فى نقد طه حسين.. سطح فائر وعمق ساخر
- كانت شخصيته صارمة متربصة فى تعاملها مع التراث صارمة حادة فى تعاطيها مع الناس
بدت شخصية د. طه حسين جادة صارمة، صارمة صبورة باحثًا، صارمة عنيدة سياسيًا، صارمة متفانية وزيرًا للمعارف، صارمة عنيفة فى تعاطيها مع الأزهر الشريف، صارمة متربصة فى تعاملها مع التراث، صارمة حادة فى تعاطيها مع الناس ووديعة باسمة فى تلقيها من المستشرقين وولهها بالثقافة الغربية.
بَيد أن طه حسين الناقد كان له سمت آخر يجافى هذه الوسوم وتلك السمات، سمت يبدو غرائبيًا محيرًا، يعجن تراب الرؤية العميقة للنص بماء السخرية اللاذعة من صاحبه، يوقر النص ويجله، ولا بأس من أن يقل توقيره وإجلاله لصاحبه.
وتبدو هذه الخلطة العجيبة مميزة لطه حسين ونقده وسط أقرانه الذين أبت صورهم الذهنية أن تغامر هذه المغامرة أو حتى تتخيل حدوثها. يطال ذلك العقاد بنقده المستبد فوق حصانه الجامح «انظر ما حطمه فى كتابه المبكر الديوان فى الأدب والنقد ١٩٢١»، ولا يمكن تخيل الرافعى ساخرًا مازحًا وقد استقرت صورته أديبًا قوميًا محافظًا يناضل تحت راية القرآن، ويجلس خاشعًا لوحى القلم.
ولعل السخرية التى مزجها طه حسين بنقده الجاد كانت بديلًا لمكون آخر ظهر فى نقد مجايليه: العقاد والمازنى والرافعى، فقد مزج هؤلاء الرؤية النقدية للنص بالحدة فى الطرح والحديَّة فى تناول الأديب صاحب هذا النص. هاتان الصفتان الحدة والحديَّة «أى التطرف والإقصاء فى مواجهة المبدع» كانتا سلاحين معهم فى مواجهة «شوقى حافظ- العقاد وطه حسين» على الترتيب.

نقده لشوقى
شق طه حسين على شوقى تجربة شعرية ورحلة إنسانية، ففى الأخرى نعته بشاعر القصر ومُوالى الأمراء، ونعته بالانفصال الوجدانى والفكرى عن عموم الشعب الذى يقف فى المواجهة مع القصر. أما تجربته الشعرية فلم تحظَ بتقدير ملائم من طه حسين، فقد فضل عليه حافظ إبراهيم واعتبره أشعر منه. يضاف إلى ذلك ما ذهب إليه طه حسين من سمات معيبة فى تعامل شوقى مع النقاد «ومهادنتهم»، وسعيه إلى إقامة علاقات طيبة مع كل الصحف لتكون سندًا له فى مواجهة النقاد الذين لا يقوى هو على مواجهتهم، «فهو لم ينهض لخصومة ناقد من نقاده، بل لم يجرؤ على خصومة نقاده بالعتب»، «حسب طه حسين».
يقول طه حسين عن شوقى:
«فهو لا يستقبل التجديد ولكن يستدبره، وهو لا يدخل البيوت من أبوابها، ولكن يأتيها من ظهورها، وهو لا يجدد فى صراحة وشجاعة وثبات للخصوم، ولكنه يجدد فى لباقة ومداورة والتواء على المناهضين، وكأن هذه القاعدة قد صيغت من طبع شوقى، فسيطرت على حياته الأدبية، وسيطرت على حياته الشخصية أيضًا».
