بمناسبة 100 سنة على إصدار مجلة القرن
السيرة المفقودة.. حكاية مشروع عمره 63 عامًا لتجسيد شخصية فاطمة اليوسف سينمائيًا برعاية مارى كوينى
 
 
- المنتجة الكبيرة أعربت عن رغبتها فى تجسيد شخصيتها بعد غياب سنوات طويلة عن التمثيل
- روز اليوسف بـ«نكلة».. سر النداء الذى جعل فاطمة تقدم على الانتحار
- لماذا لا تقوم مؤسسة روز اليوسف بإنتاج عمل فنى يؤرخ لسيدة الصحافة الأولى؟
«سأعود للشاشة لأمثل شخصية روز اليوسف»
كان هذا التصريح من الأهمية التى جعلت مجلة «الكواكب» تحتفى به وتضعه تحت عنوان كبير «سبق صحفى»، وقيمة التصريح أولًا لكونه نبوءة لعمل فنى ضخم عن قصة حياة سيدة عظيمة، وهى السيدة فاطمة اليوسف، وثانيًا لأن صاحبة التصريح الانفراد كانت مارى كوينى بعد سنوات طويلة من غيابها الإعلامى واعتزالها التمثيل وتفرغها التام للإنتاجات الضخمة التى عرفت باسمها هى وخالتها آسيا داغر، وآخرها فيلم «صلاح الدين الأيوبى» الذى عُرض قبل شهور من إجرائها هذا الحوار فى عدد «الكواكب» بتاريخ ١٥ أكتوبر ١٩٦٣.
مارى كوينى فى حوار «الكواكب» أبدت رغبتها فى تجسيد دور «روز اليوسف» فى فيلم ضخم الإنتاج بطبيعة الحال، وبررت رغبتها فى الحوار بأنها تريد أن تقوم بدور شخصية نسائية لها قيمة فنية وأدبية كبيرة، وليس هناك من هى أهم وأرقى من السيدة فاطمة اليوسف بطبيعة الحال.
لا أعرف لماذا لم يكتمل هذا المشروع الفنى المهم؟، وأظن أنه لو تم كان سيعد حينها فتحًا سينمائيًا كبيرًا تختلط فيه صناعة السينما برائحة التاريخ، فتلك المرأة، وأقصد «روز اليوسف»، لم تكن سيدة عادية أو حتى سيدة عظيمة والسلام، بل كانت عنوانًا ضخمًا لحياة زاخرة بالأحداث مرت بها سفينة الوطن، ولم تكن مجرد شاهد فيها بل كانت محركًا أساسيًا، تستطيع أن تتلمس بصماتها على نهضة المسرح المصرى فى بداية القرن العشرين، كما تستطيع أن ترى بعينيك نتاج تجربتها الصحفية الرائدة مجلة «روز اليوسف» التى أصقلتها ١٠٠ عام من الأحداث الجسام وزادتها ألقًا وبريقًا، وجعلتها رقمًا مهمًا فى معادلة الصحافة العربية كلها، رقمًا صعبًا يصعب مجاراته أو منافسته، وهى نفس المجلة التى يحتفل أبناؤها هذه الأيام، وعلى رأسهم الصديق أحمد إمبابى، بمئويتها عبر مجموعة من الإصدارات التى تؤرخ لرحلة مجلة عظيمة وسيدة عظيمة فى وطن عظيم.

المتأمل للملامح الشخصية لمارى كوينى فى حوارها لـ«الكواكب»، سنة ٦٣، وكان عمرها حينها خمسين عامًا، سيلحظ تقاربًا شديدًا فى الروح والملامح بين المرأتين، ويجعلنا نشعر بفقد عظيم على مستوى الفن والتأريخ لعدم اكتمال ذلك المشروع المهم. لم ألمح بعدها أى تصريح أو حوار لمارى كوينى حتى وفاتها، بدايات الألفية، تتحدث عن سبب عدم اكتمال حلمها بتجسيد شخصية «روز اليوسف»، لكن الشاهد فى الأمر أن إحسان عبدالقدوس نفسه كان سببًا فى عدم تجسيد والدته أمام الشاشة لأسبابه الخاصة، وهذا الأمر على عهدة مفيد فوزى، فى أحد برامجه التليفزيونية المحتفية بإحسان بعد وفاته سنة ٩٠، وكان يتحدث مع نادية لطفى، التى كشفت هى أيضًا فى ذلك المقطع عن رغبتها الأكيدة وعزمها بطولة فيلم عن «روز اليوسف» لكن كالعادة لم يرَ النور.
الحقيقة أن عدم وجود عمل فنى يجسد تاريخ تلك السيدة هو لغز كبير، وإن صح أن السبب كان رفض إحسان أن تُجسد شخصية أمه على الشاشة فهو أمر للأسف بالغ الخطأ من جانب الأديب والصحفى الكبير، فسيرة «روز اليوسف» أكبر من كونها سيرة شخصية لسيدة عظيمة، لكنها ستتحول قطعًا إلى نافذة ضوء مهمة على تاريخ المجتمع المصرى منذ بدايات القرن العشرين، وستجعلنا نرى بوضوح أكثر حالة الفوران الاجتماعى التى سادت المجتمع فى عقوده الملتهبة، والتى بدأت بالحرب العالمية الأولى وثورة ١٩١٩، ثم التغييرات الاجتماعية الضخمة التى صاحبها تطور فنى على مستوى السينما والمسرح والإذاعة.

