نزيف المانشيت... موت عبدالناصر.. دموع على الورق الأصفر

- هيكل الصحفى تغلّب على هيكل الصديق والسياسى لتخرج الأهرام بأكثر التغطيات مهنية لموت الزعيم
- كاريكاتير صلاح جاهين فى الأهرام ثانى يوم الوفاة كان الأكثر تعبيرًا عن تأثير الفاجعة على العالم
- «سبحانك يا رب.. عبدالناصر؟» حكاية مانشيت لبنانى كسر كل القواعد الصحفية
- شهادة الصحفى الشاب صلاح منتصر من داخل غرفة ديسك الأهرام عن لحظة معرفة هيكل خبر موت صديقه
- فاجعة الأمة أفرزت مانشيتات صحفية متشنجة ومرتبكة ومتسائلة وحزينة على رحيل رجل عظيم
كرة أرضية ملفوفة بشارة سوداء مكتوب عليها ٤ كلمات «هنا عاش جمال عبدالناصر»
وتعليق صغير أعلى الرسمة من كلمتين فقط «العالم اليوم»
من هو أقدر وأجدر من صلاح جاهين ليعبّر عن تلك اللحظة الفارقة فى حياة الكوكب؟، فجاهين هو القلم القادر على اختزان الأسرار الكبرى للحياة فى رباعية دافئة، وهو الريشة القادرة أيضًا على حفر المعنى أعلى جدران الذاكرة الزلقة كى لا يطولها النسيان، وفى كاريكاتير الأهرام المعتاد على صفحته التاسعة، التى احتلها جاهين سنوات طوالًا، اتحدت ريشة الرسام الحزين مع قلمه الدامى ليخرج ذلك الكاريكاتير المذهل فى دقة إيصاله للمعنى، صبيحة ٢٩ سبتمبر ١٩٧٠، فالذى حدث ذلك اليوم لم يكن أقل من هذا، ولا يمكن أن ندّعى أن فى الأمر مبالغة رسام وشاعر وصحفى ذى خيال خصيب، فالعالم كله قد اتشح بالسواد فعلًا يومها.. وجاء هذا العدد التاريخى من الأهرام ليسكب على رأس ذلك العالم المندهش المذهول كوب ماء بارد حتى يفتح عينيه على الحقيقة الحزينة التى اختزلها مانشيت الصفحة الأولى الرئيسى فى ٥ كلمات أيضًا
«عبدالناصر فى رحاب الله».

.. المانشيت البليغ الهادئ الرصين وضعه وصاغ معناه وزير عبدالناصر وصوت عقله والأهم صديقه الأوثق محمد حسنين هيكل، الذى كان فى تلك اللحظة الفارقة يحمل صفتين يستحيل على غيره الجمع بينهما فى نفس الوقت، وهما رئيس تحرير الأهرام ووزير الإرشاد القومى.
ومع الأهرام تدفقت المانشيتات المندهشة المتسائلة الباكية فى كل صحف مصر والعرب والعالم، لكنها فى الأغلب الأعم منها كانت جملًا مختزلة ثاقبة صريحة لا تحمل أى مجاز أو صورة جمالية، وكأن فداحة الأمر لم تكن تحتمل حينها غير المباشرة الفجة، مثل مانشيت الأخبار المصرية «فقدنا عبدالناصر»، أو مانشيت النهار اللبنانية «مات عبدالناصر»، أما صانع مانشيت جريدة «المحرر» اللبنانية ذلك اليوم فأغلب الظن أنه قد صاغه وهو يبكى ناظرًا للسماء متسائلًا، ليخرج فى شكل عتاب مهذّب للخالق الذى اختار جمال إلى جواره فى هذا الوقت العصيب:
سبحانك يا رب: عبدالناصر؟
لا بأس إذن من تأمل هذا الورق الأصفر الذى جمّد تلك اللحظة الفارقة وتبعاتها وحفظها لتبقى حاضرة فى ذهن أجيال قادمة قد لا تعرف عن جمال عبدالناصر سوى محطة مترو هنا أو شارع هناك.

هيكل صاحب الحكاية
إخلاص محمد حسنين هيكل لمهنته أمر يدعو للتأمل، ولا عجب إذن فى أنه صار الصحفى الأهم فى تاريخ مصر والشرق، وبنظرة فاحصة لأعداد الأهرام الأربعة الأولى منذ الوفاة حتى الجنازة ٢٩ و٣٠ سبتمبر و١ و٢ أكتوبر، ستكتشف أن الرجل صنع صورة كاملة للصحافة كما يجب أن تكون، فقد تحولت الصفحات الأولى لتلك الأعداد تحديدًا إلى كتاب تاريخ ملىء بكل تفصيلة تخص الحدث الأهم فى تاريخ مصر الحديث حينها، وهو موت زعيمها جمال عبدالناصر.

