فخ الدكتور يحيى.. إسماعيل إبراهيم: صناع السينما اخترعوا طبًا نفسيًا خاصًا بهم

- الطبيب النفسى ظلمته السينما فهو إما «مُسخة» لنضحك عليها أو شخص مضطرب يحتاج هو نفسه للعلاج
منذ سنتين صدر كتاب ضخم باسم «نيوروسينما- رحلة استكشافية لأمراض الأعصاب فى عالم السينما».. كان الكتاب بالطبع محملًا بقدر ضخم من المعلومات العلمية، ما كان يعنى وفقًا للمنطق أن هضمه سيكون عسيرًا للقارئ العادى.. ويحتاج لقراء مهتمين بموضوع الكتاب، الذى هو مجال دراسة وعمل الكاتب إسماعيل إبراهيم، طبيب المخ والأعصاب النابه، بيد أن المفاجأة أن الكتاب نجح نجاحًا لافتًا ضمن إصدارات المعرض عن دار المحرر، وخرجت كل التقييمات تنتصر له من كل جوانبه.. وانتشر بين شرائح مختلفة ومتنوعة من القراء.
وفى معرض الكتاب الأخير صدر الكتاب الثانى له باسم «سايكو سينما»، واصطحبنا هذه المرة فى رحلة استكشافية من نوع آخر حيث عالم الطب النفسى على شاشة السينما.
بنظرة موضوعية للكتابين معًا، اللذين يقترب عدد صفحاتهما معًا من الألف صفحة، تكتشف أنك إزاء مشروع توثيقى وثقافى ومعرفى متكامل وليس مجرد كتاب شيّق يعجب القراء، الأمر أكبر من ذلك- على حد تصورى- ولو قلبت فى صفحات الكتاب الأخير «سايكو سينما» بصفته الأحدث ستدرك ما أقوله.
أول ١٠٠ صفحة من الكتاب كانت دليلًا دامغًا على أن الكاتب لم يستسهل الأمر ويحصره فى مشاهداته الشخصية للأفلام المختلفة بعين الطبيب المحب للسينما، لكنه أراد أن يضع القارئ على أرضية مشتركة معه عبر تأريخ بالغ الدقة والانسيابية لبداية ونشأة الطب النفسى من أول «عصر ما قبل التاريخ المكتوب» وحتى الآن، عبر بحث وتدقيق علمى وتاريخى مصحوب بقدرة عجيبة على إدخال هذا الكم من المعلومات داخل عقل القارئ حتى لو كان لا يهوى الغوص داخل الكتب العلمية الجامدة، وهى قدرة ذكية واعية لدى الكاتب.
علاوة على ذلك فقد امتلك الكاتب أسلوبًا أدبيًا ساحرًا غير تقليدى يجعل القارئ جزءًا من التجربة، يحاوره ويشوّقه ويدس له المعلومات والمصطلحات العلمية الكبيرة داخل وجبة شهية من الكتابة الحلوة، كما يحرص ألا يترك لديه تساؤلات دون أن يجيب عنها عبر فيض كريم من الصور التوضيحية و«الهوامش» الدقيقة التى تشرح وتوضح وتبين دون أن يبدو الأمر أننا أمام رسالة علمية دسمة مليئة بالمصادر.
والحق أن أهم ميزة يمكن أن يتسم بها كاتب هو احترامه لقارئه، وقبلها معرفته به. وفى مقدمته الدسمة حدد الدكتور إسماعيل إبراهيم بوصلته بدقة شديدة، حيث أجاب عن سؤال طرحه هو بنفسه: لمن هذا الكتاب؟ وكان الرد أن الكتاب موجّه لكل قارئ مثقف محب للسينما وشغوف بسبر أغوار الطب النفسى، سواء كان متخصصًا فى دراسة أى منهما أو غير متخصص، وليس من الضرورى أن يكون لدى القارئ معرفة سابقة بتفاصيل الطب النفسى كى يستمتع بالكتاب، حيث سيتم شرح كل شىء بالتفصيل وبأسلوب سلس وشيّق قدر الإمكان. الكتاب موجّه أيضًا للقارئ المتخصص أو الباحث الأكاديمى كى يتسنى له الاستمتاع برؤية تخصصه وتاريخه وتفاصيله من وجهة نظر غير اعتيادية عبر عالم السينما المدهش.
