سُمعة من الشهد إلى الدموع.. وقائع الخذلان فى حياة إسماعيل يس

- بعث إلى عبدالناصر يشكو إليه هوانه على صانعى السينما والمسرح فى بلاده
- توسل العمل من فؤاد المهندس عبر «الكواكب» لكن الأخير تجاهل طلبه
- رحيل الرفاق المقربين واحدًا تلو الآخر أسهم فى انهيار البناء الإنسانى لملك المونولوج المتوج
- رؤيته نعش رفيق المشوار فطين عبدالوهاب كانت القشة التى قصمت ظهره وأيقن بعدها أن النهاية اقتربت
- فى الأهرام كانوا زملاء الملاهى الليلية الذين عمل معهم فى نهاية حياته
- كمال الملاخ كشف فى الأهرام الدقائق الأخيرة على سرير إسماعيل يس قبل أن يسلم روحه
لم يفلح المنديل الأبيض المحلاوى الذى أمسكه إسماعيل يس فى إخفاء تلك النظرة الناعسة التى حملت أكبر من مجرد حزن على رفيق عمر، ينتظر أن يرى جثمانه محمولًا بعد قليل على أكتاف الأبناء والأصدقاء.
الفقيد هو فطين عبدالوهاب العمود الأخير فى بنيان سمعة الإنسانى الذى تصدع بفعل فراق الأحباب المتتالى، فها هو فطين يلبى النداء ويلحق بالرفيق الآخر أبوالسعود الإبيارى الذى انتقل إلى الضفة الأكثر هدوءًا قبل ثلاثة أعوام، وقبلهما بسنوات كانا أقرب الأصدقاء الشاويش عطية وعبدالفتاح القصرى قد تسابقا إلى بوابة الخروج من الدنيا، لتكون النتيجة النهائية أن الرفاق جميعًا تركوا إسماعيل يس وحيدًا، يحارب طواحين النكران القومى لتاريخه العريض.
لو دققت فى نظرة إسماعيل التى التقطتها عدسة «المصور» فى جنازة فطين عبدالوهاب يوم ١١ مايو ١٩٧٢ لربما وجدتها تحمل عتابًا أكثر منه حزنًا، لا تدرى هل هو عتاب للدنيا التى أجهزت عليه بتلك الطعنة الأخيرة فى «عركتها» الكبرى معه، أم عتاب لذلك المسجى داخل نعشه ولسان حاله يقول: لماذا تركتنى وحدى يافطين وقد كنت أستظل بأوراق نجاحاتنا الوارفة التى بنيناها معًا؟، نجاحات ملأت سماء الخمسينيات صخبًا وألقًا لم يصل إليه أحد، كانت ذكرياتنا الحلوة يا فطين هى صكوك الصبر التى أمنحها لنفسى منذ سنوات بعد أن طالتنى يد الخذلان خلال حقبة الستينيات القاسية.
أيام ثقال ياصديقى فطين صرت أتجرع فيها مرارة الأسى والتجاهل لكل تاريخى الذى بنيته عصاميًا منذ أول لحظة وطأت قدمى أرض القاهرة، قادمًا أو هاربًا من جحيم آخر كان يقيم معى فى السويس رفقة طفولتى وبداية شبابى.
لا بد أن منديل سمعة المحلاوى الذى كان يحمله بيسراه فى تلك اللقطة الخالدة، قد استوقف- بجوار العرق الغزير- دمعة أخيرة ذرفها سمعة، لم تكن دمعة حزن خالص بل كانت دمعة مواساة داخلية لنفسه، ومن يدرى؟ فقد يكون خلال تلك اللحظة الخاطفة قد رأى مرقده من النعش الذى سيوضع داخله بعد ١٢ يومًا فقط، مكان صديقه فطين، لعله قال لنفسه مواسيًا: كفى إرهاقًا فقد أزف الرحيل، اسبقنى يا فطين وسألحق بك قريبًا.. وقد كان.. حيث خرجت الجماهير تزف سمعة إلى عالمه الجديد يوم ٢٤ مايو ١٩٧٢ جوار أصدقائه القدامى ورفاق أيامه؛ علهم يستعيدون معًا حلاوة تلك الأيام، وينسون معًا أيضًا مرارة النهايات القاسية لهم.

الطريق إلى المأساة مفروش بالمجد
شهدت الخمسينيات ذروة نجاح تجربة «سمعة»، وقد كان نجاحًا مدويًا لم يصل إليه أحد، عمل مستمر ووقت مشغول بكم هائل من الأفلام وطابور طويل من المنتجين يقفون على أعتاب نجم الشباك الأول إسماعيل يس، الفنان الذى صار رمزًا للمرحلة الجديدة، بكم من الأفلام التى صارت تؤرخ للعهد الجديد من منظور خفيف يحمل روح سمعة، وتحمل اسمه أيضًا، وصار المنتج لا يكتفى بجعل إسماعيل يتصدر الأفيش كبطل أول للعمل، لكن أصبح الاسم نفسه هو «البراند» الذى يسوّق به العمل فى الفيلم، لا بد أن يحمل اسمه إسماعيل يس ثم تضع أى شىء، إسماعيل يس فى الجيش أو بوليس حربى، أو بوليس سرى أو فى الأسطول أو فى السجن أو فى الطيران أو فى جنينة الحيوانات أو فى دمشق أو فى مستشفى المجانين أو فى متحف الشمع أو حتى يقابل ريا وسكينة، المهم أن يكون البراند مسجلًا على الأفيش، باختصار صار خلطة نجاح مضمونة لكل منتج حريص على رجوع أمواله مضاعفة إلى جيبه فور عرض الفيلم وبيعه.

