محكيات.. محمد المخزنجى يخص حرف بأوراق من ذكرياته المجهولة
- مَحكيَّة: «عيادة فى زنزانة» عن أول ممارسة حية للطب مارستها قبيل تخرجى ببضعة أشهر، فى زنزانة بسجن المنصورة العمومى فتحها لى «العميد مصطفى» مأمور السجن الذى كان نموذجًا راقيًا جدًا لرجل فى هذا الموضع الخشن.
- لدىّ كتاب قصصي من خمس قصص طوال بعضها يقارب النوفيلا
- شبه مكتملة وتحتاج لـ«قعدة مراجعة»
- «لأن الأمور كما هى عليه، فلن تظل كما هى عليه». جملة لا تراها مجرد تعبير بلاغى، بل قانون فى صيرورة الأمور والدهور، تؤكده وقائع التاريخ وتؤمن بحتميته.
- «التجارب الكبرى» فى حياة الكاتب هى: الحب، الحرب، المشارفة على الموت، السجن

مع قرب صدور العدد الـ100 كان د. محمد المخزنجى على رأس قائمة «المستهدفين» بالحوار معهم، وبالفعل جرى التواصل، كما العادة فى الحديث إليه، لكنه هذه المرة أجاب بشكل مختلف... فماذا قال أديبنا الكبير؟.
يا إيهاب.. لقد قرأت الأسئلة التى أرسلتها، ولن أجيبك عنها كلها، كما لن أجيب عن كل سؤال على حدة، فبعد أن وصلت إلى هذا العمر، ومررت فى فبراير الماضى بأزمة صحية مهددة للحياة جعلتنى لشهر كامل رهين الرعاية المركزة، حتى خرجت متعافى، وإن بهشاشة صحية، صرت أضيق بأشياء كثيرة لم أكن أضيق بها من قبل، ومنها الحوارات الصحفية بأسلوب الأسئلة والأجوبة، إذ باتت تذكرنى باستجوابات مريرة مررت بها منذ عمر السادسة عشرة حين كنت طالبًا فى الصف الأول بمدرسة المنصورة الثانوية، حيرنى كتاب «أصل الأنواع» بترجمة إسماعيل مظهر، الذى أضاف إليه هوامش تبلبل فكر صبى فى هذا العمر. صبى كان وكما ظل لا يعرف المراوغة فى المجاهرة بما يحير فكره، وعندما التمس من أساتذة فصله بعض ما يهديه فى هذه الحيرة جوبه من بعضهم بدمغه بالانحراف الفكرى وما هو أشنع، وتوسعت البلبلة حتى وصلت إلى حد أخذه من الفصل مقبوضًا عليه للتحقيق معه بمقر ما كان يسمى حينها «المباحث العامة» لمعرفة ما وراء «الواد ده» من شيوعية وشيوعيين! بينما لم يكن «الواد ده» يعرف أن فى مصر شيوعية وشيوعيين، إذ كان يحسبهم هناك بعيدًا فى الاتحاد السوفيتى؟!

كان ذلك أول اعتقال لى بتهمة الشيوعية التى ظلت تلاحقنى عشرات السنين؛ رغم أننى واقعيًا لم أنتم أبدًا إلى أى تنظيم شيوعى؛ رغم قناعتى التى نمت فيما بعد بتبنى مطلب العدل والحرية، وترسخت داخلى مع الوقت قناعة بأن الأدلجة الشيوعية يوتوبيا صنمية مآلها إلى الانهيار، ثم جاءت بعثتى لدراسة الاختصاص الطبى فى الاتحاد السوفيتى لتؤكد أن ما ذهبت إليه بالحس هو واقع يخفى وراء بريقه وفى داخله أدوات انهياره، وكانت كارثة تشيرنوبل التى عاصرتها عن قرب أكبر تصديق لنذير الانهيار والتحلل الذى هجست به.
انتهت يوتوبيا الشيوعية، وانتهى وصم الصبى الذى مضى به قطار العمر سنين وسنين تؤكد أنه لم يُخلَق ليكون مؤدلجًا، بل متطلعًا بشوق إلى العدل والحرية كنبراس إنسانى وجمالى، ومبتهلًا إلى الله الذى فى روحه وروح عظمة الكون الذى لم يكف عن تأمله عبر ثقافة العلم التى جلَّت له هذه العظمة. ومضت سنوات وعقود؛ لكن يبدو أن محنة ابن السادسة عشرة الذى ذاق مرارة الاعتقال وثقل التحقيق، ولو ليوم واحد، صار قدره الاعتقال والتحقيق، حتى عمر الثانية والثلاثين! ومضت تلك الأيام، لكن الضيق من أى استجواب ظل على حاله، حتى لو كان أسئلة صحفى محب وصحيفة ترحب بك.
ومع إضافة المرور هذا العام بمحنة حالة مرضية مهددة للحياة، مضت تاركة آثارًا تشى بأن ما بقى من العمر والطاقة ليس كثيرًا، برز سؤال الكتابة، التى هى إكسير حياة أى كاتب. ماذا أكتب فى هذه البقية من الطاقة والعمر؟ وكيف أكتب؟ وهناك الكثير مما لم أكتبه وأود كتابته، وهناك ما كتبته ويقلقنى عدم نشره، وأخص منه موسوعة «جديد عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» التى تحتاج أكثر من ألف صحفة للنص غير الصور التى لا تقل أهمية عن النصوص، وهى مقالات علمية أدبية مكثت أنشرها لأكثر من سبع سنوات فى الصحافة ولاقت ترحيبًا كبيرًا من القراء. كما أن لدىّ كتابًا قصصيًا من خمس قصص طوال بعضها يقارب النوفيلا شبه مكتملة وتحتاج لـ«قعدة مراجعة».

