الصورة الملعونة.. اعتذار متأخر لبابا ونيس.. الشهير بمحمد صبحى
- اختلف مع محمد صبحى كما تشاء، لكنك لن تستطيع إنكار أنه رجل صاحب «حلم» كبير، وفى هذا الزمن يا عزيزى أن تمتلك حلمًا وتحارب من أجله فهذا نجاح عظيم.
- «شرطى الأخلاق».. تركيبة إفيه سمج للتقليل واستهجان أفكار صبحى الأبوية
- الجزء الأول من «يوميات ونيس» عُرض بعد أيقونتين دراميتين «أرابيسك» و«العائلة» ومع ذلك نجح نجاحًا كبيرًا
- قصد صبحى أن يجعل أسرة ونيس عادية ولا يحمّل المُشاهد ثقل استنباط المعانى الكبرى من بين السطور فكانت المباشرة هى الحل
كان فقدان فنان بقيمة محمود عبدالعزيز منذ ٩ أعوام حدثًا حزينًا على مصر كلها.. وشهد عزاؤه بطبيعة الحال حشدًا من كل شرائح الفن المصرى ممن عملوا مع الراحل أو تتلمذوا على يديه.. وكالعادة انتصبت عدسات المصورين مصوبة تجاه الضيوف الداخلين والخارجين للعزاء الكبير الذى أقامته العائلة فى أحد المساجد الكبرى.. اقتنص أحد المصورين لقطة لزميل الساحر ورفيق بداياته الفنان محمد صبحى وهو يدخل مندفعًا، بجانبه فردان من أمن المكان، تجاه ابن الفقيد وسلّم عليه بحرارة.

الصورة نُشرت مثل باقى الصور فى المواقع وانتشرت عبر صفحات السوشيال ميديا التى تتغذى على فُتات «المعازى» والأفراح، كان يمكن أن تصير صورة عادية مثل مئات الصور المنشورة ذلك اليوم، وتأخذ وقتها وتختفى فى غياهب الإنترنت، لولا أن اقتنصتها يد «الكوميك» الباطشة وحوّلتها إلى «إفيه» كان ظريفًا حينها، وضحكنا عليه، لكنه صار سخيفًا بعد أن تحول إلى أداة للنيل من صبحى شخصيًا، ومعول هدم لصورة فنان ضخم الموهبة غزير العطاء فى نظر أجيال جديدة، ربما لم تعش أحلام سنبل فى الثمانينيات ولا تربت داخل عالم ونيس وأولاده فى التسعينيات، وأصبح استدعاء تلك الصورة الملعونة دون غيرها عند ذكر صبحى أمرًا بالغ القبح والدناءة، إذ كيف يتسنى لنا القسوة على الرجل وحبسه فى سجن صورة رخيصة حُمّلت بإفيه سخيف «شرطة الأخلاق».. مستغلين ميل الرجل الفطرى ومن منظور أبوى لنقد سلوكيات مجتمعية بشكل مستمر.. لا سيما لو كانت تلك السلوكيات مرتبطة بأجيال أحفاده.. وهى نفس الأجيال التى صار صبحى فى مرمى نيران إفيهاتهم وكوميكساتهم عند أى تصريح أو ظهور، ليتحول الأمر من مجرد دعابة عابرة إلى سجن كبير حبسنا فيه الرجل الذى ترك داخل وجدان كل منا شيئًا قيّمًا.. شئنا أم أبينا.

