عمرو منير دهب: أحمد شوقى أهم من المتنبى
- لو كانت هناك «ربة شعر» لن تكون مع شاعر إلا شوقى
- تفوق شوقى على المتنبى هى الحقيقة التى يخشى النقاد الجهر بها
- نزار قبانى لم يحقق ما حققه «أمير الشعراء» رغم شاعريته الكبيرة
- لو لقب «أمير الشعراء» يزعج البعض فيمكننا أن نلقبه بـ«ملك الشعراء»
بعد 4 عقود من البحث والتأمل، أصدر الناقد عمرو منير دهب كتابه الجديد «شوقى الأخير زمانه»، عن «منشورات ضفاف» فى بيروت، و«منشورات الاختلاف» فى الجزائر، ودار «سامح» للنشر فى السويد.
فى هذا العمل، يستعيد «دهب» تأثير أمير الشعراء أحمد شوقى فى تكوينه الأدبى، مستحضرًا فى عنوان كتابه شطرة من بيت أبى العلاء المعرى: «وإنى وإن كنت الأخير زمانه.. لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل»، ليدلل على أن «شوقى» فاق الجميع فى شعره.
عن تجربته لشعر «شوقى»، والمقارنة بينه وبين «المتنبى»، ونزار قبانى وغيره من شعراء الأجيال الجديدة، أجرت «حرف» الحوار التالى مع عمرو منير دهب.

■ ما ملابسات كتابتك بـ«شوقى الأخير زمانه»؟
- فى الحقيقة سبق هذا الكتاب كتابٌ آخر بعنوان «التفتيش فى قلب المتنبى»، كتبته بإيعاز من أشواق وحنين إلى بداياتى الأدبية التى تشكلتُ خلالها على إبداع فحول القصيدة العربية الكلاسيكية، وأبرزهم بالنسبة لى المتنبى وشوقى، بل للدقة شوقى والمتنبى بترتيب التأثير من الناحية الشخصية ومن وجهة نظرى الفنية الخالصة أيضًا.
وأنا أعمل على كتبى بصورة متوازية فى الغالب، وكنت بصدد أكثر من مشروع كتاب، وعندما فرغت من كتابى عن المتنبى خشيت أن أتأخر فى الكتابة عن شوقى، لكن ذلك لم يحدث لحسن الحظ، فالكتابة عن أمير الشعراء بدت لى كما لو كانت بمثابة ردّ الجميل الأدبى الذى لا أريد أن أرجئه أكثر من ذلك.
كنت أنوى إنجاز الكتاب بشكل مختلف، كنت أريد أن أتذوقه تذوقًا جماليًا خالصًا، أى من الناحية البلاغية الفنية فحسب، لكن وجدت نفسى أبحر فيه مع الأمير نفسيًا وعاطفيًًا وفكريًا وسياسيًا، وعبر السياقات ذات الصلة بالشاعر الكبير وحياته الصاخبة بالإبداع والأحداث المختلفة، فاتخذ الكتاب بذلك شكلًا مغايرًا، شكل الدراسة التحليلية والتذوق الجمالى فى آن معًا لأعمال أمير الشعراء.
ما همنى فى الكتاب ليس فقط مجرد إبراز عبقرية شوقى، وإنما كنت أريد أن أوضح تحديدًا لماذا هو أبرع الشعراء العرب الغنائيين قاطبة فى كل العصور، وهى مهمة ليست سهلة بطبيعة الحال.
أما المقارنة المتكررة فى الكتاب مع المتنبى فهى لأن الأخير هو الأشد تأثيرًا فى التاريخ الشعرى العربى، ويراه كثيرون الأبرع، والحقيقة أن المتنبى شاعر عظيم لا ريب، وهو عندى كما أشير مرارًا فى الكتاب، بل كما أشرت أيضًا فى كتاب «التفتيش فى قلب المتنبى»، يأتى فى المرتبة الثانية فى تاريخ الشعر العربية من حيث البراعة الفنية بعد أحمد شوقى، وهذا رأى لم يخش أن يقوله قبلى أكثر من شاعر وناقد، مثل عزيز أباظة وأحمد رامى، لكننى فصّلت فيه القول وأطلقته بلا تحفظ.