ليس أخيرًا، وإزاء تجارب متفردة عشتها وتحتاج كتابة أحبها، خلصت أن ما عطلنى عن كتابتها هو البحث عن «فورم» أو قالب للكتابة لتكون قصصًا أو روايات موجزة، وهذا صار فوق طاقتى وحدود صبرى الذى انكمش! لهذا خلصت، أو اهتديت، إلى أن أكتب هذه التجارب مقتنعًا بصيغة الاسترسال فى الحكى، لتكون «محكيات»، وقد بدأت فى أولها وقطعت فيها شوطًا، إنها مَحكيَّة: «عيادة فى زنزانة» عن أول ممارسة حية للطب مارستها قبيل تخرجى ببضعة أشهر، فى زنزانة بسجن المنصورة العمومى فتحها لى «العميد مصطفى» مأمور السجن الذى كان نموذجًا راقيًا جدًا لرجل فى هذا الموضع الخشن، وكانت هديته هذه لى كسجين سياسى وراءها سببان؛ أولهما إدراكه أننى فى السنة النهائية وأمامى امتحان تخرج ويستحسن أن أكون منفردًا فى زنزانة أذاكر فيها، وأستقبل مرضى عنبر السجن بعد أن ذاعت شهرتى كـ«طبيب» يعالج المسجونين الذين يلتمسون علاجًا من حالات طارئة بعد انصراف طبيب السجن عند الظهيرة وعدم وجوده فى الليل. كانت تجربة عجيبة على امتداد سبعة أشهر.
أما التجربة الثانية، وهى «لاعب السيرك المُقنَّع» الذى كنته، فبعد أن وضعتنى ظروف التعاطف مع فرقة سيرك جوال فى المنصورة لأنوب عن لاعب الأكروبات ورجل الفرقة إذ لحقت بقدمه إصابة أعاقته عن أداء دوره، وكان يسيرًا بالنسبة لى كلاعب جمباز فى قطاع البطولة. تجربة استمرت عامًا ونصف العام حتى دخلت كلية الطب، وكنت أدفس رأسى فى طاقية حتى لا يفضح سرى من يتعرف علىَّ ويعرفنى ويصل الأمر لأبى وزملائى فى المدرسة. أما التجربة الثالثة فهى نتاج شهر بين الحياة والموت فى الرعاية المركزة، وقد منحتها اسم «حرب السيبتيسيمبا» أو «زنزانة بيضاء لا ينغلق بابها». أتمنى أن أنجز ذلك، أو بعض ذلك، ولعل ذلك يلتمس لى عذرًا عند الأصدقاء فى ميلى إلى الانفراد الذى كان موجودًا وضاعفته المحنة، والرجاء.
وها هى مقدمة المحكية الأولى التى قطعت فيها شوطًا آمل أن أكمله قريبًا.