قابلت الكاتب وحاولت استدراجه لمعرفة سر تلك الخلطة الجميلة التى استخدمها فى كتابه العلمى الترفيهى التاريخى السينمائى الفنى.

■ سألته عن البداية أو الجذور التى قادته إلى بناء هذا المشروع الفخم الذى بدأ بكتابين وفى انتظار الثالث؟
مال الدكتور إسماعيل بظهره على الشيزلونج وهو ينظر إلى السقف «أو هكذا تخيلت الأمر حيث كنت لا أزال أعيش أجواء الكتاب الساحرة» واسترسل فى الحكى قائلًا: بدأ شغفى بالسينما منذ الطفولة، وما زلت أتذكر أول مرة دخلت فيها قاعة سينما لمشاهدة فيلم للكبار فى عمر التاسعة، وأتذكر مدى انبهارى ووقوعى تحت سحر السينما فى هذا الوقت المبكر، (كان الفيلم بالمناسبة هو «عودة الرجل الوطواط»!). بدأت أقرأ عن السينما نفسها كذلك فى سن مبكرة من كتابات الراحل د. أحمد خالد توفيق والناقد سامى السلامونى ومجلة «الفن السابع» وغيرها، كما كنت متابعًا جيدًا لما كان يُعرض وقتها من أفلام على التليفزيون، وتحديدًا برنامجىّ «نادى السينما» يوم السبت، و«أوسكار» يوم الخميس، ولطالما استمتعت بالفقرة الأخيرة فى البرنامج التى كانت تقوم على التحليل والنقد الفنى للفيلم المعروض، وهى فقرة لم تكن مفضلة لدى أصدقائى وأبناء جيلى الذين شاركونى شغف السينما، كان الأهم بالنسبة لهم هو الفيلم أما الباقى فالأغلب تم التعامل معه على أنه «رغى» لا طائل منه، وكان حرصى على متابعته مثار استغراب من أقرانى.
واستمر الشغف بعد دخولى كلية الطب ثم تخصصى فى أمراض المخ والأعصاب والطب النفسى.
■ قاطعته متسائلًا: هل كان هذا التخصص تحديدًا دافعًا لاستمرار الشغف أو بمعنى آخر هل رأيت تماسًا بين دراستك وشغفك؟
أوجه الشبه بين الطب النفسى والأدب بشكل عام والسينما بشكل خاص أكثر مما تتخيل، بل تستطيع أن تقول إنهما وجهان لعملة واحدة، فكلاهما منشغل بالإنسان وما تحتويه نفسه البشرية من آلام وأحلام وغموض وأسرار وتناقضات، وكلاهما يحاول فهمها وعلاجها بطريقته الخاصة.
والسينما بطبيعتها فن خلاب نابض بالحياة يستخدم صورًا متحركة وألوانًا براقة وموسيقى مؤثرة، لينشئ عالمًا سينمائيًا سحريًا يخطف الأنفاس ويأسر مشاعر وعقول المشاهدين ويثير فيهم أحاسيس متنوعة. ويقوم صناع الأفلام بالتعبير بشكل فنى وإبداعى عما يختلج فى داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر وأحلام ورغبات ومخاوف وصراعات وأوهام، ليستهدفوا بها جمهورًا يشاركهم ذات النفس البشرية ويتفاعل مع هذه الإبداعات.

■ قلت له أشعر إن فكرة مشروع الكتابة قد اختمر بين ردهات الكلية ومعاملها، وليس الآن.. إن كان هذا صحيحًا احكِ لى.