بالتوازى مع تلك الطفرة السينمائية أتى مسرح إسماعيل يس الذى كان نتيجة حتمية لذلك النجاح الجنونى لسمعة على مستوى السينما، ويؤسس الرجل مسرحه رفقة صديقه أبوالسعود الإبيارى ليرتفع الستار فى ١١ نوفمبر ١٩٥٤ عن أول عمل مسرحى تقدمه الفرقة الجديدة الواعدة باسم «حبيبى كوكو» لتبدأ موسمها الأول بتقديم ست مسرحيات بمعدل مسرحية كل شهرين تقريبًا.
وهكذا يرسخ مسرح إسماعيل يس أقدامه سريعًا ليصير هو البديل الطبيعى لمسرح الريحانى الراسخ فى قلب الفن منذ العشرينيات، والأكثر من ذلك فقد رصدت الصحف حالة من السجال والحرب الخفية والمعلنة التى خاضها بديع خيرى رفيق الريحانى وحامل لوائه ضد فرقة إسماعيل التى فتحت أبوابها على مصراعيها أمام أبطال الريحانى التاريخيين بإغراءات مادية غير معقولة أسالت لعاب الكبار، مثل حسن فايق الذى كان ضلعًا أساسيًا فى مسرح الريحانى وعرض عليه أبوالسعود الإبيارى، مدير مسرح إسماعيل يس، خمسة أضعاف أجره حيث كان يتقاضى ٥٠ جنيهًا فقط مخصومًا منها أيام الإجازات وعدم المشاركة، فى حين أن عرض الإبيارى المغرى كان ٢٥٠ جنيهًا ثابتة دون النظر إلى المشاركة فى العروض أو الإجازات.
بديع وفقًا لما جاء فى الكتاب الممتع «ملك حزين- سيرة درامية» الصادر عن دار «ريشة» للكاتب المتمكن «ماهر زهدى» قد عقد ما يشبه المعاهدة مع مدير فرقة إسماعيل يس المسرحية للاتفاق الأخلاقى عن عدم خطف الممثلين بإغراءات مادية؛ حفاظًا على وحدة وتماسك فرقة الريحانى التاريخية التى لم تستطع فى البداية الصمود أمام ذلك النجاح الكاسح لمسرح إسماعيل يس، بعد أن صار مرادفًا لكلمة كامل العدد فى أغلب مواسمه.
واستمرت سكرات هذا النجاح تسيطر على سمعة طيلة سنوات الخمسينيات الذهبية وهو الأعلى أجرًا على كل المستويات، حتى إنه تحت وطأة النجاح الدائم لم يلتفت للأرض التى تتحرك من تحت قدميه، كما لم يتلفت لذلك الوافد الجديد على الملعب الذى تسيده سمعة، ونقصد التليفزيون، الجهاز السحرى العجيب الذى أعلنت الصحف فى يوم ٢١ يوليو ١٩٦٠ فى تمام الساعة السابعة عن بداية البث الرسمى له ليكون خير مفتتح لعقد كامل من الزخم الفنى الذى صنعه على كل المستويات، وهو عقد الستينيات الذى حمل بين طياته نصالًا حادة تُجهز على تجربة إسماعيل يس الزاهرة.