بهذه اللغة العنيفة صار شوقى عدوًا للتجديد، حريصًا على السير فى عكس اتجاهه. ولع التناقض قد أصاب حكم طه حسين من بداية نعته لشوقى بمناهض التجديد، فهو فى البداية جعله لا يستقبل التجديد بل يستدبره، ثم يخبرنا بعد جملتين أنه يجدد لكن فى لباقة ومداورة والتواء على المناهضين، إذن هو يجدد بيد أنه يخلط التجديد باللباقة ولا أجد اللباقة سببًا ينفى التجديد.
وبعد المبالغة الساخرة فى مجافاة التجديد ووصف شوقى بأنه يأتى البيوت من ظهورها لا من أبوابها، يقرر طه حسين نقل الهجوم الذى بدأ فنيًا إلى ساحة أخرى وهى السمات الشخصية والحياتية لأحمد شوقى فهو كما رآه «يجبن عن مواجهة النقاد بل يعاملهم كثعبان، لا يعاتب مهاجمًا وإما يغرى بهم». يقول طه حسين عن شوقى بعيدًا عن النقد الفنى: «وهو لم ينهض لخصومة ناقد من نقاده، بل لم يجرؤ على أن يلقى نقاده بالعتب، وإنما كان يعاملهم معاملة الأراقم لا يلقاهم، ولكنه يأخذهم من خلف بأطراف اليد، يغرى بهم ويؤلب عليهم، ثم يلقاهم باسمًا وادعًا».
ويزيد طه حسين فى التنكيل يشوقى الإنسان، فهو لا يجرؤ على العداوة الظاهرة لأحد، ويخفى عداواته السوداء، حريصًا على الوجود فى وقت واحد عند الأضداد...
يقول طه حسين: «ولم يكن فى حياته اليومية عدوٌّ ظاهر، إنما الناس جميعًا أصدقاؤه وخلصاؤه، يظهر لهم صفحة واضحة نقية، ومن وراء هذه الصفحة صفحات بيض وصفحات سود، تلقاه فى الجهاد، وتلقاه فى الاتحاد، وتراه فى السياسة، وتراه فى الأهرام، وتراه فى بار اللواء، وتراه فى البعكوكة هادئًا دائمًا لا يضطرب، منخفض الصوت قلَّما تسمعه دون إصغاء إليه».
هذه الصورة الأخيرة التى ذيل بها طه حسين تشريحه النفسى لشخصية شوقى التى ازدحمت بالأحكام المباشرة يعززها السرد انتهت بصورة ساخرة ماكرة أكملت الصورة الكاريكاتورية ليظهر شوقى هادئًا دائمًا يحتاج المرء إلى الإصغاء حتى يظفر بسماع صوته.
ويبدو أن طه حسين قد قرر عدم العودة إلى الحديث عن شوقى الشاعر، أو الاحتكام للقواعد النقدية ونظرية الأدب أو علم الجمال فى حديثه عنه، بل ذهب بعيدًا ليجهز على شوقى بالكلية، فشوقى يبدو ميئوسًا منه ولا رجاء فيه، وكيف يرجى الخير ممن نشأ بالقصر طفلًا وكهلًا...
يقول طه حسين: «كانت هذه القاعدة صورة لطبيعته، وأى غرابة فى هذا؟! لقد ولد بباب القصر، ونشأ فى ظل القصر، وقضى شبابه وكهولته عاملًا للقصر، وفى القصر. حين كان سلطان القصر مطلقًا أو كالمطلق، ثم حين كانت حياة القصر مداورة مستمرة بين الشعب الطامع فى الحرية والإنجليز المعتدين عليها، فليس غريبًا أن يكسب شوقى فى حياته الأدبية والشخصية هذه السياسة التى تحمى صاحبها، وتضمن له الظفر والسلامة معًا»، «حافظ وشوقى».

