شهادات النصر.. أدباء شاركوا فى أكتوبر: جعلنا العبور بين ضفتى القناة أسهل من المرور داخل القاهرة

- من لم يحارب لن يشعر أبدًا بمشاعر الجنود وهم فى القتال لأنها تجربة يستحيل شرحها
كل المصريون تقريبًا خاضوا حرب أكتوبر، سواء كانوا على الجبهة أو ما سواها، ومن بين هؤلاء عدد من الكُتَّاب والأدباء والمبدعين، الذين سجلوا بأقلامهم، بعد انتهاء الحرب، تفاصيل المعجزة التى شاهدوها بأعينهم، ليس فقط فى يوم السادس من أكتوبر 1973 وما بعده، بل منذ لحظة «النكسة» العابرة، وما تلاها من إعادة بناء الجيش، بل قل إعادة بناء الوطن.
من بين هؤلاء حجاج أدول، الأديب المصرى النوبى، الذى كتب 11 مجموعة تحوى قصصًا عن معارك الاستنزاف والعبور، و30 رواية بينها رواية «بولاق الفرنساوى» التى تحكى عن الحرب، ومحمود عرفات، الذى شارك فى انتصار أكتوبر 73 كضابط احتياط فى اللواء 14 المدرع، وصاحب رواية «سرابيوم» التى وثق فيها هذه التجربة.

حجاج أدّول: كتيبتى عبرت من بحيرة التمساح وكأننا فى فيلم هوليوودى!
سبع سنوات وأنا مجند، حوالى ثلاث منها على ضفة قناة السويس فى منطقة الدفرسوار، حيث القناة فى أضيق أماكنها. وعلى جانبنا لسان ضيق يطل على القناة من جانب على بحيرة التمساح من جانب آخر. ومن مواقعنا، عبر القناة فى صمت عدد من جنود الصاعقة ليعترضوا دوريات العدو المُجنزرة، فينسفونها ويقتلون ويأسرون من فيها.
واشتعلت معارك الاستنزاف لم تأخذ حقها ليعلم شعبنا مدى أهميتها ومدى نجاحها، ونستطيع أن نقول ذلك على ملحمة العبور. ما كتب عن هذه المعارك لم يوفها حقها، وما أنتج من أفلام أغلبها سطحى والنادر جيد.
معاركنا كانت متخمة بفنون الحرب. تجربة يصعب بيانها. نحن شباب فى العشرينيات تركنا انطلاقات الشباب ونزواته وأحلامه فى سفريات معينة أو الاشتراك فى مشاريع ما. كل هذا محذوف منا وعلينا أن نخوض معارك العرق والدم، وفى كل معركة فقد رفيق حرب يُصاب أو يموت شهيدًا، وكل منا يتوقع أن يأتى يومه لاحقا، ولا يعلم أى منا كيف ستكون نهايته، هل بطلقة بندقية أو شظية مدفع. من لم يحارب لن يشعر أبدًا بمشاعر الجنود وهم فى القتال. إنها تجربة مستحيل شرحها. هى حال لا يعرفها حقا سوى من يخوضها. هى تجربة الشجاعة التى تحذف الخوف، وهى الوطنية الحقة، حيث استعداد المقاتل أن يفدى وطنه بحياته وهى أغلى ما عنده.
لقد كان العبور المستحيل. اقتحام أخطر مانع مائى تحميه جبال من الرمال هائلة الارتفاع، وحصون خط بارليف التى قيل إنها لا تُقهر. كنت جنديًا فى كتيبة مشاة ميكانيكية، أى فى هجومنا نستخدم مركبات برمائية مصفحة.
والمفروض أن عبور أى سد مائى بهذه المركبات، يكون من أضيق مساحة ممكنة، لأن مركباتنا خلال تواجدها فى مياه القناة، لن تتمكن من سرعة المناورة، وعليه فستكون فى خطر يدمرها بمن فيها.
لكن الغريب أن كتيبتى بمركباتها البرمائية عبرت من بحيرة التمساح! أى من مساحة مائية شاسعة! وكان هذا تخطيطًا عبقريًا، فالعدو لم يتوقع هذه المجازفة منا. ففاجأناه بعبور فى مساحة مائية هائلة، بحيرة التمساح. كان العبور من سلاسته ومهارة جيشنا وكأنه فيلم هوليوودى! تخطيط عبقرى وتدريبات ومناورات أقول شربناها بعرقنا سنين عددا. قبل العبور كان الخداع الاستراتيجى وليس هنا وقته. ثم العبور تم فى رمضان المبارك، وبالتزامن مع عيد الغفران «كيبور»، ولم يكن العبور فجرًا كما هو المعتاد، بل فى الظهيرة الحمراء! أى خداع متقن ومفاجأت متشابكة متكاملة.
وللعلم.. أول شهيد فى كتيبنا كان قائد الكتيبة العقيد عادل فهمى. وأول مصاب كان رئيس العمليات الرائد عمر، وخلال توغلنا فى سيناء، إذا بالرائد عمر يأتى وينضم إلينا وهو يعرج! قال:
- أبقى فى المستشفى وأولادى يقاتلون فى سيناء؟ لا يمكن.