الستينيات حقبة المجد الضائع
وكأن عام ٦٠ جاء ليكتب النهاية القاصمة لتجربة إسماعيل، فقد شهد هذا العام نزولًا قويًا فى عدد الأفلام التى يمثلها، فلك أن تتخيل أنه فى آخر عامين من الخمسينيات مثّل ١٨ فيلمًا من بطولته بواقع تسعة فى عام ٥٨، وتسعة فى عام ٥٩، ثم فجأة ينزل هذا العدد إلى ستة أفلام فقط وفى العامين التاليين ٦١ و٦٢ يصير العدد فيلمين فى السنة، ثم فيلم واحد فى عام ٦٣، إلى أن جاء عام ٦٤ ليعيش إسماعيل لحظة المواجهة مع الواقع الجديد المؤلم، حيث خلت السينمات فى هذا العام من أى فيلم عليه اسم إسماعيل يس وهو أمر لم يعشه الرجل منذ بداية لمعانه، وكان بداية النظر فى مرآة الحقيقة القاسية، وكأنه يقول لنفسه متشككًا: يبدو أن زمنك ولى يا سمعة؟
كان ذلك الانحدار على كل المستويات مرافقًا لحادثين أشد قسوة على نفس إسماعيل وهو رحيل اثنين من الأحبة والرفاق، الأول كان الشاويش عطية أو رياض القصبجى الذى رحل بعد معاناة قاسية مع المرض فى أبريل ١٩٦٣ وتبعه الصديق الآخر عبدالفتاح القصرى الذى رحل فى مارس ١٩٦٤.
والمؤكد هنا أن رحيل الثنائى كان له أثر نفسى بعيد على إسماعيل على الرغم من توجيه النقد اللاذع له حينها من بعض الأقلام على تقصيره فى حقهما وعدم سؤاله عليهما.
كل ذلك وشمعة إسماعيل تنطفئ على كل المستويات السينما والمسرح والصحة كذلك.. وفى عدد الكواكب ٢٥ أكتوبر ١٩٦٦ كتب إسماعيل يس صفحة كاملة بعنوان «لماذا أغلقت مسرحى؟» يحكى فيها الرجل المكلوم باستفاضة كواليس ما حدث.. وقد يكون من المناسب أن نستقطع بعض الفقرات مما حكاها سمعة بنفسه ذارفًا الدموع على تجربة عاشت اثنى عشر عامًا منذ عام ٥٤ على أكتافه وعلى حساب أعصابه وصحته التى تدهورت.. حيث قال:
«أخيرًا قررت أن أغلق أبواب فرقتى بعد جهاد اثنى عشر عامًا متواصلة وبعد خسائر تجاوزت الثلاثين ألفًا من الجنيهات أنا وشريكى فى الفرقة أبوالسعود الإبيارى...
وأخيرًا نزلت عند نصائح الأصدقاء المختلفين واقتنعت بآرائهم بأن لا فائدة من هذا الجهاد المتواصل وتلك الخسائر الفادحة من أجل مبدأ فنى عملت من أجله، وهو أن تبقى فرقة إسماعيل يس فى ميدان المسرح تسهم فى نهضة المسرح العربى، وتقدم ألوانًا من المسرحية الكوميدية والفن المسرحى لا تقدر على تقديمه أى فرقة أخرى».
ثم يستخدم سمعة تقنية الفلاش باك السينمائية فى حكيه ليعود بنا إلى بداية التجربة فيقول:
«أعود بذاكرتى إلى الوراء.. إلى اثنى عشر عامًا مضت يوم قررت أنا وزميلى أبوالسعود الإبيارى أن ننشئ فرقة مسرحية بعد أن قلت الحياة الفنية من الفرق المسرحية، وابتلعت السينما كل الجهود الفنية وكان مجرد التفكير فى تكوين فرقة مسرحية يعتبر ضربًا من الجنون.. وكنت يومئذ أملأ الشاشة العربية بأدوارى، وأشترك فى ٧٥٪ من الإنتاج السينمائى إلى جانب عملى كمونولوجست فى الحفلات والمسارح الاستعراضية، ولم أكن فى حاجة إلى أى مجال جديد لأضيف نجاحًا إلى رصيدى الكبير من النجاح عند الجماهير، وأذكر يومها أن زارنى صديق كريم النفس لينصحنى بالعدول عن هذه الفكرة، ويشرح لى ما سأتعرض له من خسائر ومتاعب وكأنه كان يقرأ الغيب أو يطلع على اللوح المحفوظ، كما يقولون.. وقد رفضت يومها أن أستمع إلى نصيحته، فقد كنت مؤمنًا إيمانًا عميقًا بأن من واجبى أن أبذل كل ما وسعنى من جهد لأبعث الحياة من جديد فى المسرح المصرى الذى كان المسرحيون يومئذ يكادون يوسدونه التراب.

ونجحت فرقة إسماعيل يس نجاحًا كبيرًا وأقبلت الجماهير عليها إقبالًا عظيمًا وكان المسرح يمتلئ كل ليلة عن آخره بالجمهور، وكانت فرحتى لا تعدلها أى فرحة لأننى استطعت أن أجذب هذه الجماهير إلى المسرح بعد أن انصرفوا عنه، وبعد أن ظهرت إحصائية فى إحدى المجلات تقول إن عدد المتفرجين الذين يذهبون إلى المسارح لا يزيد على ألف متفرج فى العام الواحد فجاءت فرقتى لتخلق جمهورًا للمسرح يزيد كل يوم على ألف متفرج.
وفى نهاية الموسم كان طبيعيًا أن أحصى المكسب والخسارة فوجدت أن الخسارة المادية فى أول موسم تتضاءل إلى جانب النجاح الفنى الكبير الذى حققته بكسب جمهور للمسرح.. وتتابعت المواسم المسرحية وازداد النجاح الفنى وازدادت أيضًا الخسائر، ولكننى لم أفكر تفكيرًا تجاريًا وأوازن بين المكسب والخسارة، فأنا لم أجعل الفرقة يومًا ما مصدر رزق لى أو أرباحًا مادية، بل كان همى الأول هو العمل الفنى فقط.. ووجدت نفسى ذات يوم أنفق كل ما أحصل عليه من أجور فى السينما على فرقتى المسرحية».
ثم ينتقل سمعة إلى تشريح سبب ما آلت إليه فرقته فيقول:
«كانت الخسائر محتملة بعض الشىء حتى ظهرت الفرق المسرحية التليفزيونية التى ابتكرت بدعة النجوم وضيوف الشرف، وَسَخَت فى دفع الأجور لهم حتى إن الممثل النجم كان يتقاضى أربعمائة جنيه فى أسبوعين فقط، وبدأ الممثلون أعضاء فرقتى يطالبون بزيادة مرتباتهم وكنت أضطر إلى الاستجابة لمطالبهم، وبودِّى لو كان فى استطاعتى أن أرفع كل يوم من هذه المرتبات.
وانتظرت أن أجد من المسئولين عن النشاط المسرحى بعض التقدير المادى الذى يغطى خسائرى، خاصة أننى سمعت من بعض هؤلاء المسئولين ثناءً كبيرًا على جهودى المسرحية وعلى نجاح فرقتى فى استعادة الجمهور إلى المسرح بعد أن انصرف عنه إلى السينما.. ومضت المواسم المسرحية موسمًا وراء موسم دون أن تفكر الهيئة المسئولة عن النشاط المسرحى فى أن تسهم بأى جهد مادى أو أدبى أو حتى لا يعوق اشتغالى بالسينما جهودى المسرحية، وإذ بى ذات يوم أجد نفسى أذهب كل يوم إلى المسرح فى مواعيد منتظمة لأعود إلى البيت. بعد مجهود عنيف دون أن أجنى ثمرة هذا المجهود ماديًا وعجزت مواردى الخاصة عن تغطية خسائر الفرقة وتعرضت لزيارات متكررة من المُحضرين لتسديد ديون مصلحة الضرائب، وبدأت الأمراض تتسرب إلى جسمى من كل لون وشكل؛ بسبب التفكير العصبى الشديد فى توفير مرتبات أعضاء الفرقة فى مواعيد منتظمة، وكذلك إيجار المسرح الذى كان يصل إلى خمسمائة جنيه كل شهر دون أن تفكر الهيئة المسئولة عن المسرح فى أن تقدم لى هذا المسرح ولو بإيجار رمزی حتى أستطيع مواصلة جهودى الفنية.
وكان من نتيجة هذا الكفاح المضنى وذلك المجهود العنيف أن سقطت مريضًا وتلفت حولى لعلى أجد هيئة أو فردًا يقف إلى جواری فى تلك المحنة.. وأقولها- محنة المرض- مع الأسف الشديد لم أجد أحدًا، ويعلم الله كيف استطعت أن أجتاز محنة المرض وكيف دبرت نفقات العلاج بعد أن تبخرت كل مواردی المادية التى التهمتها خسائر فرقتى المسرحية.