شكسبير الذى لا يعرفه شوقى
فى قصيدته عن شكسبير رأى طه حسين أن معلومات أمير الشعراء عن الشاعر الإنجليزى لا تعدو معلومات الرجل العادى، لا المثقف، بل إن فكرته عن أديب الإنجليز الكبير فكرة مغلوطة بائسة، ما جعل شوقى يدعوه فى النهاية إلى مشاركته التعجب والإنكار لما أصاب العالم من الحروب والدماء! وهو ما يؤكد تواضع معرفة أمير الشعراء بشكسبير الذى سالت الدماء فى أدبه كله تقريبًا، فهو ليس بداعية سلام.
يقول طه حسين:
«وهو- على كل حال- لم يفهم روح شكسبير، ولم يتمثله، ولم يحسن بل لم يحاول تصوير هذه الروح، وكل ما فى القصيدة مدح لإنجلترا أول الأمر، ثم ثناء على شكسبير غريب، يشبّه فيه أبيات شكسبير بالآيات المنزلة، ويشبه معانى شكسبير بعيسى. ولست أدرى ما هذا الحسن المشترك بين معانى شكسبير وبين المسيح، بل لست أدرى كيف يذكر شكسبير المتأثر بوثنية القدماء وآداب الشمال الأوروبى إلى جانب المسيح، وكيف يشبه أدب شكسبير بالإنجيل؟! إنما هو كلام يقال ويعتمد صاحبه على أنَّ الذين سيقرءونه ستروعهم الألفاظ دون أنْ يبحثوا عن المعانى، لأنهم لا يعرفون من أمر شكسبير، ولا من أمر المسيح والإنجيل شيئًا كثيرًا»، «حافظ وشوقى».

نقده لصاحب الأطلال
كان إبراهيم ناجى ممن أسسوا جماعة أبوللو الشعرية مع أحمد زكى أبو شادى وصالح جودت وغيرهما ممن اكتسب الشعر العربى بهم نفسًا رومانسيًا ملهما.
غير أن إبراهيم ناجى وعقب صدور ديوانه وراء الغمام كان على موعد مع علقة نقدية مزجت القسوة بالسخرية من طه حسين، رآه خلالها ذلك الشاعر الضعيف الذى لا ينهض بتناول الأفكار الكبيرة، ولا يقوى على مجابهة المغامرات الأدبية...
يقول طه حسين: «وهو شاعر هين ولين، رقيق، ولكن محدود، لا يستطيع أن يتجاوز الرياض المألوفة، ولا يرتفع فى الجو ارتفاعًا بعيد المدى، وإنما يُحب أن يقع على أشجارها المعتدلة الهينة، ويختار من هذه الأشجار أغصانها الرطبة اللدنة، التى تُثير فى النفس حنانًا إليها، لا إكبارًا لها وإشفاقًا منها».
ويكاد طه حسين لا يوجه وصفًا إيجابيًا لناجى سوى الرقة ما يجعله مع اكتمال الرؤية ليس سوى وصف سلبى يهون من شأن صاحبه ويقلل من جدارته. ولا يترك طه حسين رداءً ناجى حتى يمزقه للنهاية عبر تشبيه شعره بموسيقى الغرفة- كما يسميها الفرنجة!
يقول طه حسين: «وهو هنا شاعر رقيق، لكنه ليس مسرفا فى العمق، ولا مسرفًا فى السعة، ولا مسرفًا فى الحب الذى يحرّق القلوب تحريقًا، ويمزّق النفوس تمزيقًا. شعرهُ أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقى الغرفة، التى تذهب بك كل مذهب، وتهيم بك فيما تعرف، وما لا تعرف من الأجواء».
كاد إبراهيم ناجى يهلك بعد تلك الموجة النقدية الخطرة واعتزل الحياة الأدبية بالفعل، فلم يصمد أمام طريقة طه حسين النقدية المعقدة التى تلقى مديحًا هينًا باليمين قبل أن تغرقه موجات الهجوم الحاد باليسار لينتهى المشهد النقدى بإظهار الأديب فى صورة بائسة تجعل المحيطين به بين خيارين: البكاء من أجله أو الضحك المتواصل عليه.