ولكى ندرك عظمة ما فعله هيكل لا بد أن نعود إلى شهادة مهمة فى هذا الصدد لندرك أن الصحفى داخل هيكل كان له الأولوية القصوى، وبعده يأتى أى شىء. صاحب الشهادة كان صحفيًا شابًا نابهًا حينها وأحد أعضاء غرفة الديسك المركزى للأهرام، وما أدراك ما هى غرفة الديسك المركزى للأهرام، هذا الصحفى الشاب اسمه صلاح منتصر، الذى رسم صورة سردية لما حدث فى كهف هيكل هذا اليوم، حيث كان على رأس الاجتماع اليومى المقدس فى الخامسة مساء مع كتيبته الصحفية للاتفاق على عناوين الأولى وخطوطها العريضة، التى لم تكن لتخرج عن تغطية وقائع انتهاء مؤتمر القمة العاجل الذى دعا إليه جمال عبدالناصر ملوك ورؤساء العرب؛ لمواجهة الصدام الدامى الذى جرى فى الأردن بين قوات الملك حسين، ملك الأردن، والقوات الفلسطينية الموجودة فى المملكة الأردنية.

بعد الاتفاق بدا أن هيكل قد وصل لذروة إرهاقه، وبإيعاز وضغط من أعضاء فرقة الديسك ذهب إلى غرفة مكتبه كالتلميذ الذى أنهى الامتحان وسهر الليالى وسينال مكافأة راحة، حتى جاءه التليفون الذى جعله بدلًا من أن يغادر «الأهرام» إلى منزله يستقل سيارته بسرعة إلى بيت جمال عبدالناصر باعتباره وزير الإرشاد القومى.. دون أن يصرّح لأحد بشىء غير أنه فعل شيئًا واحدًا، أو بالأحرى فعله الصحفى بداخله، حيث أجرى مكالمة سريعة خاطفة بغرفة الديسك بالتليفون الداخلى، وعندما رد عليه أحد أفراد الغرفة فوجئ بهيكل يقول له دون أى مقدمات: دخلوا كل أخبار الصفحة الأولى اللى اتفقنا عليها فى الداخل وخلوا الصفحة الأولى كلها فاضية، وخلى كله «ستاندباى».
وانطلق هيكل، وزير الإرشاد القومى، إلى بيت الزعيم دون أن يعرف أحد شيئًا، لتبدأ ملحمة صحفية أخرى بين غرفة نوم عبدالناصر وغرفة مكتبه قام بها هيكل الصحفى لتكون درسًا مجانيًا عن دور الصحافة فى تأريخ الأحداث المهمة بدقة متناهية.
والحق أن وجود هيكل فى تلك اللحظة كان رمانة الميزان التى منعت حالة من الهرجلة المتوقعة بعد هذا الخبر المشئوم، فقد كان الصحفى المخضرم هو أكثر الحضور تماسكًا وعقلانية على الرغم من أن الجثمان المسجى أمامه فى الحجرة كان لصديق عمره قبل أن يكون قائد الأمة العربية.. وكان منطقيًا أن يكون الأكثر انهيارًا، لكن الذى حدث- فى تصورنا- أن هيكل فى هذه اللحظة قد غلّب روح الصحفى المتأقلم مع تغطية الأحداث الجسام منذ الأربعينيات حتى لو كانت مأساوية.
هيكل حكى بعد ذلك ما حدث فى هذا اليوم القاتم، حيث قال إنه عندما وصل إلى بيت عبدالناصر فى منشية البكرى لم يكن يتصور أن المأساة قد بلغت حد الكارثة، حيث وجد الكل فى غرفة نوم عبدالناصر بالدور الثانى: الفريق محمد فوزى، وزير الحربية، وشعراوى جمعة، وزير الداخلية، وسامى شرف، وزير شئون رئاسة الجمهورية، ومحمد أحمد، سكرتير الرئيس، ثم ما لبث أن انضم إليهم حسين الشافعى وعلى صبرى ثم أنور السادات، والكل يترقب ما يقوم به الأطباء ومحاولاتهم المستميتة لإنعاش القلب المتوقف، وعندما سكنت أيدى الأطباء وشعر الجميع بأن الأمر الجلل قد نفذ ولا مفر، بدأت بوادر الانهيار تظهر على لسان شعراوى جمعة الذى أعلن استقالته لأن عبدالناصر مات، لكن سامى شرف صرخ فيه متشنجًا قائلًا: عبدالناصر لم يمت.. وهنا فى هذه اللحظة ظهرت شخصية الصحفى الكبير الذى تهمه صورة مصر على أغلفة صحف العالم فى اليوم التالى، وتدخل هيكل بحسم وجدية لا يقبلان المناقشة وقال للحضور: «لا بد أن نواجه حقائق الطبيعة.. الرجل مات، وسيحكم كل منكم من الآن فصاعدًا بما يمكن أن يقدمه من أجل مصلحة البلد.. إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعًا».

