3 أسابيع فى أكتوبر.. ابنة موشيه دايان فى أبرز رواية إسرائيلية عن انتصار مصر: «كارثة وزلزال»

- بطولات المصريين دفعت ابنة وز ير الدفاع الإسرائيلى للقول: «هذه الحرب يجب أن تكون الأخيرة»
تعتبر رواية «3 أسابيع فى أكتوبر» من أهم الأعمال الأدبية الإسرائيلية التى ناقشت حرب السادس من أكتوبر، وتأثيرها على الكيان المحتل، من تأليف يائيل دايان، ابنة الجنرال موشيه دايان، وزير الدفاع الإسرائيلى أثناء حرب أكتوبر، وشقيقة المخرج الإسرائيلى عاصى دايان.
إلى جانب عضوية «الكنيست»، وتوليها منصب نائب رئيس بلدية تل أبيب، فى الفترة بين 2008 و2013، تعد يائيل دايان صحفية بارزة فى تغطية الحروب، ولها سجل أدبى حافل، يتضمن 5 روايات طويلة على رأسها «3 أسابيع فى أكتوبر»، ومذكرة حول حرب الأيام الستة بعنوان: «جورنال إسرائيل: يونيو 1967»، علاوة على سيرة ذاتية حول والدها بعنوان: «والدى وابنته».
بالتزامن مع احتفالات مصر بالذكرى الثانية والخمسين لحرب السادس من أكتوبر، تقدم «حرف» قراءة شاملة فى رواية «ثلاثة أسابيع فى أكتوبر»، لنتعرف كيف كتب «القلم» الإسرائيلى عن الحرب التى لن تنساها دولة الاحتلال أبدًا؟

المستشفى
وصفت يائيل دايان حرب السادس من أكتوبر، فى مقدمة روايتها «٣ أسابيع فى أكتوبر»، بأنها كارثة وزلزال على إسرائيل، وفق ما ذكره على سعود عطية، فى مقال نُشر فى مجلة «البيان» الكويتية، يُعد أوفى ما كُتِب عن هذه الرواية الأدبية المهمة عند الحديث عن «الأدب الإسرائيلى» الذى تناول حرب أكتوبر.
وقال «عطية» إن القارئ لهذه الرواية يدرك لماذا كانت هذه الحرب زلزالًا أو كارثة؟ وذلك عندما يتأمل الرموز والأجواء التى تسودها وتخيم عليها من البداية إلى النهاية، موضحًا أن أحداث الرواية تجرى فى مستشفى أقيم بالقرب من تل أبيب لتلقى جرحى الحرب، والاعتناء بهم.
اختيار المستشفى مسرحًا لأحداث الرواية ذو مغزى عميق، إذ إن الكاتبة تريد أن تقول لنا إن إسرائيل إنما هى بمثابة مستشفى كبير، وقلب هذا المستشفى الكبير أو مركزه هو عنبر المصابين بالحروق جراء الحرب، وشخوص الرواية فى مجملهم، يعانون من مشكلات الخوف والقلق والأسى الرهيب، ولكل منهم قصة فى هذا الشأن.

أول شخوص الرواية هى «أماليا»، التى تعمل ممرضة. اختيار المهنة هنا له قيمة رمزية خاصة. وهى فى نفس الوقت جندية «احتياط»، تؤدى الخدمة الطبية كواجب من المجهود الحربى، وتحس أثناء تأديتها لمهمتها بآلام كبيرة لا تستطيع التعبير عنها مرات كثيرة: «أتمنى لو تفيض عيناى بالدموع هذه الأيام».
إضافة إلى ذلك، هى امرأة متزوجة، يُدعَى زوجها إلى الخدمة العسكرية أيضًا، ويتركها مع طفلين، لكنها كأى ربة بيت إسرائيلية لا تجد الهدوء العائلى، ولا تنعم بالحياة البيئية الهادئة المستقرة.
فى هذه الرواية، تعيش «أماليا» مُمزقة بين تأدية واجبها فى حضانة أبنائها، أو أداء واجبها كما تفرضه عليها الدولة والفلسفة الصهيونية. وبدلًا من هدهدة سرير الطفل ومناغاته ومناجاته فى لمسة إنسانية، تجد نفسها مرة واحدة بين الجرحى والموتى والمشوهين جراء الحرب.
«نداف» الشخصية الثانية فى الرواية، وهو أحد المصابين بحروق من آثار المعركة، ويشعر بهول المصيبة عندما يكتشف أن وجهه لم يعد كما كان. كما يشعر بحيرة وجودية وكيانية كاملة أمام هذا الواقع الجديد، ويتساءل بحرقة: كيف سيقابل خطيبته بهذا الوجه الجديد؟ وكيف يشق طريقه فى الحياة من جديد؟ ولا يجد من جواب إلا الوعود التخديرية من إدارة المستشفى: سنجرى لك عملية التجميل المطلوبة.. لكن هيهات!
الشخصية الثالثة تعبر عن الغامض والمجهول فى الكيان الإسرائيلى، وهى شخصية «الجريح رقم٧»، التى ذهبت الحرب بكل علاماته الفارقة حتى بات من الاستحالة التعرف عليه. كما أن اسمه لا يرد على شاشات الحاسب الآلى، كأنه كيان قدم من عالم آخر، وهذا إن عبر عن شىء فإنما يعبر عن حالة الضياع الكاملة، التى تضمحل فيها شخصية الإنسان أمام آلة الحرب، وأمام المعطيات المأساوية التى يزج فيها الكيان الإسرائيلى بأعضائه فى أتون المجهول.