عيادة فى زنزانة
الآن أدخل فى سنتى الخامسة بعد السبعين، أعتقد أننى كتبت كثيرًا، لكننى لم أكتب الأكثر، وأمام هذا الأكثر الذى لا يزال فى ذاكرتى يحوم، كسرب طيور يشكل سحابة فى أفق هذه الذاكرة، ينداح مرة مقابل أشعة الشمس فيسطع بشدة، وينقلب فى اندياحه فيتحول إلى حومة غيم، يتبعثر ويتجمع، ويدور، يختفى لكنه يعاود الظهور، وفى معاودة ظهوره تشرد من السرب مفردة تقترب بإلحاح وأسمعها تنادينى ألا أنساها. وها هى مفردة السجن تحط على عتبة نافذتى كيمامة شاردة، وتظل، تدير رأسها ناظرة إلىّ بعينى طائر معاتب: لماذا لا تكتبنى؟! لماذا لا تكتبنى؟! أنت الذى رددت فى أكثر من مقابلة أن «التجارب الكبرى» فى حياة الكاتب هى: الحب، الحرب، المشارفة على الموت، السجن. وقد كتبت عن معظمها قليلًا أو كثيرًا، لكنك لم تكتبنى، لم تكتب تحديدًا تجربتك كسجين سياسى يفتتح عيادة يمارس فيها الطب فى زنزانة سجن عمومى، وهى تجربة غريبة، فيها ما يدهش، وما يضحك، ما يوجع ويُبكى، وعندما مررت عليها ببضعة سطور فى مقال بجريدة الشروق منذ سنوات، حادثك كاتب السيناريو الكبير القدير الأستاذ وحيد حامد، وطلب منك أن تكتب مختصرًا لهذه التجربة فى بضع صفحات كقصة للسينما يحولها إلى سيناريو. أسعدك كرم المبدع الكبير، وكان العرض مغريًا، لكنك كعادتك، حدث اختطافك إذ تناديك مواضيع أخرى وقصص أخرى، فلم تكتب هذه القصة المطلوبة للسينما التى كانت مفرداتها كلها حاضرة فى ذاكرتك، ولا يتطلب الأمر منك إلا بضعة أيام تنتقى منها بضع مفردات تصنع قصة للسينما تكتبها فى صفحات قليلة. لكن ما أعجب ما يختطفك من نداءات مفاجئة. أجلت بدء هذه البضعة أيام لأسابيع، فشهور، فسنوات، ورحل الجميل القدير وحيد حامد، فحزنت حزنًا عظيمًا على مبدع نادر أحببته وأحبك. ومرت أعوام وأعوام تكفلت بنسيان الأمر كله. فلماذا الآن تناديك حكاية هذه التجربة؟ واثنتين غيرها؟ لماذا تؤجل تلبية النداء؟ بينما لم يعد فى كأس العمر غير ثمالة!

إنه زحام الكثير من الذكريات والأحلام والمشاريع فى حيز صار ضئيلًا بحكم واقعية القليل الذى تبقى من العمر، ومحدودية ما تبقى من الطاقة، ناهيك عن «صدة النفس»، ما تلطخ به الحاضر من رثاثات عالم وعالمية تنذر البشرية بالغرق فى مستنقع آسن كبير من الإجرام، والغطرسة، وبلادة الحس والذوق، وشؤم المسير والمصير. ألا تبالغ؟ تسأل نفسك، فتستدرك: لا أبالغ، بل ربما الأمر أقسى من ذلك، لكن، وكما تظل تردد جملتك المأثورة: «لأن الأمور كما هى عليه، فلن تظل كما هى عليه». جملة لا تراها مجرد تعبير بلاغى، بل قانون فى صيرورة الأمور والدهور، تؤكده وقائع التاريخ وتؤمن بحتميته، فما من ظاهرة متطرفة السوء تمضى إلى تأجُج متطرف، إلا وأسرعت نحو الاحتراق، ومن رماد احتراقها ينبت الجديد. فلماذا يُقعدك تشاؤمك عن التماس الكتابة فى هذا الموضوع، وغيره، ولو كوسيلة علاج نفسى «سيكو ثيرابى» ذاتى، أو تَطهُّر نفسى جديد «نيو كاثارسث»، تؤمن بهما إيمان عارف ومجرب. ما الذى يقعدك؟!