يقول صلاح منتصر إن وجود هيكل وحديثه إلى الحاضرين بهذه القوة، وجميعهم لهم مناصبهم الرسمية فى الدولة، مستندًا إلى أن له منصبًا حكوميًا كوزير للإرشاد قبل هذا اليوم بخمسة أشهر فقط، وكأن عبدالناصر قد استشرف المستقبل وأراد من يحفظ هيبة موته أمام العالم ولا ينجرف وراء عواطف تهدم أكثر ما تبنى.
كل ما سبق من كواليس حدثت فى حجرة نوم عبدالناصر، الذى كان حاضرًا لأول مرة فيها بجسده فقط دون روحه، سيتجرعها قراء الأهرام صباح اليوم التالى، لأن هيكل، الرجل الذى لم يَنَم منذ أيام، سيترك الجمع بعد أن يكتب خطاب نعى الزعيم إلى الأمة ليقرأه نائب الرئيس أنور السادات، سيعود إلى مكتبه فى الأهرام ليكتب أهم قصة خبرية عن الدقائق الأخيرة فى حياة رفيقه ورئيسه جمال عبدالناصر، وينشرها على كامل صفحة الأهرام، أسفل الترويسة، مع بيان السادات وأخبار قصيرة خاطفة عن ردود أفعال العالم على تلك الصدمة الكبيرة.
مانشيتات هذا العدد التى وضعها هيكل أيضًا ذلك اليوم كانت تفيض بالمعلومات، عكس كل المانشيتات المصدومة المتعجلة المستغيثة التى امتلأت بها صحف مصر والعالم العربى فى ذلك اليوم.

أهرام هيكل قدمت صحافة معلوماتية كما قال الكتاب، حيث كان المتن الرئيسى هو رواية شاهد عيان من داخل بيت عبدالناصر، وهو هيكل نفسه بالطبع، لكن دعونا نقرأ عناوين أولى الأهرام هذا اليوم ٢٩ سبتمبر ١٩٧٠ كما نُشرت بالنص والترتيب، لندرك أهمية هذا الدرس الصحفى الهيكلى..
- عبدالناصر فى رحاب الله
- البطل والزعيم والمعلم يُسلم الروح فى الساعة السادسة والربع بعد نوبة قلبية حادة
- بيان من اللجنة التنفيذية العليا.. ومجلس الوزراء ينعى الشهيد العظيم إلى مصر والأمة العربية
- جماهير الشعب تخرج إلى الشوارع باكية والهة بعد دقائق من إذاعة النبأ الرهيب
- جنازة البطل تشيع يوم الخميس ١٠ صباحًا لإفساح الفرصة لأصدقائه فى العالم لحضورها.
ثم جاء العدد الثانى من الأهرام فى اليوم التالى ٣٠ سبتمبر ١٩٧٠ على نفس نمط المانشيتات المعلوماتية الدسمة المؤرخة لمستجدات الأحداث، وهذا نصها:
- الدنيا كلها فى ذهول من الفاجعة

- صدمة حادة فى كل عواصم العالم لفقد قائد نضال الأمة العربية ورائد قضايا التحرر والسلام
- الجمعية العامة للأمم المتحدة تعقد جلسة خاصة لتأبين عبدالناصر
- رؤساء العالم يصفون وفاة عبدالناصر بأنها خسارة كبيرة لواحد من أكبر الزعماء هيبة
- مسيرات حزينة تجتاح الوطن العربى والأرض المحتلة تبكى رائد القومية العربية
- الرؤساء بدأوا يتوافدون على القاهرة من كل مكان للاشتراك فى تشييع جنازة البطل
- مصر تعيش أكثر أيامها حزنًا وأسى وهى لا تصدق أنها فقدت بطلها فجأة
- جنازة عبدالناصر تبدأ صباح غدٍ من مقر مجلس الثورة حتى مسجد «جمال عبدالناصر»
- رؤساء الدول يشتركون فى الجنازة حتى مقر الاتحاد الاشتراكى ثم تواصل الجنازة سيرها شعبيًا حتى المسجد
- صرخة الشعب الفلسطينى فى كل مكان «لقد مات من أجلنا»
وتحت الترويسة استمرت الأهرام فى رسم صورة كاملة لكل الأمور المتعلقة بالتجهيز للجنازة الشعبية الضخمة، وصورة الأولى الكبيرة للرئيس السودانى جعفر النميرى إثر وصوله إلى مطار القاهرة ضمن الوفود الرئاسية التى أتت من كل صوب وحدب لتشارك مصر تلك اللحظة العصيبة.