وكان لا بد أن أستجيب للنصيحة واتخذت قرار حل الفرقة والدموع تملأ عينى، وكأن سكينًا حادة النصل تنتزع جزءًا من لحمى، وأنا أفكر فى مصير زملائى أعضاء الفرقة الذين استقرت حياتهم فى العمل بفرقتى ونظموا معيشتهم على المرتبات الثابتة التى كانوا يتقاضونها من الفرقة.
وأفكر أيضًا فى النتائج التى وصلت إليها بعد هذا الجهاد الطويل فوجدت أن أكبر ثمرة حققتها فى الفرقة هو أننى كسبت جمهورًا للمسرح وهو الذى يملأ مسارح الدولة اليوم.
وبعدها نصحنى الأطباء بأن أمتنع عن العمل لمدة ستة أشهر، وألزم خلالها الفراش والراحة الكاملة، على أن أعمل فى الأفلام السينمائية بعد ذلك، لأن طبيعة العمل فى السينما تتيح لى فترات طويلة من الراحة أثناء النهار.. أما العمل بالمسرح فقد نصحونى بألا تتجاوز جهودى فيه أسبوعين لأن السهر يهدد حياتى بخطر جسيم».
بعد هذا المقال عاش بالفعل إسماعيل فى نفق مظلم من النسيان الذى يجرف سيرته، ويأتى على فنه وتاريخه، الأمر الذى كان يخرجه عن طوره، ويجعله يصرخ على صفحات المجلات لكى ينقذه أحد المسئولين ويمد له يد العون.

صرخات سمعة فى فضاء لايسمع
الحكم بالإعدام على إسماعيل يس.. كان هذا هو نص عنوان الكواكب فى العام التالى على إغلاق مسرحه وتحديدًا فى عدد ١٢ فبراير ١٩٦٧ وفيه تساءلت كاتبة الموضوع منى الملاخ هل فكرت وزارة الثقافة أو مؤسسة المسرح أن تمد يد المعونة لأعضاء الفرقة التابعة للعمل؟. وفى نفس الموضوع يتحدث سمعة بأسى شديد مع محررة الكواكب: «كان شيئًا خطيرًا أن أكون مسئولًا عن إسعاد الناس ثم أتخلى عنهم ولكن ليس هذا ذنبى فقد مرضت مرضًا شديدًا بسبب الإرهاق فى العمل».
وبعد أن يحكى سمعة عن تفاصيل مرضه يقول إن مفاجأة أليمة كانت تنتظره على باب المستشفى أثناء خروجه، حيث وجد فرقته التى عمل على تكوينها ومكثت نحو ١٢ عامًا، قد أغلقت أبوابها أثناء غيابه فى المستشفى، ولام سمعة على المسئولين قائلًا: «لم تفكر الدولة فى مساعدة الفرقة ولو بمبلغ ضئيل حتى لا تتوقف عن العمل».