ضباطنا فى المقدمة مع الجنود، ولذلك كان الشهداء من الضباط نسبتهم عالية عن أى حرب سابقة. كانوا مثلهم مثل أصغر جندى فى التدريبات بالغة القسوة، وصارت بيننا صداقات متينة، حتى أنه ذات ليلة كنت أنا وصديقى نصار فى إجازة سريعة بالقاهرة، فتواعدنا مع الملازم أول نسيم الزينى وجلسنا فى مقهى ونحن بملبسنا المدنى، من يشاهدنا لن يتصور أن أحدنا هو ضابط السرية، والآخران جنديان فى سريته! لكن فى طابور الصباح اليوم التالى، كنا الجنود وهو الضابط. نؤدى التحية العسكرية له ونقول حاضر يا أفندم.
وهكذا تعلمنا الضبط والربط، وكيف أننا كلنا جنود فى جيش مصر. وقلت مرارًا وتكرارًا أن جيشنا جيش وطنى، لم ولن يكون يومًا جيش لطائفة أو طبقة ما أو أيديولوجية سياسية.
هكذا تكون الجيوش الفاعلة، ولهذا نحن الشعب فى اطمئنان أن جيشنا يحمينا من العدو الخارجى، كما يحمينا من الفتن الداخلية. الحديث ذو شجون وإن تركت نفسى فى استرسال فلن تكفينى ألف صفحة. تعظيم سلام.

محمود عرفات: خضنا «بروفة» كاملة للعبور فى «ترعة الإسماعيلية»
قضيت ٥ سنوات و٣ أشهر فى الخدمة العسكرية، تنقلت فيها بين مدارس الجيش ووحداته القتالية، ورأيت بعينى، ولمست بيدى، عملية إعادة بناء الجيش المصرى، وإعادة بناء العقيدة القتالية للمقاتل المصرى، بالعلم وباستخدام المنهج العلمى فى التفكير وحل المشكلات.
فى روايتى «سرابيوم»، التى بدأت كتابتها بعد ٣٠ عامًا من انتهاء الحرب، وانتهيت من كتابتها بعد ١٠ سنوات، حاولت أن أجيب عن السؤال المهم، الذى حيَّر الخبراء العسكريين والاستراتيجيين فى العالم كله: كيف استطاعت مصر أن تعيد بناء الجيش المصرى، وتعبر قناة السويس، بعد ٦ سنوات فقط من الهزيمة الكاسحة فى يونيو ٦٧؟
وأظن أن من يقرأ هذه الرواية بعناية، يستطيع أن يعثر على إجابة لهذا السؤال، الذى عرفتُ إجابته على مدار الأيام التى قضيتها فى الخدمة العسكرية، جنديًا بسلاح المدفعية، وضابطًا للتوجيه المعنوى فى أحد أهم اللواءات المدرعة بالجيش المصرى.
كان شرف عبورى القناة مع ذلك القائد الفذ العقيد الركن عثمان كامل لا يوازيه شرف، إذ شاركت فى الإعداد للمعركة، وعبرت مع زملائى، وأديت دورى قبل بدء الحرب وفى لحظات البدء الأولى. كما أسهمت فى إمداد الوحدات بالدعم المعنوى، الذى لا يقل أهمية عن الدعم المادى من ماء وطعام، وإمدادات بالذخيرة والأفراد والمعلومات، لتعويض النقص البشرى والمعنوى والمعلوماتى، أثناء القتال.
شهدت بنفسى التغير الذى حدث فى معاملة الضباط للجنود، والحرص على احترام الضباط لآدمية الجندى وكرامته، وعدم المساس بها، واحترام الجندى لقائده، والتفانى فى تنفيذ الأوامر العسكرية، والالتزام بقواعد الضبط والربط المتعارف عليها، فى جو من الألفة والاحترام.
أصبح من حق كل جندى أن يتظلم من قائده إذا تعسف فى استخدام حقه، أو إذا سبه أو أهانه. كما زاد الاهتمام بجودة الطعام المُقدَم للجنود، والمهمات التى يستخدمها، والملابس التى يرتديها، علاوة على الإكثار من عروض السينما الترفيهية، والندوات المختلفة فى المناسبات الدينية، والعدالة فى منح الإجازات، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات رياضية وثقافية بجوائز مغرية، لضمان ارتباط المقاتل بوحدته وزملائه وقادته.
فى وحدة الاستطلاع التى عشت فيها لمدة أسبوعين بسرابيوم، فى يوليو ٦٩، عرفت الكثير عن ارتباط المقاتل بوحدته، خاصة أولئك الذين عبروا وقاتلوا معًا، وعادوا بأسرى من العدو. قال بعضهم: «أحيانًا أرفض الإجازة لأنها تفسد انسجامى مع الحياة العسكرية، خاصة أننى أقضى مع زملائى المقاتلين فى الوحدة وقتًا أكثر مما أقضيه مع أسرتى».