بالفعل وجدت نفسى مشرفًا على نادٍ للسينما أسسته بمشاركة طلبة الطب بجامعة الإسكندرية ممن شاركونى حب السينما، أطلقنا عليه «نادى نيوروسينما»، نسبة إلى اسم أحد الفروع الجديدة وقتها فى علوم الأعصاب «Neurocinema»، والمعنى بدراسة تأثير مشاهدة الأفلام على الدماغ البشرى، وكيفية تصوير أمراض الجهاز العصبى فى الأفلام السينمائية.
شمل اهتمامى أيضًا تصوير الاضطرابات النفسية فى الأفلام، ومحاولة دراسة تأثير هذه المشاهدة على الحالة النفسية للمُشاهد، وعلى «الوعى الجمعى» للمشاهدين عن هذه الاضطرابات، وهو ما يُعرف باسم «سايكو سينما» (Psychocinema). فكلمة «نيورو» تعنى «الأعصاب»، بينما كلمة «سايكو» تعنى «النفس»، وأيضًا كنت حريصًا على زيارة الأماكن التاريخية المهمة والمرتبطة بنشأة علم النفس مثل زيارتى لمنزل وعيادة «سيجموند فرويد» أبو الطب النفسى فى «فيينا» ٢٠١٨.
تطورت الفكرة فى ذهنى بعد ذلك، وقررت إخراجها فى صورة كتب، لتصل لأكبر عدد من الناس. فقد فوجئت بخلو المكتبة العربية تقريبًا من أى كتاب يتناول هذا الموضوع بشكل منضبط، برغم وجود هذا الفرع العلمى منذ عشرات السنين.
■ هل كانت السينما أمينة فى تصوير الأمراض العصبية والنفسية؟
الحقيقة أننى حاولت فى الكتاب أن أكون متوازنًا فى إصدار حكم قاطع على أمانة السينما من عدمها.. وقررت أن أصطحب القارئ فى رحلة شيّقة ليشاهد معى الأفلام بعين الطبيب الذى يبحث عن الدقة، وعين المحب للفن الذى يُقدّر حرية الإبداع والتعبير.. ولا يجور أى منهما على الآخر لأن السينما فى النهاية عمل إبداعى قائم على الخيال الواسع، وبالتالى ليس مطلوبًا منه أن يكون متوافقًا بنسبة ١٠٠ ٪ مع ما يقوله العلم، لا بد أن نترك مساحة لخيال المخرج والمؤلف لكى يعملا فى بيئة تحض على الإبداع والحرية.
وقد مر تصوير أمراض المخ و الأعصاب والاضطرابات النفسية على الشاشة بمراحل تاريخية متعددة، سواء فى السينما العالمية أو المصرية، حاولت قدر الإمكان فى الكتابين تتبع ذلك. ولاحظت أن الدقة العلمية اختلفت على حسب نوع الفيلم وتاريخ إنتاجه ومدى وعى واهتمام صناعه، وتراوحت ما بين الجيد والردىء، وما يندرج تحت بند «الهُراء» الكامل! لكن بشكل عام، لم يكن التصوير دقيقًا فى نسبة كبيرة من هذه الأعمال.

■ ضحكت قائلًا: لا تمسك العصا من المنتصف، قل لى مباشرة هل كانت السينما ظالمة أم مظلومة فى تعاملها مع الطب النفسى وطب الأعصاب؟
سأشرح لك وأنت تحكم، وعلى الرغم من اقتناعى التام بأهمية مبدأ «الحرية الإبداعية» لدى صُنّاع الأفلام، إلا أننى كثيرًا ما كنت أنزعج من غياب الدقة العلمية فى بعض الأعمال، خصوصًا عندما يكون الموضوع الطبى أو النفسى جزءًا أساسيًا من القصة، والذى كان يصل فى بعض الأحيان إلى كوارث طبية حقيقية، تسهم فى ترسيخ تصور خاطئ عن المرض أو علاجه فى أذهان الناس.
إذا أردنا التركيز على تصوير الاضطرابات النفسية على الشاشة فسنجد أنها تعرضت إلى تشويه كبير عبر سنين طويلة «بقصد أو دون قصد!»، وفى اعتقادى أن السينما ساهمت فى زيادة- ولن أقول خلق- «الصورة النمطية» عن الاضطرابات النفسية فى الوعى الجمعى لأغلب الناس، وكذلك زيادة «الوصمة».