ثم يكمل إسماعيل لطمياته على ما آل إليه حاله حيث يقول: «ليس هذا فقط وإنما فوجئت أيضًا بمصلحة الضرائب تطالبنى بمبلغ ٣١ ألف جنيه قيمة ضرائب متأخرة من عام ١٩٥٠ ودهشت عندما قرأت أسماء أفلام زعمت أننى مثلتها، مع العلم أننى لم أسمع عنها قط، فعلى سبيل المثال فيلم إسماعيل يس فى الجيش كان مسجلًا باسم إسماعيل يس دفعة، والآن أنا مطالب بأن أدفع ضرائب على الفيلمين مع أنهما فيلم واحد».
وما يدعو للأسى فى هذا الحوار القصير أن إسماعيل قد أثنى على تجربة فؤاد المهندس فى المشاركة فى تكوين فرقة الفنانين المتحدين، دون أن يعتبر نفسه صاحبها، وتعامل على أنه عضو يتقاضى أجرًا كغيره من الأعضاء، وقال عارضًا نفسه على المهندس قائلًا: «لو عرض علىّ أن أنضم للفرقة سأوافق فورًا دون تردد، لأننى من أشد المعجبين بهذا الفنان المكافح فهو فنان يستحق التقدير والاحترام».
وليس خافيًا بالطبع على أحد، أن هذا لم يحدث ولم يتلق سمعة أى عرض من المهندس، على الرغم من فداحة الأمر على نفس إسماعيل أن يعرض نفسه للعمل بعد كل هذا المجد.
وفى آخر لقائه القصير مع الكواكب سنة ٦٧، وجه كلامًا يقطّع القلوب إلى مؤسسة المسرح، طالبًا منها أن تشفق عليه وعلى الزملاء الذين أغلقت بيوتهم، وذلك بأن تعيد إحياء الفرقة لتعود للعمل ويعود هو للعمل فيها بأجر كأى عضو آخر، لأنه لا يملك ما يصرفه عليها، ثم ينوه سمعة فى النهاية بأنه بعث كل هذا الكلام إلى الرئيس جمال عبدالناصر يشرح له الحالة بالتفصيل لأنه «تعب جدًا من عدم العمل»، على حد قوله.. وعندما أرادت صحفية الكواكب أن تأخذ منه جملة أخيرة قال بالنص: «أرجو أن أعود للعمل، فالعمل هو صحتى وحياتى، وألا يكون هناك حكم بالإعدام ضدى فأموت عاطلًا بائسًا تملأ الدموع عينى بعد أن ملأت قلوب الناس بالأفراح».

لعنة الله على النكسة
بعد هذا الحوار الباكى لـ«سمعة» مع صحفية الكواكب بأسابيع قليلة، جاءه طوق النجاة، لكن هذه المرة كان من دولة الكويت، إذ وجهت إليه الدعوة للزيارة والتعاقد معه على تقديم مونولوجاته وأعماله المسرحية هناك، فسافر فى آخر مايو ١٩٦٧ وكله أمل فى استعادة بريقه وأمجاده مجددًا، لكن الأقدار كانت له بالمرصاد، فما كاد يحط رحاله فى دولة الكويت حتى وقعت الحرب بين مصر وإسرائيل فى ٥ يونيو؛ لتخيم على أجواء الوطن النكسة الملعونة بكل ما حملته من معانٍ سيئة وخسائر فادحة على المستويين المادى والمعنوى.
ترك يس الكويت مضطرًا وذهب إلى بيروت للعودة عن طريقها إلى مصر، وفى بيروت عقد بعض الاتفاقات الفنية لتقديم عدد من الأفلام، وكان ذلك بمثابة عودة الروح إليه. رجع يس إلى القاهرة فور التعاقد، ليصطحب معه إلى لبنان، زوجته فوزية وابنه الوحيد يس، فهو لا يستطيع العيش دونهما، ولم يكن الابن أنهى دراسته فى المعهد العالى للسينما فى قسم الإخراج، لكنه ترك المعهد وسافر مع والده.

خلال وجوده فى لبنان لم يجد يس الفرصة الحقيقية التى كان فى حاجة إليها، والفرص التى أتيحت أمامه لم تعطه الدور الأول أو الثانى أو حتى الثالث، لكن أمام ضغوط الحياة اضطر أن يقبل بها لتسيير حياته، فقد أراد البعض استغلال اسمه، فشارك فى «كرم الهوى، لقاء الغرباء، وفرسان الغرام». من السينما إلى التليفزيون، حيث قدم يس البرامج وامتد نشاطه إلى المشاركة فى الحفلات الفنية وبعض الملاهى والفنادق، ووجدت الإعلانات الدعائية فيه «صيدًا»، فسقط فى إغرائها وقدم إعلانات تروج لبضائع مختلفة!
وهكذا وجد سمعة نفسه فى وضع فنى لا يحسد عليه، وعلى الرغم من ذلك لم ييأس، وكانت له محاولة لإعادة إحياء الفرقة المذبوحة لتعمل فى الشام، مستغلًا ما جمّعه ماديًا فى تلك الأثناء، واستقطب أسماء مثل محمود المليجى وعقيلة راتب وجمالات زايد، لكن للأسف حدثت النكسة الثانية له وخسر سمعة ما جمعه وفشلت الفرقة الجديدة فشلًا ذريعًا.
إلى أن أوان العودة للطيور الفنية المهاجرة إلى لبنان، بعد أن صدرت دعوات رسمية من الدولة المصرية تطالب أبناءها بالعودة لأهمية الفن فى شحذ الهمم المنكسرة، فعاد سمعة مع العائدين منتظرًا استعادة المجد القديم، لكنه لم يجد غير وحش التجاهل والنكران وقد تضخم واستفحل أكثر مما تركه.

