.
الغُرْبَةُ دَاخِلِنَا جَمِيعًا، سَوَاءَ بَقِينَا فى أَمَاكِنِنَا أَوْ غَادَرْنَاهَا، لَطَالَمَا شَبَّهَتُ الـمُدُنَ بِالنِّسَاءِ، ثَمَّةَ مُدُنٌ بَارِدَةٌ مَهْمَا كَانَتْ جَمِيلَةٌ، وثَمَّةَ مُدُنٌ تُوْقِعَكَ فِى غَرَامِهَا هكذا دُونَ أَنْ تَفْهَمَ السَّبَبَ، لِذَا آمَنْتُ بِأَنَّ الـمَكَانَ دُونَ أَهْلِهِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، تَتَحَوَّلُ دُونَهُمُ الجُدْرَانُ إِلَى خَرَابٍ.

فِى يَوْم مَا، أُمِرْنَا، نَحْنُ اَلْأَطْفَال، بِجَلْبِ جِوَالٍ صَغِيرٍ مِنَ الكُتُبِ القَدِيمَةِ مِنْ سَطْحِ الدَّارِ إلى خَالَتِنَا أَمَامَ الفُرْنِ، كَانَتْ كُتُبًا وَكَرَارِيسَ مُمَزَّقَة أَوْ تَالِفَة، فَتَحْنَا الجِوَالَ أَمَامَ يَدِىْ خَالَتِى فَبَدَأَتْ تَتَنَاوَلُ اَلْوَرَقَ وَتَدْفَعُهُ إلى النِّيرَانِ، حِينَهَا سَقَطَتْ بَيْنَ يَدَىَّ فَسِيلَةٌ مُتَبَقِّيَةٌ مِنْ كِتَابٍ، أَذْكُرُ حتَّى اليوْمَ الطِّبَاعَةَ الفَاخِرَةَ لِلْوَرَقِ المـُلَوَّنِ اَلْمَصْقُولِ، كَانَتْ القِصَّةُ مَبْتُورَة وَتَعْلُو كُلَّ صَفْحَةٍ رَسْمَة لِنَبْتَةٍ مَا، قَرَأَتُ ولَمْ أَفْهَمْ، كَانَ هُنَاكَ جُزْءٌ سَابِقٌ مَفْقُودٌ وَجُزْءٌ لَاحِقٌ لا وُجُودَ لَهُ، والحِكَايَةُ عَنْ شَجَرَةٍ غَامِضَةٍ نَبَتَتْ فِى غَيْطِ فَلَّاحٍ، فَكَانَتْ لِدَهْشَتِهِ تُنْبِتُ كُلَّ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ؛ الطَّمَاطِمَ والتُّفَّاحَ، البَاذِنْجَانَ وَالْمَانجُو، وَالْقَمْحَ وَالذُّرَةَ فِى اَلْغُصْنِ اَلْمُجَاوِرِ لِلرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ.
لمْ أكنْ أعرفُ حينها، أنَّ هذهِ الفسيلةِ ستكونُ كَنزى الذى سأحتفظُ بهِ فى مُخَيِّلَتى حتى يومِنا هذا، منذُ هذهِ اللحظةِ ربطَ عقلى بشكلٍ لا واعٍ بينَ الكتبِ وفكرةِ النُّقصانِ، صارَ كلُّ كتابٍ ناقصًا حتى لوْ اكتملَ، وكلُّ قصَّةٍ مَبتُورةً حتى ولوْ رُوِيَتْ. وحتَّى اليومَ، ما زلتُ أبحثُ عنْ الجزءِ المفقودِ مِنَ الكتابِ، وأكتبُ كمَنَ يرمِّمُ حكايةً ناقصةً قبلَ أنْ تأكلَها النيرانُ.
فى السنواتِ الأخيرةِ شعرتُ أنَّ الوجودَ الذى صنعتهُ هنا سيبقى طارئًا ولوْ إلى حينٍ، يومًا ما سأعودُ إلى المكانِ الذى غادرتُهُ صغيرًا، حيثُ لا شىءَ لهُ معنى دونَ «أهلٍ».
فى روايتها الأخيرةِ «عشرُ دقائقَ وثمان وثلاثون ثانيةٍ فى هذا العالمِ الغريبِ»، تُفَرِّقُ إليف شفق بينَ عائلةِ الدمِ وعائلةِ الماءِ، الدَّمُ هُوَ أَهْلُنَا الَّذِينَ لَمْ نُخْتَرْهُمْ، والمَاءُ عَائِلتُنَا الَّتِى كَوَّنَاهَا مِنْ أَصْدِقَائِنَا، حَصَادُنَا مِنْ الحَيَاةِ.
حاولتُ أكثرَ مِنْ مَرَّةٍ أنْ أزرعَ شجرًا فى بيتى ويموتُ، وكلَّما ماتتْ شجرةٌ زرعتُ غيرَها، حتَّى أيقنتُ أنَّ شمسَ الشَّمالِ ليستْ شمسَ الجنوبِ، فبدأتُ أزرعُ المزيدَ منْ أشجارِ ونباتاتِ الظِّلِّ. ولمْ أستسلمْ، كلَّما أعلنتْ نبتةُ الجاردينيا عنْ وردةٍ جديدةٍ، نظرتُ شاكرًا إلى يدىّْ.
يسألُنى ابنى: «لوْ خُيِّرْتَ.. فأينَ تعيشَ؟»، وقبلَ أنْ أفكِّرَ فى إجابةٍ، تملأُ أنفى رائحةُ ثمرِ الطَّماطمِ المقطوفِ للتَّوِّ، وأسمعُ صدرَ أُمِّى يعلو ويهبطُ وأنا نائمٌ على كتفها.
٤٥ عامًا، بنيتُ بيتًا وزرعتُ شجرةً وأنجبتُ صبيَّينِ ولويتُ لِسانى، وسنةً بعدَ أُخرى كنتُ أفعلُ ما يجبُ علىَّ فِعْلَهُ، ليتَّسعَ البيتُ وتُثمرَ الشجرةُ ويشتدَّ عودُهُما، حتَّى صارَ بإمكانى أنْ أضعَ ذراعىَّ على كِتفيْهما ونحنُ نسيرُ، أوْ أطلب ثمرةً منْ الشجرةِ، فيلتقطُها آدمُ ويمنحُها لى وهوَ يغْمزُنى: «هذهِ ليستْ تفاحةً يا أبى»..
الخروجُ منْ الجنةِ لمْ يكنْ خطًأ يا آدمْ، بلْ الخروج سبب فى التجربةِ.
هكذا أفكَّرُ وأنا أفتحُ بابَ بيتى هنا لأزيلَ ثلوجَ الشتاءِ، فأَحِنُّ إلى دفءِ صباحٍ بعيدٍ، كانَ يتسرَّبُ إلى جسدِى بمجرَّدِ أنْ أفتحَ أصابعى فوقَ اللهبْ.