هناك أيضًا الزوج «دانيال»، شخصية رابعة، تخرج من حرب لتدخل فى أخرى، وهو أيضًا يعانى من «نوستالجيا» حقيقية، للعائلة والهدوء والراحة، بعيدًا عن آلة الحرب الطاحنة المستمرة التى لا ترحم: «سنبتلع الحياة بنهم، سنفعل كل الأشياء التى لم نقم بها من قبل، سنحلم وننفذ الحلم». وينتهى به الحال من المعركة إلى المستشفى الذى تعمل به زوجته.
هكذا إذن، المستشفى بشخوصه هذه، هو رمز للمجتمع الإسرائيلى الأكبر، هذا المجتمع الذى يجتر ذاته وتاريخه، ويحفر عميقًا فى ضميره الجماعى من أجل مواصلة المشروع الصهيونى بإصرار وسادية غير مسبوقة فى كل العصور.
تقول إحدى شخصيات الرواية، وهى أمريكية متزوجة من مقاتل إسرائيلى يترك أمريكا ليعود للقتال فى حرب أكتوبر، دفاعًا عن «إسرائيل»: «إنكم (أى الإسرائيليين) مشغولون بشىء لا يعنى إلا القليل بالنسبة لى، إنه المصير، إن ذلك مثل الاستمناء».
وتضيف: «إنكم تحللون أنفسكم، وتعيدون معيشة التاريخ، وتتحدثون بألفاظ كبيرة، عن المصير والهوية، وتحفرون فى أرواحكم الجماعية فى كل لحظة من النهار، وقد يكون هذا بطولة، يستحق الثناء، ولكنه بالنسبة لى مرعب، ولا إنسانى».

لعق الجراح
قول الزوجة الأمريكية سالف الذكر يعكس الحقيقة النفسية الإسرائيلية بوجه عام، تلك النفسية التى اكتوت من نار الحرب، المستمرة كاللعنة. والرواية فى حقيقتها ليست سوى رثاء أو مرثاة لهذه النفسية. اصطلاح «لعق الجراح» يمكن تطبيقه بسهولة على المزاج النفسى الذى سيطر أثناء الحرب، ومن يتصفح هذه الرواية، يجد حقًا جوًا من الحزن والكآبة والشعور بالأسى والأسف يلفها من البداية إلى النهاية، حزن كبير بكبر مساحة الأرض المحتلة نفسها!
لقد وقع المجتمع الإسرائيلى فى قبضة شريرة خرافية، ولا يظهر أنه سيكون له فكاك منها فى القريب ولا البعيد. من هنا، فإنه، وهو المتورط حتى الأعماق فى حلقة جهنمية، أصبح فى بعض الأحيان، ولعل هذا من أهم المؤشرات التى تشير إليها هذه الرواية، لا يؤمن بأهمية التوسع والاستيلاء المتواصل على الأرض، إن كان الثمن هو هذه الأرواح التى تسفك دماؤها كل بضع سنوات. تقول بطلة الرواية «أماليا»: «المكسب يقاس بالأميال المربعة، ولكن الخسارة هى بالأرواح، لقد كانت الخسارة أكبر من المكاسب».

ولعل هذا القول يكتسب مصداقيته من شعور اليهود عامة، والإسرائيليين خاصة، بما يمكن أن نسميه «عقدة الأقلية» أو «النقص فى العدد»، والشخصية الرئيسية فى الرواية نفسها، لا تريد لأبنائها أن يكرهوا، أو يحقدوا، تلك الكراهية وذلك الحقد، اللذين يأتيان بالحرب والعدوان. كما أنها فى نهاية الأمر لا تؤمن بجدوى الحرب، وتقول فى مناسبة ثالثة على صفحات الرواية: «الحرب حدث رهيب». ثم تقول مرة أخرى: «لقد زعمنا أننا انتصرنا.. لكنى لم أشعر بذلك»، قبل أن تتساءل بمرارة: «هل أطفال وزوجات القتلى يشعرون أن الحرب تستحق موت الآباء والأزواج؟!».
مجمل القول، إن القارئ لهذه الرواية، يحس أنها إدانة شديدة للحرب وويلاتها. وتجسد الكاتبة هذا المعنى عندما تقول لنا إن المجتمع الإسرائيلى بمجمله، ينتظر الموت. كما تقول على لسان الزوجة الأمريكية أيضًا، مخاطبة البطلة «أماليا»: «إن لديكم عقلية الانتظار.. إنكم لا تعيشون الحياة، ولكنكم تنتظرون فقط!».