شاهدت الأرقام القياسية تتكسر بإرادة وتصميم المقاتل المصرى، فى مسابقات لأداء مختلف المهام، على سبيل المثال: إعداد كتيبة مدفعية الميدان لتوجيه قصفة مدفعية، نصب هوائى اللاسلكى ليكون جاهزًا للإرسال والاستقبال، تجهيز بطارية صواريخ للتعامل مع الطائرات المغيرة. هذه مجرد أمثلة مما كان يتم أثناء التدريب، لمستُها وشاهدتُها أثناء المناورات التكتيكية والتعبوية التى حضرتُها أثناء خدمتى العسكرية.
أجرينا «بروفة» كاملة للعبور على «ترعة الاسماعيلية» أمام أبو صوير، فى السادس من سبتمبر ٧٣، قبل قيام الحرب بشهر كامل. وأذكر أننى طلبت من قائد اللواء أن يسمح لى بان أشارك فى العبور على أول دبابة برمائية تعبر الترعة، فوافق وهو مندهش من حماسى، الذى جعلنى أخالف الأعراف العسكرية وأطلب هذا الطلب العجيب.
تلقيت عدة إشارات، قبل الحرب بأسبوعين تقريبًا، وأدركت أن الحرب قادمة خلال أيام، كان أهم هذه الإشارات: «الأمر الإنذارى» الذى وصل إلى قائد اللواء، قادمًا من قائد الجيش الثانى، اللواء سعد مأمون، ومختوم بالشمع الأحمر «سرى للغابة»، ولم يكن مسموحًا لأحد أن يطالعه سوى قائد اللواء، لكن الرجل ائتمننى على هذا المظروف، الذى أمرنى بفتحه فى مكتبه، وقراءته، وبعدها سألنى: «ماذا فهمت؟» قلت: «إنها الحرب يا سيادة العقيد». قال فى حسم: «روح شوف شغلك».
فى الحادية عشرة من صباح السادس من أكتوبر عرفت رسميًا أن الحرب ستبدأ فى الثانية بعد الظهر، فانطلقت مع مجموعتى الصغيرة لإذاعة الفقرات المُعدَة سلفًا على المقاتلين، فى وحداتهم المنتشرة حول قيادة اللواء، وكانت تتضمن آيات من القرآن الكريم للشيخ «البهتيمى» من سورة «الحشر»، ونداء قائد اللواء المُسجَل بصوته للمقاتلين، ومجموعة مواد منتقاة تحث على الجهاد.
انتهينا من البث المعنوى فى الثانية إلّا ٥ دقائق، ورأينا طائراتنا تمر من فوق رؤوسنا، على ارتفاع منخفض، متجهةً نحو الشرق، فتأكدنا أن الحرب بدأت. وفى المساء، تحركنا ببطء فى اتجاه القناة، وتوقفنا على بعد عدة كيلو مترات من القناة، نراقب أشجار النيران المتوهجة، قضينا ليلة صعبة فى انتظار إقامة المعابر التى تتحمل عبور الدبابات. فى الصباح بدأت أرتال الدبابات والمصفحات فى العبور. اقتربنا من منطقة العبور فشاهدت المشهد الذى لا يمكن نسيانه، أهالى سرابيوم، زغاريد النساء وهتاف الرجال، والأطفال يهتفون ويهزجون ويلوحون، والجميع يحملون مشنات تحوى خيرات الله من خضروات وعيش وجبن، يقدمونها للمقاتلين، دون أن يحفلوا بطائرات العدو التى كانت تغير على المنطقة كل عدة دقائق لتلقى قنابلها فى محاولة لوقف سيل العابرين دون جدوى. وبالطبع، هذه القنابل لا تميز بين مدنى وعسكرى وامرأة وطفل. هذا المشهد هو أجمل وأشجع منظر رأيته طوال عمرى.
لحظة العبور أسعد لحظة فى حياتى، ففى الواحدة والثلث من ظهر السابع من أكتوبر ٧٣، كنت فى منتصف معبر سرابيوم، الذى عبرت منه دبابات اللواء إلى شرق القناة. كنت أجلس بجانب السائق ومعى مجموعة البث المعنوى ومعدات البث. وجدت نفسى أهتف دون ترتيب «الله أكبر»، كانت لحظة فارقة ومذهلة.
بعد يومين، وفى التاسع من أكتوبر، كنت أستمع إلى إذاعة «بى بى سى عربى»، سمعت مراسل الإذاعة يقول: «المرور من غرب القناة إلى شرقها يبدو أسهل وأيسر من المرور داخل القاهرة».
حققنا عدة معجزات على مدار ٦ سنوات، معجزة إعادة بناء الجيش المصرى فى وقت قياسى، وإعادة بناء عقيدة المقاتل المصرى، ومعجزة التدريب على اقتحام القناة وتدمير خط «بارليف»، ومعجزة عبور القناة بعدد شهداء لا يتجاوز ٢٥٠ شهيدًا، وكانت التقديرات تشير إلى أن العبور سيقضى على ربع الجيش المصرى، ومعجزة إسقاط النقاط الحصينة للعدو شرق القناة فى ٦ ساعات لتأمين القوات العابرة، ومعجزة السيطرة على جزء من سيناء بعرض ١٢ كم وبطول ١٧٠ كم.