ثورة سمعة الأخيرة: لماذا ذبحتونى؟
فى مارس ١٩٦٩ أجهز القدر عليه بضربة موجعة برحيل رفيق العمر والنجاح أبوالسعود الإبيارى، وكأنه كان ينقص سمعة مزيد من الإحباطات واليأس، لكن بعد أسابيع قليلة من ذهاب الإبيارى جاء إلى إسماعيل عرض عمل فى فرقة عمر الخيام، فرح به بالطبع، لكنه فجر داخله بركان الغضب، وكأنه ضغط على جرحه الغائر، الذى زاده التجاهل والمرض صديدًا وتقيحًا، فلم يجد سمعة غير الصحافة، أيضًا، لينفث من خلالها براكين الغضب المعتملة داخله، التى جعلته يفرح بفرصة صغيرة مثل هذه بعد أن كان المنتجون يقفون على أبوابه أفواجًا.
فى عدد الكواكب يوليو ١٩٦٩، أفردت له المجلة بقلم محررها الكبير حسين عثمان حوارًا عالى النبرة، أطاح فيه سمعة بكل محاذير الحكمة وهاجم الجميع من أول عبدالحميد السحار، رئيس مؤسسة السينما، حتى صديقه ورفيقه فطين عبدالوهاب، الذى ظن سمعة أنه شارك فى تهميشه، ووصل إليه من بعض الواشين أن فطين خرج من عباءته ولا يريد دخولها مرة أخرى، بعد أن صار ماركة مسجلة فى نجاح أى فيلم كوميدى، وذهب البعض إلى درجة أن فطين كان يرفض أن يوضع إسماعيل ضمن أبطال أى فيلم يخرجه؛ كشرط أساسى للعمل عليه، الأمر الذى تكشف خطؤه بعد ذلك، وعرف سمعة أن فطين هو الذى كان يطرح اسم صديقه سمعة على المنتجين، لكن كانوا يرفضون على اعتبار أنه «راحت عليه».
فى حوار الكواكب يصرخ سمعة، قائلًا: «هل هذا معقول؟، وهل الذى يجرى الآن بالنسبة لى حقيقة أم حلمًا؟!، وهل موقف مؤسسة السينما والمنتجين والمخرجين منى مَن صنع ظروف خارجة عن إرادتهم، أم بوحى من تدبير ومخطط ضدى؟، هل أحد يصدق أن إسماعيل يس الذى كان يقوم ببطولة ستة أفلام كل شهر، ولا تباع الأفلام فى الأسواق الخارجية إلا باسمه والذى كان اسمه عنوانًا أو ضمانًا لرواج الأفلام.. هل يصدق أحد أن هذا الممثل لم يشترك منذ خمس سنوات أو أكثر فى فيلم واحد؟.. لقد كنت أسأل نفسى هذا السؤال فلا أجد جوابًا يبرد عدم الاستعانة بى فى هذا العدد الكبير من الأفلام التى أنتجت خلال السنوات الماضية.. وكنت أضحك وأنا أقرأ تصريحات عبدالحميد السحار، رئيس مؤسسة السينما، التى يقول فيها إن جميع الأفلام التى تنتجها المؤسسة استوعبت جهود جميع الفنانين.. واعتقدت أنه نسينى.. فذهبت لمقابلته فسمعت منه كلامًا أحلى من السكر أثلج صدرى وجدد الأمل فى نفسى.. ولكن يبدو أن عبدالحميد السحار يحسن الحديث فقط وينسى التنفيذ، فمنذ التقينا لم ينفذ وعدًا من وعوده لى.

وجلست مرات عديدة أستعرض جهودى مع بعض المنتجين والمخرجين.. وسألت نفسى كيف نسينى هؤلاء؟.. كيف نسينى عباس حلمى وجمال الليثى ورمسيس نجيب، وكل منهم لم يصبح منتجًا كبيرًا إلا بعد أن ربح من أفلامى أرباحًا خيالية؟.. بل كيف نسينى المخرج فطين عبدالوهاب الذى انتقل من صفوف المخرجين العاديين إلى صفوف كبار المخرجين بفضل الأفلام التى أخرجها لى، والتى ما زالت حتى اليوم «شهادة» يعتمد عليها فى تاريخه الفنى كمخرج للأفلام الكوميدية»؟
ثم يهاجم سمعة فريد شوقى، الذى كان يمثل على المسرح حينها أدوار الريحانى، فقال: «فريد سقط سقطة فنية لن يغفرها التاريخ الفنى له، فقد لبس «بدلة» أوسع من «جسمه» عندما مثل أدوار الريحانى»، ثم يكمل صب نقمته على من شاركوا فى تجاهله حتى فى زيارات الفنانين إلى جبهات القتال، فيقول: «لقد نسينى الذين نظموا زيارات الفنانين لجبهة القتال.. ونسينى الذين نظموا حفلات تدعيم صندوق معاشات الفنانين.. كل هذا يجعلنى أسأل مَن الذى حكم علىّ بالإعدام الفنى وأنا حى أرزق؟.. إننى لا أشكو من الجوع فأنا مستور والحمد لله، ولكن هل يستطيع فنان يشعر بالقدرة الكاملة على العمل وخدمة فنه وبلاده أن يرضى بالعزلة التى حكم علىّ بها؟.. سؤال أرجو أن تطرحه الكواكب على صفحاتها؛ لعلى أجد ردًا من المسئولين عن النشاط السينمائى والمسرحى يرضى جمهورى الذى يسألنى فى كل مكان: أين أنت يا إسماعيل».