ما الذى يُقعدك عن التماس هذا الاستشفاء الذاتى المجانى الذى تقدمه الكتابة للكُتَّاب، والتى بدونها يموتون فعليًا، إما كموتى فى الحياة، أو كموتى يغادرون الحياة، ما الذى يُقعدك عن العودة إلى فراديس ذكرياتك، وذكريات أى كاتب هى فراديس، سواء كانت مُفرحة أو مُترِِحة ؟ لماذا؟!.. الذكريات حية داخلك، ومكان الكتابة يناديك، وتوقك لتحويل الذكريات إلى نصوص كبير ومُلح.. فما الذى يقعدك؟ تذهب إلى ركنك الأثير فى المقهى، وتُخرِج مكتبك المتنقل من حقيبتك ذات العجلات الأربع واليد تليسكوبية الاستطالة، أهداك ولداك الجميلان إياها بعد رحلتهما إلى اليابان، رهافة إحساس منهما بأن حقيبة الظهر الممتلئة بكل مفردات هذا المكتب المتنقل صارت تثقل ظهرك؟
هل هى قفلة الكاتب؟ ربما؟ لكن ما هى قفلة الكاتب اللعينة هذه؟ أنت تعرف كطبيب نفسى أنه ما من كاتب إلا وعاناها فى مرحلة ما من عمر كتابته. وتعرف أن الكتَّاب «ألمديوكر» لا يعانون هذه القفلة أبدًا، فهم دائمًا فى غاية الرضا عما يكتبونه من نصوص متواضعة. لكنك لست من هؤلاء الكتاب، فأنت لا تبلغ تمام الرضا أبدًا عما تكتبه، حتى لو نال الثناء من قراء جيدين أو نُقاد عُدول. فما الذى يقلقك إزاء ما تضج به الذكريات داخلك، وذكرياتك ليست عادية، ومنها ذكريات هذه الـ«عيادة فى زنزانة» التى مارست الطب فيها أول ما مارست وأنت على مقربة أشهر من أداء الامتحان النهائى للتخرج طبيبًا، سجينًا يعالج سجناء.

«سجينًا يعالج سجناء» تتردد أصداؤها فى رأسك، فيومض خاطرك بعنوان رائعة العظيم دوستويفسكى « ذكريات من منزل الأموات»، وعبر وميض هذا العنوان يرشقك رنين كلمة «ذكريات»، يعلو ثم يخبو، كما لو كان ارتدادًا لصيحة ألقيتها فى بئر سحيقة، فإذا بها ترتد إليك صدى يتعقب الصدى، ومع تعاقب صعود هذه الأصداء إليك، يتجلى صوت فيروز السماوى، يصدح بما شدا به عبدالوهاب من قصيدة شوقى «جارة الوادى»: «والذكريات صدى السنين الحاكى»، فتدندن مغنيًا معها؟! وإذا بدندنة هذه الشطرة تضىء مفهومًا عميقًا ودقيقًا لتجليات أدب النثر كله، خاصة أدب البوح، قصة وقصيدة ومسرحًا وسينما، فكلها من مملكة الحكى، «الحكى» الذى صارت حذلقات الحداثة تدعوه «السرد»، ثم تتعالى عليه ادعاءات تحديث الشكل أو «الفورم» فتنفى عنه هبة السرد الذى هو قرين الحكاية، فتقرأ نثرًا لطيفًا، لكنه منزوع الحكاية، أى منزوع الروح، حلاوة الروح! نعم، فالقصص الجيدة كلها والروايات العظيمة كلها، والشعر الخلاب كله، بل حتى أروع اللوحات وأعرق الموسيقى، جميعها مدين فى جوهره لما وراءها من حكايا فى حياة المبدع، وتبلورها: هبة الحكى!

نعم هبة الحكى، هذه التى أنت مجبول عليها، ومكتنزة فى كل ما كتبت وما حكيت وما يشكل ذكرياتك، فما الذى يعوقك عن الحكى؟ آاااه.. الآن وجدتها، نعم وجدتها، منذ اصطدمت بأول موجة من موجات «قفلة الكاتب» التى لا يفلت من مداهمة موجات عواصفها كاتب، أو فنان: إنها معضلة «الفورم»، القالب، الذى يتحول عبره الحكى إلى قصص وروايات. ولا شك أنه لم يعد لديك وقت ولا صبر ولا طاقة لإعادة نثر ذكرياتك ضمن قالب. فلماذ لا تحكى دون اكتراث بقالب؟ لماذا والتراث القصصى الإنسانى الخالد معظمه وصل إلينا طليقًا غير مقيد إلا بمتعة الحكى وإمتاعه، فلماذا لاتستمتع بالحكى، لعلك به تُمتِِع؟ إحْكِ.
«إحْكِ» قلتها لنفسى، وها أنذا أشرع فى إطلاق سراح الحكى، حرًا، دون قيد، عن ذكريات تلك التجربة الـ«عيادة فى زنزانة»!