وتضيف فى قولها المأساوى حيث تبلغ الرواية قمتها: «إنكن تنتظرن رجالكن ليذهبوا، وتنتظرنهم ليعودوا. لقد انتظرتن الآباء أولًا، توخيًا للوصول إلى سن النضج، بينما الآباء على قيد الحياة، حتى إذا تزوجتن، انتظرتن الأزواج ليقوموا بدورهم ويعودوا إليكن أحياء سالمين، أو قطعة واحدة. وبعدئذ رأيتن الأولاد يكبرون رويدًا رويدًا، وعددتن السنوات حتى بلغوا الثامنة عشرة، وجاء دورهم ليذهبوا ويعودوا، وفى هذا الوقت هناك شابات صغيرات ينتظرنهم، ويعددن أنفسهن ليحملن أطفالهن وينتظرنهم».
وتتم بقولها: «هذا الحال مثل مستشفى الطوارئ، حيث تنتظرين المصباح الأحمر، التالى، على باب غرفة العمليات، وتراقبين من سيحمل على محفة حيًا، ومن سيضحى به فى هذا المضمار!».

الصدمة
يتمادى الحزن والبكاء فى أثره، فى هذه الرواية المرثاة، حتى يصبح التجريد فيها، أو نقل اللوحة التجريدية، هى صورة الموت البشعة، والأعضاء المبتورة، والوجوه المشوهة، والصدور والبطون المحروقة.
ومهما يكن من أمر، فإن يائيل دايان مؤرخة عسكرية، غطت أخبار ١٩٦٧، واشتهرت بذلك، وراسلت كبريات الصحف الأجنبية والإسرائيلية. كما أنها عانت فى حرب أكتوبر١٩٧٣، وهى سليلة أسرة تقدس الحرب، وتؤمن بها كوسيلة للتوسع والاستيطان والاغتصاب.

ومن هنا، فإن «يائيل» تصف حرب أكتوبر من أكثر من زاوية، وتضع القارئ بأجوائه فى أكثر من جانب، تصف الطائرات والصواريخ والدبابات، تقربها فى المنظور حتى تكاد تحس أنك فى ساحة المعركة، وسط أزيز الطائرات وقرقعة الدبابات وفحيح الصواريخ. تشعر بذلك وهى تتحدث عن العبور المصرى، وكيف أن الأسرى الإسرائيليين لم يتوقعوه، بل توقعوا ١٩٦٧ أخرى، ومن هنا جاءت الصدمة التى تفاعلت مع المجتمع الإسرائيلى كما يتفاعل الوباء.
كما أنها تتحدث، فى المقابل، عن ثغرة «الدفرسوار»، وعن الهاربين الإسرائيليين من أرض المعركة، قبل أن تتطرق إلى المقاومة الشعبية المجيدة فى مدينة السويس، تلك المقاومة التى تجعل من السويس، كما يورد أحد شخوص الرواية «دانیال»، أتونًا حارقًا.
مع هذا، ومع كل الويلات ومحاولة إدانة الحرب على لسان الكاتبة، تريد لنا أن نفهم أن الخدمة العسكرية فى إسرائيل «واجب مقدس»، يتهافت الجميع لتأديته رجالًا ونساء، ويأتون من أجله من كل طرف من أطراف الدنيا لتلبية ندائه، وهم يعلمون أنهم ربما يُساقون إلى حتفهم، وأن كلًا من هؤلاء مسكون بروح خاصة تتقمصه وتعود فى تاريخها إلى آلاف السنين، روح قاتلت وقامت بكل طقوس الحرب وواجباتها، منذ ذلك الزمان البعيد.
«يائيل» لا تريد أن تنسى التاريخ، لا تريد أن تنسى ما تطلق عليه «الحق التاريخى» و«الكفاح التاريخى»، هذا الكفاح الوبيل الذى تستمطر عليه فى صفحات أخرى اللعنات، وتكيل له كل النقد والطعن والهجوم، مشيرة إلى قول أحد الجنود فى حضور أبيها، عند احتلال «حائط المبكى» عام ١٩٦٧: «وصلت إلى هنا بعد مشوار بدأ منذ ٢٠٠٠ عام!».

غاية الأمر، إن رواية «٣ أسابيع فى أكتوبر» وثيقة صادقة إلى حد ليس بالقليل، فى تصوير حرب أكتوبر بأسلوب روائى. ولعل أهم ما فيها هو الشعور بأن الإسرائيليين، عند أول صدمة حقيقية لهم، بدأوا يعيدون النظر، وهو كما يعكسه قول البطلة: «إن هذه الحرب يجب أن تكون الأخيرة».
ندرك هذا تمامًا، بما نستطلعه من قراءة هذه الروايات، التى هى معبرة وممثلة لوجهة نظر قطاع كبير من الإسرائيليين، ناهيك أن كاتبتها هى يائيل دايان، التى عرفت بأنها من كبار «الصقور» فى إسرائيل.