أيام وبنعيشها.. بعدك ياجمال
بالطبع لم يكن يوم ٢٨ سبتمبر يومًا عاديًا على مصر كلها، فموت عبدالناصر المفاجئ أفرز شعورًا قوميًا معروفًا، اسمه «قضم الظهر»، وهو بالضبط ما شعر به سمعة الذى كان يعتبر عبدالناصر صديقًا، خاصة أن ابنه يس صديق خالد ابن عبدالناصر ويقضى فى بيت الزعيم ساعات طويلة، هذا بخلاف أن سمعة بالرغم من كل شىء كان ما زال يرى أن الحل عند عبدالناصر، وأقصد هنا حل مشكلته مع الزمن الذى توقف عنده ورفض يمنحه مكانته القديمة، حتى إنه -كما قلنا- قال عبر الكواكب إنه بعث إلى ناصر يشكو إليه هوانه على صانعى السينما والمسرح فى بلاده.
إذن كان خبر موت عبدالناصر بالنسبة لـ«سمعة»، هو استمرار لحالة الخذلان الجماعى التى يشعر بها من الدنيا بعد رحيل الأحبة واحدًا تلو الآخر، وانهيار جيل المجد القديم.
المفارقة الغريبة والحزينة التى رصدتها هنا، أن مجلة الكواكب مثلًا فى تغطيتها مسيرات الفنانين حزنًا على رحيل الزعيم، لم تذكر اسم إسماعيل الذى شارك فيها وظهر فى صورة ضمن تلك المسيرات حتى لم يذكر اسمه فى التعليق على الصورة؛ على الرغم من ذكر كل الذين بجواره.. وكأن سمعة كان فى حاجة لمن يؤكد له أن أحدًا لم يعد يراه أو يلفت نظره وجوده.

وعلى ما يبدو أن إسماعيل أيقن حينها أن الزمان لن يعود لأيام المجد مرة أخرى مهما تعالت صرخاته، لكن سمعة كان مخطئًا فى ذلك، فقد عاد به الزمان بالفعل فى أواخر شهوره، لكن عاد لما قبل المجد، عاد لأيام الصعلقة ومحاولة إيجاد موطئ قدم للشاب السويسى الفقير فى الثلاثينيات.
الذى حدث فعلًا أن سمعة فى شهوره الأخيرة هدأت صرخاته واستسلم لواقعه المرير، وفوجئ رواد ملهى ليلى اسمه «رمسيس» ذات ليلة بإسماعيل يس بينهم يقف على المسرح ويلقى نكاته ومونولوجاته مثل سنواته الأولى عندما كان يقف على مسرح بديعة يفعل الشىء نفسه.
وطبطب الزمن قليلًا على سمعة ونجح نسبيًا فى ذلك بعد أن استقبله الجمهور استقبالًا جميلًا، خلق حالة طلب عليه من قبل بقية ملاهى شارع الهرم.
وعاش سمعة أيامًا قاسية كان يُضحك جمهور الملاهى وقلبه يبكى، بينما النقرس يفترس قدمه، وفى وسط ذلك اشترك فى فيلم تليفزيونى ضحل الإنتاج اسمه «وصية المرحوم» حتى أت يس مكالمة أعادته إلى الإحساس بالحياة مرة أخرى، وكانت من المخرج أحمد ضياء الدين الذى طلبه فى دور محورى فى فيلم سينمائى جديد باسم «لعبة الشيطان»، الذى تغير اسمه بعد ذلك إلى اسم «الرغبة والضياع» من بطولة رشدى أباظة وهند رستم، والنجم الصاعد بقوة الصاروخ نور الشريف.

الحقيقة أن الأهرام رصدت مشهدًا إنسانيًا معبرًا عما كان يكتنزه إسماعيل من قهر وحزن على المجد الضائع، حيث كشف كمال الملاخ عن أن أول يوم تصوير لإسماعيل يس فى الفيلم فوجئ فور دخوله الفيلا التى كانوا يصورون فيها، وهى مطلة على الهرم، بأن زملاءه قد أقاموا له حفلًا دون أن يخبروه، وذلك تقديرًا لعودته للملاعب مرة أخرى. وعلى عهدة الملاخ أن سمعة عندما دخل ووجد هذا المشهد أخذ يبكى بحرقة لمدة نصف ساعة كاملة دون أن يستطيع أحد إيقافه تأثرًا، وكأن بركان الحزن الذى اختزنه خلال كل تلك السنوات قد خرج منهمرًا مرة واحدة كالشلالات دون أن يوقفها أحد، حتى هدأ سمعة وبدأ يستوعب الأمر، وشكر الزملاء واستأنف الجميع تصوير الفيلم، ولاحظوا أن إسماعيل الذى يمثل ليس هو إسماعيل يس الذى يعرفونه جيدًا، فقد اتسم تمثيله بالوقار والاتزان، وكأنه أدرك متأخرًا أن عليه أن يغير جلده، ويمنح فرصة أكبر للممثل بداخله على حساب المهرج حتى لا تموت تجربته بالتعود، لكن هيهات، فقد كان الوقت قد فات، كما لم يخف على جميع مَن فى موقع التصوير مسحة الحزن المقيمة التى كانت لا تفارق عينيه.