المؤكد أن «روز اليوسف» لم تكن يومًا عنصرًا هامشيًا فى محيطها بل كانت صاحبة دور فاعل ومحرك عبر إسهامها الفنى أولًا على مسارح القاهرة التى كانت قبلها مغلقة على الرجال، ثم بإسهامها الصحفى عبر المجلة التى أنشأتها وسمتها باسمها لتكون منبرًا للحرية، واجهت به أعتى الحكومات، وأخرجت منه أسماء ستحمل شعلة الفكر والثقافة فى العقود التالية كلها، بداية من محمد التابعى أمير الصحافة العربية، ومرورًا بكامل الشناوى وصلاح جاهين وأحمد بهاء الدين، وكل الأسماء الثقال التى صار بعد ذلك كل واحد منها منبرًا صحفيًا وتنويريًا بذاته.
سيرة فاطمة اليوسف أو «روز اليوسف» ليست خفية ولا مجهولة، وحكتها هى بنفسها، وآخرها كتاب أصدرته الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة أدباء القرن العشرين، بعنوان « فاطمة اليوسف- ذكريات»، وقد كتب إحسان نفسه مقدمة تلك المذكرات، والتى بدأها بقوله: «هذه الذكريات ناقصة إلى حد كبير»، وكان يقصد أن حياة أمه كانت أكثر ثراء وعامرة بالأحداث والحكايات التى لن يسعها كتاب مهما بلغ حجمه، لذلك أخذ من كلام إحسان نفسه وأضيف أن هذا السبب كان أدعى للتفكير جديًا، بل والسعى إلى إخراج عمل فنى، سواء فيلمًا أو مسلسلًا يجسد كل تلك الدراما فى حياة سيدة ملأت النصف الأول من القرن العشرين حركة ونشاطًا وتأثيرًا.
مثلما حكت فاطمة اليوسف عن حياتها وبدايتها، وحكى عنها الكثيرون، لكن تظل أى كلمة تخرج من مداد قلم رفيق حلمها محمد التابعى هى الأصدق والأكثر تماسًا مع الحقيقة، وقد تملكنى فضول لأرى أول ما كتبه التابعى عن «روزا» صديقته وأمه وأخته، كما كان يصفها. وجدت شهادة غارقة فى الحزن كتبها الرجل فى «آخر ساعة» بعد ساعات من سيره خلف نعشها، ونشرت فى عدد ١٦ أبريل ١٩٥٨ بعنوان «روز اليوسف- ذكريات ودموع».
قيمة ما كتبه التابعى أنه حمل صورًا إنسانية سينمائية مدهشة لم تحكها هى فى مذكراتها الناقصة، على حد قول ابنها إحسان، حكى عن واقعة محاولة انتحارها بعد إصدار الأعداد الأولى من «روز اليوسف»، مشروعها الذى تخلت من أجله عن أمجاد المسرح وأضوائه الباهرة.
أصل الحكاية على لسان التابعى: إنها بعد إصدار مجلة «روز اليوسف».. صحيفة أدبية علمية ثقافية.. فيها صور لوحات فنية بريشة كبار رسامى القرون الوسطى.. وفيها مقالات أدبية بأقلام أكبر الكتاب فى مصر.. وفيها قصائد لفحول الشعراء.. كان الجمهور ينتظر شيئًا غير الأدب والشعر والعلم من مجلة تحمل اسم أكبر وألمع وأشهر ممثلة عرفها المسرح المصرى.. وهبط بيع المجلة.. حتى جاء يوم كنا نطبع فيه ألف نسخة فقط، فلا يباع منها سوى خمسمائة أو ثلثمائة نسخة.. ويعيد باعة الصحف بقية النسخ، وتكدست آلاف وآلاف من النسخ التى لم تبع.