مع الوقت، بدا وكأن السينما قد اخترعت طبًا نفسيًا خاصًا بها، له سماته وتشخيصاته وطرق علاجه، التى تبتعد كثيرًا عما يحدث على أرض الواقع.. ساهمت السينما كذلك فى الخلط بين الاضطرابات وبعضها «كالخلط بين الفصام وتعدد الشخصيات مثلًا»، وفى الربط بين الاضطراب النفسى والعنف مع أن العكس هو الصحيح، فالمرضى أكثر عرضة للعنف!، وكذلك اهتمت بتصوير الاضطرابات غير الشائعة مثل الفوبيا وهوس السرقة على حساب اضطرابات أخرى أكثر أهمية «كالاكتئاب و القلق»، كما ركزت على فكرة «العُقدة النفسية» التى يجب اكتشافها وحلها فى نهاية الفيلم السعيدة!
خلطت، كذلك، بين دور الطبيب النفسى والمعالج النفسى، وأعطتهما نفس الدور العلاجى، كما أخطأت فى تصوير العلاقة بين المريض والطبيب، واعتادت إظهارها فى صورة صداقة أو علاقة رومانسية!
أما عن الطبيب النفسى فحدث ولا حرج! طالته الوصمة كذلك، وتم تصويره فى صور نمطية ثابتة، إما ساخرة وهزلية تسخر منه وبتعبير أدق «مُسخة»، أو تظهره فى صورة مضطربة تجعله هو الأولى بالعلاج، أو فى صورة غامضة أو سلطوية تستغل المرضى لأغراض خفية!
■ قلت له إننى قرأت الجزء الأول من «سايكو سينما» وشعرت أنه كتاب مستقل بذاته.. هل قصدت ذلك؟
بالفعل كنت حريصًا على أن يكون كل كتاب فى المشروع قائمًا بذاته، تستطيع أن تقرأه دون أن تشعر أن متعتك منقوصة، حتى الفصول داخل كل كتاب حرصت أيضًا على أن أجعل كل فصل متكاملًا بمعلوماته والغرض منه، سواء الفصول المتعلقة بالتأريخ للطب النفسى أو طب الأعصاب بشكل عام أو حتى فى الفصول التى تتحدث عن مرض بعينه وتطبيقه على فيلم ما، بحيث إن القارئ عندما يقرأ مثلًا الفصل المتعلق بفيلم «عقل جميل»، لراسل كرو، فسيجد وجبة معلوماتية مكثفة مرافقة لأحداث الفيلم نفسه، مع تفنيد علمى وتاريخى دقيق لما أثاره الفيلم من تساؤلات.

■ ماذا عن الجزء الثانى من سايكو سينما؟
أعمل حاليًا على إنهائه، والذى أستكمل فيه تصوير باقى الاضطرابات النفسية، كما سأركز على ما قدمته السينما المصرية، وما لها وما عليها، وسيتناول كذلك موضوعًا أعتقد أنه سيكون شيّقًا للقراء، وهو أشرار السينما! أتمنى أن يستمتع القارئ بهذا المشروع وأن يجد فيه معلومات مفيدة عن الطب والفن والتاريخ والأدب.
السؤال المنطقى الآن متى تكتب رواية نفسية؟
ما زلت لم أقرر طبيعة عملى المقبل بعد أن أنتهى من مشروعى هذا، لكنى أعتقد أن التاريخ الطبى والنفسى ما زال مليئًا بالحكايات الشيّقة التى تستحق أن تُحكى. أما بخصوص الرواية فهى فكرة راودتنى وتراودنى كثيرًا، خاصة مع تشجيع الناس، وربما تواتينى الجرأة للإقدام على هذه الخطوة مستقبلًا إذا توافرت لدىّ فكرة مناسبة للبناء عليها حتى لا تكون دون مستوى الكتب.