فطين ذهب وجاء الدور
فى وسط اندماج سمعة فى التصوير جاءت لطمة القدر الأخيرة برحيل الرفيق والصديق المتبقى من مخزون العمر، وهو فطين عبدالوهاب، ذهب سمعة إلى جنازته وهو يشعر بأن النهاية على مرمى البصر، فقد سقط آخر دروعه فى مواجهة الحياة للتو، ولم يعد لديه زاد إنسانى يسعفه أمام مقالب الدهر، وكانت صورته فى جنازة صديقه معبرة عما وصل إليه سمعة من يأس وكفاية من الحياة.
خرج سمعة من وداع الرفيق الأخير هاربًا بهمومه إلى الإسكندرية ليمكث فيها ١٠ أيام، كان فيها على ما يبدو يحاول أن يستعيد توازنه المفقود كى يعود لاستكمال الفيلم الذى جاءه بعد طول انتظار، وعاد بالفعل سمعة إلى القاهرة، لكنه لم يعد للفيلم، بل عاد لملك الموت الذى كان ينتظره على سريره فى القاهرة.

فوجئ القراء أثناء تصفحهم الجرائد الصباحية بخبر قصير متوارٍ عنوانه «وفاة إسماعيل يس صباح اليوم بأزمة قلبية»، وقد اختصر الخبر الدقائق الأخيرة فى حياة سمعة، حيث ذكر أن الأزمة القلبية قد فاجأته إثر وصوله منزله بعد منتصف الليل قادمًا من الإسكندرية، التى سافر إليها حزنًا على صديقه فطين عبدالوهاب، وبعد وصوله دخل حجرة نومه وجلس فوق السرير وتأهب لإشعال سيجارة، ولكن الأزمة فاجأته وأسرع ابنه يس إلى التليفون، لكن وجده متعطلًا فجرى إلى الإسعاف بحثًا عن طبيب، وفى الوقت نفسه اتصل أحد أقاربه بقائد غرفة العمليات بنجدة القاهرة الذى شارك فى الاتصال بالإسعاف، وعندما وصل الطبيب منزل إسماعيل يس كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة.
وبالعودة إلى الفيلم، كشف كمال الملاخ، بعد ذلك، فى الصفحة الأخيرة للأهرام، عن أن المخرج رأى الحفاظ على ما صوره إسماعيل؛ على الرغم من أن المشاهد كانت نصف دوره فقط، وحصرها فى النصف الأول من الفيلم مع تعديلات ضرورية فى السيناريو؛ حتى يحافظ على وجود سمعة، ويتمكن جمهوره من رؤيته لآخر مرة عبر شاشة السينما، وهو ما حدث فعلًا.

نعى الأهرام لطمة أخيرة
صفحة وفيات الأهرام لم تكن يومًا مجرد صفحة يتبادل من خلالها الناس أصدق التعازى، أو وسيلة إعلان عن وفاة هذا أو ذاك، لكنها كانت دائما مصدر معلومات عام، تستطيع من خلال ما تستنبطه من تشابك العلاقات تكوين خريطة إنسانية واستنباط معلومات، أو حتى تصحيح معلومات متداولة، لذلك حرصت أن أنظر لصفحة وفيات الأهرام فى عدد ٢٥ مايو ١٩٧٢ لأرى نوعية المعزين فى سمعة.

مبدئيًا خلت قائمة المعزين الذين قرروا أن يدفعوا ثمن نعى لفنان فى قيمة إسماعيل يس، فتجد النعى الأول هكذا:
سعيد مجاهد وأسرة العاملين فى رمسيس الهرم ينعون زميل وصديق العمر فقيد الفن والفنانين، والنعى الثانى كان باسم شوقى إبراهيم وأسرة العاملين بمسرح المنوعات بقصر شهر زاد، والنعى الثالث باسم الفنانة سهير مجدى وهى راقصة زميلة لإسماعيل، ثم اتحاد طلبة معهد السينما وهم زملاء ابنه يس، بالطبع، كما اتضح بعد ذلك فى صياغة النعى، ثم المركز الفنى للصور المرئية ونادى السينما بالقاهرة، ثم ما عرف بـ «صندوق الفنانين والأدباء، وأخيرًا كان النعى باسم فرقة نجيب الريحانى الغريم القديم لفرقته خلال فترتها الذهبية فى الخمسينيات.
الملاحظ أن السبعة أسماء التى نعت إسماعيل يس فى الأهرام لم يكن من بينها أى اسم كبير من أسماء المسيطرين حينها على السينما والمسرح، فلم أجد مثلًا فؤاد المهندس ينعيه، أو عبدالحليم حافظ، أو عبدالوهاب، أو أى من نجوم المرحلة الجديدة، مع أن هذا الأمر كان معتادًا بين الفنانين الكبار تقديرًا لهم ولمكانتهم، لكن أغلب من نعاه هم من عمل معهم سمعة فى آخر أيامه فى الملاهى الليلية، مثل رمسيس، وقصر شهر زاد، وسهير مجدى الراقصة المغمورة التى اعتزلت بعد ذلك ولازمت بيتها.

حتى الصورتين اللتين نشرتهما الأهرام فى صفحتها الأخيرة من جنازة سمعة لم يظهر فيهما غير محمود شكوكو، الذى يبكى بحرقة حاملًا جثمانه، وفى التعليق الذى وضعه محرر الأهرام يقول «قد اشترك فى تشييعه جموع من المواطنين كانت أعدادهم أكثر من الفنانين والفنانات الذين ساروا فى الجنازة ويبدو فى الصور محمد رضا وأمين الهنيدى».
وهكذا مات سمعة الذى صنع تاريخًا فنيًا ضخمًا، وفى حلقه غصة لم تندمل حتى وفاته وبعد موته أيضًا.