■ إبراز أن «شوقى» الأبرع عبر العصور يتطلب معرفة كبيرة وإبحارًا فى عوالم الكثير من الشعراء المجيدين.. كيف كانت رحلة بحثك؟
- كانت رحلة بحث طويلة وعريضة وعميقة، لكنها لم تكن شاقة بقدر ما كانت ممتعة، وإنْ تطلّبت الكثير من الجهد والتركيز. هذا الكتاب لم يأت وليد صدفة عابرة مع عالم أمير الشعراء، لكنه أتى بعد ارتباط وشيج بذلك الأمير، لا أظننى مبالغًا لو قلت إن عمره أربعون عامًا، كانت رحلة طويلة جدًا لكنها ممتعة، منذ بواكير تشكّلى الأدبى كما ذكرت، وحتى بعدما استقلتُ من بلاط الشعر واتجهت إلى الكتابة النقدية ظل الشعر الغنائى التقليدى راسخًا فى كيانى.
فى هذا الكتاب أعدت عملية البحث خلال الكتابة كأننى أتعرف على شوقى من جديد، كنت أحيانًا أكتفى باستعراض أبيات من الشوقيات، وأبين مواضع الجمال فيها، فكأنما هو تذوق جمالى خالص وفريد، وكثيرًا ما وجدتنى منساقًا نحو التحليل والنقد من مداخل نفسية وأدبية وفكرية وسياسية ووطنية ودينية وغيرها، كانت مغامرة ممتعة ومستحَقة تمامًا.
أهمية الكتاب بالنسبة لى تكمن فى أحقية شوقى باعتلاء ذروة الشعر العربى التقليدى من الوجهة الفنية الخالصة، وهو رأى يخشى الجهر به حتى النقاد البارزون فى العادة، ولذلك أكثر من سبب، ومن أهم تلك الأسباب سطوة القديم، ومنها شخصية المتنبى «تحديدًا» ذات التأثير الطاغى على وجدان العرب وتاريخهم الشعرى والفكرى، وهو أيضًا تأثير مستحَق لا ريب، لكن فى تقديرى يظل شوقى هو الأشد براعة والمتنبى هو الأشد تأثيرًا.
■ قلت فى أحد الفصول إن شوقى تلافى عيوب المتنبى.. فما أبرز تلك العيوب؟
- أبرز عيوب المتنبى أن شعره يدور حول ذاته، والمفارقة أن العامة والخاصة أحبته، لذلك على الأرجح فنرجسيته لم تكن منفرة لجماهيره بقدر ما كانت جاذبة لهم. لكن من الناحية الفنية كانت تلك النرجسية عيبًا واضحًا فقد حشرته فى مواضيع ضيقة؛ وإن كنت أعود مجددًا فأقول إن عبقريته تجلت هنا أيضًا، فقد استحوذ على الناس من خلال غرضين تقريبًا: المدح والهجاء.
فى المقابل، كان شوقى شاملًا فى أغراضه، بما لا يدع مجالًا للمقارنة مع المتنبى، وكان عميقًا وممتعًا فى الوقت نفسه.
فى كتاب «يتيمة الدهر» يذكر أبومنصور الثعالبى قرابة العشرين عيبًا على شعر المتنبى؛ وبالنظر إلى تلك المعايب- على سبيل المثال- نرى شوقى يسلم منها جميعًا تقريبًا، فهو لا يلجأ إلى غريب الألفاظ ولا يكثر من استخدام ضرورات شعرية أو لوازم بعينها، وشعره متدفق عذب يلائم مقامه كأبدع ما تكون الملاءمة.
■ استخدمت شطرًا من البيت الشعرى لأبى العلاء المعرى «وإنى وإن كنْتُ الأخيرَ زمانُهُ.. لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل» فى وضع العنوان.. فهل أتى شوقى فى رأيك بما لم يستطعه الشعراء الأوائل جميعًا؟
- هذه إشارة موفقة جدًا منك، والحقيقة أننى قمت بالفعل باستعارة العنوان مباشرة من أبى العلاء المعرى، وقبلها كنت قد عمدت إلى استعارة أخرى من المعرى فى أولى المقالات تحت عنوان «لو سمح أبوالعلاء المعرى»، افترضت فى ذلك المقال أننى أستأذن أبا العلاء فى سحب شرحه لديوان المتنبى بعنوان «معجز أحمد»- رغم الملاحظات حول ذلك الشرح ونسبته إلى المعرى- ليكون عنوانًا لشرح «الشوقيات»، وكلا الشاعرين العظيمين اسمه أحمد.. كنت أرى شعر شوقى الأجدر بأن يوصف بالمعجز كما بيّنت فى كتابى تحت أكثر من عنوان.