هذه المقدمة ليس الغرض منها وضع محمد صبحى فى صبغة ملائكية لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل على العكس طالما هو فنان لديه آراؤه وله أسلوبه فى طرح تلك الآراء، فمن الجائز، والصحى جدًا، أن نختلف معه، ونتناقش معًا فى مدى جدوى فكرة المباشرة التى صارت من سمات فنه فى الشطر الثانى من حياته. وسأوافقك جزئيًا إذا قلت لى إن المباشرة هى عدوة الفن ولا بد أن يكون الفن أكثر رمزية، لكن موافقتى على هذا الأمر لا بد أن تكون مشروطة بوضع العمل الفنى فى سياقه الزمنى قبل الحكم عليه، ولنطبق ذلك على العمل الأول الذى رسّخ صورة السلطة الأبوية لمحمد صبحى فى ذهن جيلنا، والتى قادتنا فى النهاية إلى تحويل تلك الصورة الصحفية العفوية له فى عزاء محمود عبدالعزيز إلى أداة لإهالة التراب على تاريخ الرجل الهائل.. وأقصد بهذا العمل «يوميات ونيس» الذى عُرض الجزء الأول منه فى العام ١٩٩٤.

هيا اركب معى إذن آلة الزمن لنعود إلى تلك السنة.. لا تقلق «فركة كعب».
نحن الآن سنة ١٩٩٤، وفنيًا لم تكن مهمة عرض «يوميات ونيس» سهلة على صبحى وصناع العمل فى تلك الأيام، لذلك فقد عُرض فى التليفزيون على استحياء بعد موسم رمضانى محمّل باثنتين من أهم الأيقونات الدرامية التى قلبت مصر حرفيًا، الأولى رائعة أسامة أنور عكاشة «أرابيسك» لصلاح السعدنى، والثانية «العائلة» لمحمود مرسى وكاتبها اللامع وحيد حامد، والاثنتان ناقشتا أفكارًا كبيرة تتمحور فى مضمونها الأهم حول «الهوية المصرية»، سواء عبر البحث عنها بين ركام الطبقات التاريخية فى حالة «أرابيسك»، أو الدفاع عنها ضد محاولة سرقتها بواسطة ذقون المتطرفين فى حالة «العائلة».

أما السياق الاجتماعى الذى خرجت فيه «يوميات ونيس» فلم يكن سهلًا أيضًا، فقد كانت القاهرة تعيش أيامًا صعبة، وتئن تحت نير الإرهاب وحوادثه الأليمة التى ضخمت من حدة الغضب الشعبى، وكان آخرها قبل شهور حادث استشهاد «الشيماء»، تلميذة مدرسة المقريزى التى راحت ضحية محاولة اغتيال فاشلة لرئيس الوزراء عاطف صدقى حينها، وظلت الشيماء طوال العام رمزًا قوميًا للصحوة التى اجتاحت المجتمع ليقف صفًا واحدًا ضد الإرهاب وذيوله. أما خارج القاهرة فقد عانت دروب مصر وقراها، خاصة فى صعيدها الطيب، من غضبة هائلة للطبيعة، ذكّرتها بالزلزال المدمر قبل سنتين فى ١٩٩٢، وهذه المرة كانت السيول الجارفة التى أتت على قرى بأكملها، مثل قرية درنكة فى أسيوط، وزادت الجراح داخل البيوت المصرية الهادئة المعتادة على انتظار مسلسل الساعة الثامنة مساء لتستدفئ بحكايات أبطاله، ثم تختتم يومها بالاستماع لمدة خمس دقائق لكبار مشايخ الأزهر عبر برنامج اسمه على مسماه، وهو «حديث الروح».

فى غمرة هذا السياق الفنى والمجتمعى عرض التليفزيون المصرى الجزء الأول من المسلسل الاجتماعى الخفيف الذى يتحدث عن أسرة مصرية من الطبقة المتوسطة العاملة لأب محامٍ «ونيس أبوالفضل جاد الله عويس»، وأم موظفة «مايسة»، وأبناء مختلفى الأعمار «عزالدين وشرف الدين وجهاد وهدى»، وبالطبع كان اختلاف الأعمار مقصودًا لتكون قماشة المناقشة عريضة لمشكلات أكثر.

