الجمعة 28 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الأدب القومى المصرى.. كيف؟..ولماذا؟

حرف

منذ أن عرف الأدب العربى القصة القصيرة فى مطلع القرن العشرين ارتبط هذا الفن الوارد حديثًا بقضايا الوطن والمجتمع، فعلى الرغم من الأصوات التى تؤكد معرفة العرب بفنون السرد القديمة، فإن القصة بوصفها قالبًا سرديًا حديثًا لم تتم ممارسته إلا فى تلك الفترة، وقد ارتبط فى بداياته الأولى بالدعوة التى أطلقها تيمور مقترنة بنشره قصته القصيرة الأولى فى القطار عام 1917، وهى الدعوة إلى إنشاء أدب قومى مصرى، توازيًا مع تحول مصر للمرة الأولى فى تاريخها المعاصر من ولاية عثمانية إلى دولة مستقلة تعانى الاحتلال الأجنبى.

منذ تلك الفترة ترددت مقولة جورج لوكاتش التى أقرها د. شكرى عياد، والتى تقرر أن القصة القصيرة تبلغ ذروة انتشارها فى أى مجتمع حديث عندما تعانى الطبقة الوسطى من أزمة ما، فى الوقت الذى تزدهر فيه الرواية حين تكون الطبقة نفسها فى حالة ثورة أو نهوض، وهو الأمر الذى يربط بين انتشار السرد عمومًا وحالة الطبقة الوسطى، كما أنها قاعدة لو طبقناها على حالة القصة القصيرة والرواية فى مصر خصوصًا، لا يتضح لنا مدى دقتها، إذا أخذنا فى الاعتبار أنها لا تعنى أبدا التنافس بين الفنين، أو أن فترة صعود إحداهما تعنى غيابًا كاملًا للأخرى.

لكن على مدار قرن وعقد تقريبًا ظلت القصة القصيرة امتدادًَا لتلك الدعوة لإنشاء أدب قومى مصرى هى الأكثر قربًا من التعبير عن تلك القضايا فى صورتها الأكثر قربًا إلى النفس، كما ظلت هى الأقرب دومًا إلى حالة التجريب الإبداعى، خاصة فى فترات ازدهارها فى أعقاب ثورة ١٩١٩، وفى فترة الستينيات، وفى أعقاب حرب الخليج الثانية، وبينهما حالات مفردة، حيث بدت تجارب كتاب القصة القصيرة المصرية محاولات دائبة لاستكشاف مناطق غير مأهولة فى الإبداع السردى، بداية من قصص عادل كامل فى الأربعينيات التى كسرت حاجز الإيهام للمرة الأولى، مرورًا بيوسف الشارونى الذى رسخ للكتابة الكابوسية، ومحمد حافظ رجب وقصصه الفانتازية الأقرب إلى السريالية، ويوسف إدريس بكتابته الموغلة فى الواقعية، وبهاء طاهر الباحث عن الجذور، وإبراهيم عبدالعاطى وسرد التقارير، وإبراهيم أصلان والكتابة من درجة الحياد الظاهرى، ويحيى الطاهر عبدالله، شاعر القصة، وصنع الله إبراهيم والكتابة من عمق المجتمع بلا أى تزيين، وغيرهم من الأسماء الكثيرة التى مثلت أجيالًا واتجاهات متعددة لا يتسع المقام لذكرها، حيث يمكن إحصاء أسماء كتاب القصة القصيرة منذ فترة الستينيات حتى الآن فى أكثر من ألف وخمسمائة اسم، أضاف عديد منها إلى شكل التعبير القصصى، وكان كثيرون ممن لم أذكر روادًا فى كتابتها.

وربما كان جيل التسعينيات- وهو الجيل الذى أعقب حرب الخليج الثانية- أكثر ذكاء فى التعامل مع المتغيرات التاريخية، فعلى الرغم من وجوده فى عمق أزمة ما بعد ضرب العراق، تلك الأزمة التى جعلت هذا الجيل يعلن عن نفسه بكتابة القصة القصيرة بالطريقة التى دشنتها مجموعة خيوط على دوائر لخمسة من الكتاب الشباب فى بداية التسعينيات، غير أن فكرة زمن الرواية، متمثلة فى الصيحة التى أطلقها د جابر عصفور فى أعقاب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، قد هيمنت على المشهد الإبداعى، فبدأ هذا الجيل نفسه فى كتابة الرواية التى يمكن اعتبارها مكتوبة بحبر القصر القصيرة، حيث ظهرت المتواليات القصصية، ورواية الأصوات، والرواية المستلهمة للغة الشعرية، وغيرها من الأنواع التى استلهمت فنونًا أخرى أهمها القصة القصيرة، وربما كان ذلك موطئًا لظهور الدراسة المهمة لإدوار الخراط حول الكتابة عبر النوعية فى تلك الفترة.

أيًا كان الأمر فقد ظلت القصة القصيرة على مدار حياتها المصرية تعبيرًا مهمًا عن حركة الأفراد داخل مجتمعهم، عن أزماتهم وصراعاتهم ورؤاهم للعالم والحياة واللغة، وظلت تعبيرًا دقيقًا عن تطورات نوعية فى الرؤى الأدبية المصرية، وانعكاسًا واضحًا لتحول الأدب من شكله الملتزم بقيم المجتمع إلى شكله الجديد المعبر عن الرؤى الفردية، تماشيًا مع الثورة الرقمية، وهو ما جعل من القصة القصيرة أقرب إلى التعبير عن حالة المجتمع العربى فيما بعد الربيع العربى، وتماشيًا مع موجة التواصل الرقمى الجديدة التى أدت إلى ظهور أشكال جديدة مثل القصة القصيرة جدًا.

وربما تنبئ الفترات المقبلة عن اتجاهات جديدة للقصة القصيرة، أكثر مسايرة لفكرة الفردانية التى رسختها تقنيات الصورة السيلفى ومواقع التواصل الاجتماعى، وهى الفن الأكثر جدارة بهذا الاتجاه نظرًا لطبيعتها المقتربة من النفس، لكن فى الوقت ذاته يجب على مبدعيها ألا يجعلوها فى منافسة مع فنون أخرى، لأن كلًا منها يمكنه الإفادة من الآخر، كما يجب التعامل مع القصة القصيرة بوصفها الفن المستقل الأكثر شاعرية فى مجال التعبير السردى عمومًا، والأكثر تعبيرًا عن اللحظة الحالية بتعقيداتها وتسارع تطوراتها، وهو ما يجعلنا نظن بأنها سوف تكون الأكثر انتشارا فى الفترة المقبلة.