■ ألا توافق على أن الشعر لا يوجد به «أفعل التفضيل»؟
- قد يبدو غريبًا أن أجيب بنعم ولا معًا. بالفعل من الصعب القول إن هذا أجمل من هذا مطلقًا فى الشعر، لأن الجميل لا يلغيه أو يقلل من قيمته عمل آخر حتى لو بدا أجمل منه، وهكذا. لكن فى المقابل، هناك «أفعل» التفضيل بوضوح، فثمة صاحب أطول قصيدة، وهناك أول من هجا نفسه وأول من رثى نفسه، وهناك أشهر من كتب فى الخمر وأبرز من اشتهر بالوصف، وهكذا.
من ناحية أخرى، أفضلية شوقى لا تعنى أن كل ما قاله يتفوق فيه على كل ما قاله الآخرون وأنه لا توجد قصائد تبزّ قصائده، وإنما الحكم هو الأفضلية بالنظر إلى أعماله مجملة.
كذلك الفكرة هنا ليست فى لقب أمير الشعراء تحديدًا، وأنا أقول ممازحًا لمن يضيق بهذا اللقب: «يا أخى إذا كان لقب الأمير يضايقك فليكن شوقى هو ملك أو سلطان أو رئيس أو شيخ الشعراء»، اللقب فى ذاته لا يعنى شيئًا، قيمة الشاعر الفنية وتأثيره هما ما يفرضان مكانته ابتداء.
وعلى مدار حياة شوقى كانت هناك مقارنة بينه وبين حافظ إبراهيم فى ثنائية متكلّفة، لأن الفارق بين الاثنين كبير، فقد صُنعت تلك الثنائية لأن الجماهير تحفظت فى البداية على شوقى لأنها رأته منحازًا للسراى، وبالتالى تطلعت إلى شاعر خرج منها فكان حافظ إبراهيم هو ذلك الخيار المثالى الذى دفع به ورفع نجمه البعض مثل الشيخ على يوسف، ولكن القيمة الفنية يجب أن يحكم بشأنها الناقد بمنأى عن هذه التحيزات، نحن هنا نحكم على شعرية المتنبى وشعرية شوقى بعيدًا عن كل هذه الرؤى، فلا نقول إن المتنبى مثلًا كان شاعرًا يقتات بالشعر ويعيش عليه لذلك، فشعره غير جدير بالتقدير، شوقى أيضًا فعل نحو ذاك، وهذا لا يقدح فى القيمة الفنية لأى منهما، نحن هنا نستحضر ما كتب ونحكم عليه بالتجرد من كل هذه الأمور.
■ ألا تدخل الأجيال الجديدة من الشعراء فى منافسة مع شوقى؟
- بالنسبة للأجيال الجديدة من الشعراء هناك أصوات رائعة مؤكدًا، لكن التأثير يتطلب اكتمال المشروع الإبداعى واستواءه على سوقه من الناحية الفنية بموازاة رأى الجماهير، وهذه مهمة باتت صعبة فى هذا الزمان بالنظر إلى المنافسة التى دخلت فيها أدوات تشكيل متعددة لوجدان ووعى الجماهير.
يجب الانتباه، كذلك، إلى أن المقارنة هنا على صعيد الشعر الغنائى التقليدى، فالشعر الحر مسألة أخرى، وفى هذا السياق أذكر أن بعض النقاد كان يرى نزار قبانى شاعرًا غنائيا يكتب القصيدة التقليدية ويبيعها للناس على أنها شعر حديث.
نزار شاعر كبير، لكنه لم يبلغ فنيًا مبلغ شوقى الذى طرق بشعره التقليدى الصرف كل الأغراض الشعرية تقريبًا وأضاف جديدًا لها من خلال الشعر المسرحى والقصص الرمزية على ألسنة الحيوانات على سبيل المثال.

■ هناك فصل فى كتابك اسمه «شوقى والذكاء الاصطناعى».. فما علاقة الاثنين ببعضهما؟
- قد يرتبط هذا العنوان لهذا الفصل بعنوان آخر لفصل آخر اسمه «ربة الشعر الشوقية»، وقلت فيه إننى لا أميل لأن تكون هناك ربة للشعر تلقيه على عقل الشاعر، وذكرت أن إثبات وجود تلك الربة صعب جدًا إن لم يكن مستحيلًا. ثم قلت مستدركًا إنه إذا كان لا بد لى من أن أؤمن بوجود ربة للشعر فلن يكون ذلك مع شاعر سوى شوقى، وذلك بالنظر إلى ما عرف عنه من تدفق شعرى هائل لحظات تلقى الإلهام، ولجودة شعره الفائقة أيضًا.