ثم جاء العدد الثالث من الأهرام بتاريخ ١ أكتوبر، وهو العدد الصادر فى نفس يوم الجنازة دون أن يغطيها، فجاء المانشيت معبّرًا من كلمتين:
«يوم الوداع»
ثم باقى العناوين المعلوماتية المفضلة لهيكل والتى جاءت كالتالى:
- مصر كلها تودّع بدموعها اليوم جمال عبدالناصر إلى مثواه الأخير
- حِداد كامل فى كل الدول العربية وجنازات شعبية تسود شوارعها
- الإجراءات الكاملة لأروع مسيرة وداع عرفها تاريخ الأمة العربية
- وفود أكثر من ٥٠ دولة وصلت للمشاركة فى جنازة البطل الراحل
- وفود عدد من الدول تصل صباح اليوم وتنقلها طائرات الهليكوبتر من المطار لتشييع الجنازة
ثم جاء العدد الرابع الذى شهد تغطية واحدة من أضخم جنازات التاريخ بلا أى مبالغة، والتى وصفتها الأهرام فى مانشيت هذا العدد ٢ أكتوبر ١٩٧٠ بتعبير واحد بليغ:
طوفان من الدموع
ثم تستمر العناوين المعلوماتية الدسمة على نفس نسق الأيام السابقة كالتالى:
- موكب يفوق كل وصف تودّع به الأمة جمال عبدالناصر
- أضخم تجمع من رؤساء الدول والوفود يشترك فى جنازة الرئيس الراحل
- الجنازة بدأت رسمية مسافة ١٠ أمتار ثم ذابت فى بحر غلاب من البشر
الملايين لا تتحمل رؤية نعش بطلها وتحاول اختطافه أكثر من مرة
- ٤ ساعات قطعها آخر موكب للرئيس الراحل وسط مشاهد مروعة من الحزن والأسى والدموع
- وكالات الأنباء تنقل وصفًا فريدًا من العواصم التى خرجت فى جنازات مماثلة للبطل الشهيد
- فى الدول العربية كانت نداءات الملايين الحزينة تعكس المبادئ التى عاش من أجلها عبدالناصر
- مئات الملايين صلّوا من أجله فى كل قارات الأرض
- رؤساء الدول يفتتحون مسجد عبدالناصر بزيارة ضريح الرئيس الراحل

هيستريا وصدمة صحفية
فى الوقت الذى امتصت أهرام هيكل الصدمة وتعاملت مع الأمر الجلل صحفيًا من أول يوم، وجنّبت العواطف المنهارة جانبًا فى مانشيتاتها الرئيسية، كانت أغلب الجرائد المصرية والعربية اليومية قد خرجت بمانشيتات تعبّر عما اعتمل فى نفوس أصحابها من صدمة وذهول جراء مفاجأة رحيل الرجل الأول فى الوطن العربى، فهى إما عناوين جامدة، فيها المعلومة مجردة دون أى تجميل، وهى الرؤية التى تماثلت مع العناوين الأجنبية مثل:
فقدنا عبدالناصر
مات عبدالناصر
العالم ينعى عبدالناصر
مات الزعيم والقائد والبطل
العالم كله يبكى جمال عبدالناصر
يوم الوداع
العالم فى وداع عبدالناصر
العالم يبكى عبدالناصر
Nasser dies
أو جاءت العناوين عاطفية تحمل وعودًا وأمنيات للزعيم الراحل مثل:
الخلد لك يا ناصر
عهد: سنكمل المشوار
فى جنة الخلد.. يا أغلى الرجال
ودّعناه.. لكنه باقٍ أبدًا
جمال عبدالناصر قطعة من تاريخنا
عهد الملايين العربية للقائد البطل
أغلى الرجال فى رحاب الله
أعظم حشد بتاريخ العالم يودّع بطل العروبة الخالد

عبدالناصر رسالة خالدة
أما العنوان الأجمل والأبلغ والأكثر تعبيرًا عن الصدمة فقد كان من نصيب جريدة «المحرر» اللبنانية، وهو للمفارقة لم يكن جملة مكتملة المعنى، فقط تساؤل مندهش يحمل عتابًا رقيقًا من عبد لربه، وكأن صائغ العنوان كان فى حالة صدمة وذهول وخرجت منه جملة عفوية غير مكتملة تسربت من فمه مباشرة إلى المطبعة لتخرج كما هى على مانشيت الجريدة اليومية:
سبحانك يا رب: عبدالناصر؟
عنوان تساؤلى تعجبى لا يقول شيئًا ولا يحمل جملة مفيدة، فقط اندهاش وذهول وصدمة من غياب جمال.