فى آخر ساعة سنة ١٩
وقرر الصديق المنوطة به حسابات المجلة، من أجرة طبع وشراء ورق.. إلخ، أن يبيع هذه النسخ أو «المرتجع» لكى يحصل على شىء من المال، فقد كانت حاجة المجلة إلى المال شديدة ملحة. وباع النسخ بالكيلو.. ولكن الذى اشترى هذه المرتجع عاد فباعها إلى باعة الصحف فى شارع عماد الدين بسعر النسخة «مليم واحد».. مع أن سعرها الرسمى المدون على غلافها قرش صاغ.
وفى السهرة.. وأمام مسرح رمسيس الذى شهد أمجاد «روز اليوسف» ممثلته الأولى العظيمة.. انطلق باعة الصحف ينادون: روز اليوسف بـ«نكلة»... روز اليوسف بـ«نكلة».. والثلاثة أعداد بـ«قرش تعريفة».
وكانت روزا، رحمها الله، جالسة مع صديقين فى مقهى قريب.. اعتاد أن يجلس فيه الممثلون والممثلات والنقاد. وسمعت نداء الباعة.. ورأت فى عيون زميلاتها وزملائها السابقين من ممثلات وممثلى مسرح رمسيس.. قرأت فى عينهم الشماتة والسخرية.. وسمعتهم يتبادلون النكات.. بل وصاحت إحداهن: «بكرة راح تبقى بمليم واحد!».
ويكمل «التابعى» الحكاية الدرامية بامتياز قائلًا:
«واستدعيت إلى تليفون الفندق الصغير الذى كنت أقيم فى إحدى غرفه، وكان أحد الصديقين..
قال: إلحقنا.. قوام بالعجل.. الست عاوزة تنتحر.
ولم أسأله عن السبب، بل ارتديت ثيابى على عجل وأسرعت إلى حيث كانوا.

ووجدت الصديقين ممسكين بذراعيها وكانت تبكى بحرقة.. ولم يكن بكاؤها عن يأس.. كلا.. فإن «روز اليوسف» لم تكن تعرف اليأس، ولكنَّ بكاءها كان من الجرح العميق الذى أصاب كبرياءها. وكان بكاؤها أيضًا من مرارة نكران الجميل الذى لقيته من بعض زميلاتها وزملائها وكان لها عليهم وعليهن أفضال كثيرة.
موقف درامى آخر حكاه «التابعى»، بصفته رفيق التجربة، يصلح مشهدًا سينمائيًا بالغ الأثر، عندما رأها تبكى مرة أخرى.. حيث كانت مجلة «روز اليوسف» تطبع فى مطبعة جريدة البلاغ بشارع الشريفين.. وكان ما تطبعه المجلة الجديدة لا يزيد على ألفى نسخة.. وكانت تطبع فى نفس المطبعة مجلة «الأمل» لصاحبتها السيدة منيرة ثابت.. وكانت «الأمل» تطبع خمس عشرة ألف نسخة.. وكانت هذه الكمية تعد فى ذلك الوقت رقمًا قياسًيا بين الصحف والمجلات.. وأراد أحد عمال المطبعة أن يفسح مكانًا توضع فيه ملازم هذه الكميات «الضخمة» من أعداد مجلة «الأمل».. فأزاح بقدمه الكمية الهزيلة من ملازم مجلة «روز اليوسف».
كان المشهد ذابحًا لقلب «روزا» المراقبة، فانفجرت باكية.. بعد أن انجرح كبرياؤها.
ويقول التابعى: «يومها أخذت بذراعها ومشينا بعيدًا عن المطبعة.. حتى لا يرى العمال دموعها»، ثم قالت وهى تجفف دموعها:
- معلهش!.. الصبر... الصبر طيب!
حَفَل مقال «التابعى» الباكى بمواقف إنسانية كثيرة فى حياة «روزا»، كل مشهد منها يصلح ليكون «ماستر سين» فى فيلم أو عمل فنى كبير تستحقه تلك السيدة التى امتلكت حياة زاخرة بالآمال والأحلام والنجاحات والإخفاقات المصاحبة لتقلبات وطن لم يهدأ يومًا خلال نصف قرن.
وفى النهاية لا أجد إلا دعوة خالصة لأبناء «روز اليوسف»، المحتفين بمئوية ملكتهم المتوجة، للوقوف وراء تجديد أمل سيدة الإنتاج العظيمة مارى كوينى لإخراج عمل فنى متكامل عن «روز اليوسف» السيدة والمجلة والوطن.. إنا ها هنا لمنتظرون.
شهادة التابعى عن كفاح روزا نشرت بعد وفاتها فى آخر ساعة سنة ١٩٥٨
 
           
                