الأمر مشابه بالنسبة لفكرة الذكاء الاصطناعى، مع ملاحظة أن تجليات الذكاء الاصطناعى باتت حقيقة لا مراء فيها. إنتاج شوقى يشبه من حيث السرعة والغزارة والشمول والقدرة على إثارة الدهشة ما ينتجه الذكاء الاصطناعى، وفى هذا بعض المبالغة فيما يتعلق بالسرعة والشمول، لكن المقارنة تخلو من أى مبالغة فيما يتعلق بالإتحاف الفنى الجمالىّ. فى النهاية، المعجزة تكمن بصورة علمية على الأرجح فى نمط فريد من التفاعلات الكيميائية والتدفق الهرمونى فى دماغ وجسد المبدع، وأميرنا الشعرى هذا كان آية على هذا الصعيد.
■ هل كانت عمومية وشمول شعر شوقى وانحصار الآخرين فى أغراض ومواضيع معينة هى نقطة تفوق له؟
- بالطبع، فشوقى له العديد من نقاط التفوق منها هذه النقطة، فى الحقيقة هو غطى ما لم يغطه أى شاعر من قبل، كتب المسرحية الشعرية وكتب الشعر فى قصص للأطفال، وغير ذلك من دقائق المواضيع.
كما أن شوقى كتب شعرًا بالعامية، فكتب قصيدة «النيل نجاشى» التى غناها «عبدالوهاب»، وأشرت فى الكتاب لقصيدة أخرى كتبها فى زواج ابنه الأكبر بالعامية وغناها «عبدالوهاب» أيضًا، كما كتب شوقى على ألسنة الحيوانات شعرًا وقصصًا كما ذكرنا، وكتب فى مختلف المناسبات بما أكسب شعر المناسبات ألقًا فريدًا وخرج به من خصوصية أى مناسبة إلى آفاق فريدة من الحكمة والبلاغة؛ بل إن شوقى بزّ فى الشعر الوطنى حافظ إبراهيم- القريب من الجماهير- من حيث الشمول والعمق، ومن حيث الشعرية على وجه العموم.
■ هناك باب اسمه «خصوم شوقى».. ماذا عن هذه المنطقة فى حياته؟
- مفارقة فعلًا أن تكون لشخصية بالغة التهذيب خصوم، ولكن الخصوم هنا موجودون بضرورة الإبداع نفسه، وشوقى كان مبدعًا عظيمًا، فليس غريبًا أن يكون له خصوم ألدّاء.
شوقى ولد بجوار القصر ونشأ فى كنف الخديو، فاعتبره البعض شاعر السلطة، فقاموا بتصعيد حافظ إبراهيم ليكون له ندًا ويكون شاعر الجماهير كما ذكرنا برغم الفارق الفنى الكبير بينهما.
العقاد مثلًا شن حملة شعواء على شوقى، وأجحف العقاد فى حملته، فقد كان استهدافه شخصيًا فى صورته الغالبة التى لم تخفَ على أحد. كذلك كانت المنافسة الأدبية حينها بالغة الحدة، فلم يكن ثمة مناص من أن تكون الخصومات حادة بدورها.
■ كتب شوقى الكثير من المعارضات الشعرية أشهرها «البردة».. فى رأيك لماذا فعل هذا؟
- فعلها ببساطة ليثبت أنه الأبرع شعريًا، ويبين أنه الأفضل، حتى إذا كان لا يقول ذلك صراحة. والحقيقة عندما كان شوقى فى سن الشباب كان يذكر أنه الأفضل، وصوّب قلمه نحو أفضل ما كتبه فحول الشعراء من القصائد، فعارض البوصيرى فى البردة، وعارض المتنبى فى رثاء جدته بقصيدة فى رثاء أمه، وعارض أبا تمام فى قصيدة «عمورية» بقصيدة فى كمال أتاتورك، وعارض «سينية البحترى» و«نونية ابن زيدون»، وكل ذلك بدافع من ثقة منقطعة النظير.