كان الطرح واضحًا فى ذهن صبحى منذ اللحظة الأولى؛ الأسرة عادية والعلاقات الاجتماعية بين الأسرة ومحيطها غارقة فى العادية أيضًا، أب مصرى يفعل ما يفعله كل أب مصرى ويخطئ نفس الأخطاء، وهو نفس الأب المرح خفيف الظل الذى يدعو أبناءه للوقوف صفًا واحدًا ثم يملى عليهم ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتجنبوه بشكل مباشر وبطريقة إلقائه الغارقة فى الخطابة المبالغ فيها، والتى تفجّر الكوميديا، يبدأها بجملته الشهيرة التى علقت فى أذهان جيلنا «أبنائى أعزائى فلذات أكبادى».. ثم يكمل رسالته التربوية، التى استقبلها الصغار أمثالنا حينها، بشكل سلس لا يمكن إنكار فاعليته حينها. وبالتالى لا يجوز التعامل معه الآن بتعالٍ على أنه ليس فنًا بدعوى أنه مباشر.. فالواقع يقول إن مسلسل «يوميات ونيس» استمرت أجزاؤه فى التدفق على شاشة التليفزيون عبر السنوات المتعاقبة لتزداد نجاحًا ورسوخًا فى وجدان الجيل الذى عاش طفولته ومراهقته فى التسعينيات، أو بمعنى آخر عاش سن «عزالدين وشرف الدين وجهاد وهدى» أبناء ونيس ومايسة.
تستطيع أن تقول إن المجتمع المصرى بما مر به من تخلخلات، كما أوضحنا، كان يحتاج إلى إلى تلك المباشرة فى التعامل مع سنابله الجديدة قبل أن تتفتح على تلك الحالة المجتمعية المرتبكة.

فى رأيى أن المعيار هنا لا بد أن يكون متجردًا من أى تعالٍ أو موقف مسبق من صبحى اعتمادًا على شهادات متواترة طوال الوقت تشيطنه على المسرح «ملعبه الرئيسى»، وتتهمه بالنرجسية الشديدة، وتظهره بمظهر الخائف من أى موهبة تظهر بجواره على المسرح وتخطف منه الأضواء.

وكان الاستشهاد الأعلى بعبلة كامل، الممثلة الشابة بداية التسعينيات التى عانت الأمرّين من ديكتاتورية صبحى ونرجسيته، طبقًا لتلك الروايات، وذلك خلال عرض مسرحية «وجهة نظر»، وعندما تبحث عن شهادة صاحبة القصة أصلًا، وهى عبلة كامل، تجدها لا تذكر صبحى بسوء، بل على العكس تصبغ عليه صفة الأستاذية، والذى تعلمت منه الكثير.

اختلف مع محمد صبحى كما تشاء، لكنك لن تستطيع إنكار أنه رجل صاحب «حلم» كبير، وفى هذا الزمن يا عزيزى أن تمتلك حلمًا وتحارب من أجله فهذا نجاح عظيم. قد يكون صبحى قد استغرق فى تلك الحالة الأبوية وصارت هى الخط العام حتى فى حواراته الصحفية والتليفزيونية، لكن حتى هذا له عندى ما يبرره، فهو فنان مسرحى فى الأساس، بدأ حياته المسرحية وهو ما زال يخطو أولى خطواته فى دنيا الفن بتشخيص دور «هاملت» فى وقت كان يبحث أقرانه عن روايات شعبية على المسارح الخاصة لتحقق لهم الانتشار والكسب المادى.

لذلك عندما يتحدث محمد صبحى تشعر بأن الحماسة تتفجر من بين نبرات صوته، مهما كان الموضوع، حتى وإن كنت لست معه على نفس الجانب من الرأى، لا بد أن تصيبك مسحة إعجاب بقدر حماسة هذا الرجل لأفكاره والتعبير عنها بكل تلك الحرارة، فصبحى أسير أحلامه، حتى لو كانت صعبة التحقيق، وحتى لو واجهته صعاب فى الوصول إليها، وحلمه الأكبر هو مسرحه الذى رافقه فيه لسنوات طويلة الكاتب المبهر لينين الرملى، الذى حملت مذكراته للأسف الشديد كثيرًا من أسباب شيطنة صبحى وإظهاره بمظهر مهّد لصورة العزاء الشهيرة بـ«شرطة الأخلاق».

