أسئلة المستقبل.. الثقافة الرقمية
كيف نستعد لـ«وحش الذكاء الاصطناعى»؟
المراقب لمسار الثقافة والإبداع البشرى عبر العصور سيلاحظ بسهولة الارتباط بينها وبين الاختراعات والابتكارات العلمية، فعلى سبيل المثال لا يمكن مقارنة التدوين اليدوى وتأثيره بما تم بعد اختراع آلة الطباعة، ولا يمكن مقارنة وسائل النقل التقليدية بوسائل النقل الحديثة من عربات وقطارات وطائرات، ثم لا يمكن مقارنة عصر ما قبل الصحافة والإذاعة والتلفاز بما قبله ولا حتى ما بعده بعد انتشار الفضائيات، ولا يمكن مقارنة كل ما سبق بالعصر الرقمى، عصر شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعى والتطبيقات الإلكترونية وانتقال الأشكال الثقافية التقليدية مثل القصة والرواية والفنون التشكيلية والموسيقية والسينما وغيرها الى الصورة الرقمية الجديدة، وأيضًا لا يمكن مقارنة كل ما سبق بعصرنا الحالى، عصر الذكاء الاصطناعى، الذى أصبح فيه الإنسان، ولأول مرة، فى مواجهة مباشرة بين أغلى ما يملك وهو العقل والإبداع وبين الآلة التى اقتحمت هذا العرين بعد أن اقتحمت مجالات القوة العضلية فى عصر البخار والكهرباء.
إذن نحن فى عصر مختلف، شاء من شاء وأبى من أبى، عصر اتضح فيه جليًا الفرق بين الغاية والهدف وبين الوسيلة أو الأداة، فإذا سلمنا بأن الثقافة فى جوهرها هى بناء الإنسان الواعى القادر على الفهم والتفاعل والإبداع، وأنها ليست مجرد تراكم للمعرفة أو العادات، بل وسيلة لتشكيل الوعى الجمعى، وتنمية الحس النقدى، وتوسيع أفق الفرد ليصبح أكثر قدرة على فهم نفسه والعالم من حوله، فهى التى تمنحه القدرة على التمييز بين الجميل والقبيح، بين العدل والظلم، وتجعله يدرك المعنى الأعمق لوجوده وتسمو بروحه ومشاعره ووعيه وتزيد من حكمته، أما عن الأدوات فلا يجب أن نفتتن بها أو نصر على استخدام أدوات دون غيرها، فالكتاب المطبوع مع أهميته لن يستطيع أن يقف أمام الكتاب الرقمى والمسموع والمرئى أيضًا فى الجاذبية وسهولة وسعة الانتشار، وكذلك باقى الآداب والفنون، ويشمل الأمر أيضًا الإعلام ووسائله الرقمية الحديثة التى أحدثت ثورة كبيرة، حولت الجميع إلى مرسل ومستقبل فى الوقت نفسه، صانع محتوى ومتلقٍ لمحتوى الآخرين، ولذلك فإن التراجع فى المبيعات المرتبطة بالأساليب التقليدية، وكذا أيضًا الإقبال عليها فى مقابل الأساليب الرقمية الحديثة يجب ألا يقلقنا كثيرًا طالما الغاية تتحقق.
أما فى عصر الذكاء الاصطناعى فالأمر يزداد اختلافًا، إمكانات كبيرة لصناعة المحتوى الثقافى بواسطة الآلة، ومع ما فى ذلك من مخاطر ومحاذير مرتبطة بالدقة والتحيزات وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، ومخاطر زيادة الاعتمادية على تلك الأدوات، وما يمكن أن ينعكس على العاملين، وزيادة نسب البطالة أو تدهور القدرات الإبداعية لإنسان المستقبل، إلا أن الاستخدام الرشيد والمسئول بصورة أخلاقية ومنضبطة هو الحل الوحيد، وهو ما سيحتاج إلى تشريعات منظمة ووعى من المستخدمين، للوصول إلى صيغة مثلى لاستخدام الذكاء الاصطناعى كمساعد وليس كبديل.
جميع ما سبق يحتاج إلى استراتيجية واضحة تشمل محاور تنفيذية تتكون من مجموعة من الأنشطة القابلة للقياس تشمل تنمية الوعى ودعم الإبداع الرقمى وتجهيز البنية التحتية التقنية المناسبة، ودعم الصناعات الثقافية الرقمية، وريادة الأعمال، كما تشمل محورًا خاصًا بالتشريعات والقوانين واللوائح المنظمة، وأخيرًا وليس آخرًا تشمل محورًا للتعاون الدولى والتبادل الثقافى، فالكثير من مشكلات الثقافة المزمنة لا يوجد له حل إلا من خلال الثقافة الرقمية، أمور مثل تحقيق العدالة الثقافية واكتشاف المواهب واتساع نطاق نشر الأعمال الثقافة والفنية، وغيرها من الإشكاليات التى عانينا منها لعقود طويلة تستطيع الحلول الرقمية التغلب عليها فى أيام قليلة، تتبقى فقط الرغبة والإرادة لتحقيق ذلك، وهى إما تأتى طوعًا، أو ستغمر الجميع كالطوفان الذى سيقوده أجيال زد وألفا وما بعدهما.