وإذا كنت يا عزيزى تريد أن تقترب أكثر من محمد صبحى المجنون بحلمه أن يكون المسرح للجميع، فتعالَ اقرأ معى خبرًا قصيرًا فى مجلة «صباح الخير» نُشر قبل أسابيع قليلة من أول عرض لمسلسل «يوميات ونيس»، والخبر بعنوان «ليلة سقوط صبحى».. فى رأيى أنه أكثر خبر كاشف لشخصية محمد صبحى المسكونة بالمسرح.. وفى القلب منه الفن.. ومضمون الخبر يتحدث عن حادث طارئ فى إحدى ليالى مسرحية «ماما أمريكا»، وفى المشهد الأخير للمسرحية، التى كانت تعرض فى عام ١٩٩٤ بنجاح كبير، وهو مشهد انفعالى عاطفى بامتياز ومباشر أيضًا، ينادى فيه البطل على كل عواصم العالم للاحتراس من الخطر، وراح صبحى مثل كل يوم يتقافز على المسرح من أعلى إلى أسفل وسط تصفيق الجمهور المتواصل، وفجأة سقط بلا حركة وسط وجوم المشاهدين الذين اعتقدوا فى البداية أن هذه السقطة ضمن أحداث المسرحية، لكن يبدو أن زملاءه على المسرح تنبهوا أن فى الأمر شيئًا ما، خاصة بعد أن تعالت صرخات الفرقة الاستعراضية التى كان يؤدى المشهد وسطها، والتف الجميع حوله يحملونه بسرعة إلى الكواليس، وأغلق الستار، ثم نودى فى ميكروفونات المسرح على أى أطباء موجودين فى العرض ومطالبتهم بالإسراع إلى الكواليس، وبالفعل فى لحظات كان ٤ أطباء يقفزون من أماكنهم فى الصالة ويهرعون من خلف الستار ليكتشفوا أن صبحى أصيب بأزمة قلبية حادة نتيجة الإجهاد الشديد.. وبسرعة قسّموا أنفسهم: واحد يقوم بتدليك القلب بشدة، والثانى يتابع النبض، والثالث ينادى بإحضار أدوية معينة لإنقاذه.

وبالفعل بعد عشر دقائق أفاق صبحى ودبّت فيه الروح مرة أخرى، لكنه بدا شاحبًا جدًا، وسأل بدهشة عما حدث، وطلب منه الأطباء الصمت وعدم التحرك للسيطرة على الأزمة، لكن الدهشة تتجلى هنا، طبقًا لما ذكره الخبر من تفاصيل، حيث انتفض صبحى منفلتًا من بين يد الأطباء وهو مصمم على إكمال الخمس دقائق المتبقية من المسرحية، ولم تفلح معه محاولات الأطباء الذين هم من الجمهور أصلًا، وفتحت الستارة مرة أخرى، وأكمل صبحى مشهده الأخير والأطباء وزملاؤه يتابعونه بقلق من خلف الكواليس، حتى انتهت المسرحية على صوت سارينة الإسعاف التى كانت تنتظره خارج المسرح.

الخلاصة أن هذا الخبر القصير المنشور فى مجلة «صباح الخير» ١٩٩٤، الذى يرصد واقعة قد يكون صبحى نفسه نسيها، يشرح هذا الرجل بوضوح، ويجعلنا ننظر إليه بتقدير أعلى، والاختلاف مع طرحه فى بعض القضايا باحترام أكبر، دون نكران تاريخه الفنى الكبير، ويجعلنا أيضًا نشعر تجاهه بامتنان أعلى لأحلامه العظيمة التى حاول تحقيقها فينا نحن جمهور ونيس الحقيقى.. والأهم من كل ذلك، يجعلنا نعتذر عن تلك الصورة الملعونة التى استخدمتنا دون أن ندرى فى النيل من «فنان كبير زاده الحلم».




