الثلاثاء 21 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

مقال يُنشر لأول مرة..

محمود فوزى يكتب عن أحمد بهجت.. ديــك البرابر.. الخفى والمعلن عن صاحب «صندوق الدنيا»

حرف

فى أوراقى الخاصة كثير من المقالات التى لم تُنشر لكتّاب كبار، كنت قد حصلت عليها خلال رحلة عملى الصحفى فى مطابخ الصحف الكبرى التى عملت بها، وحتى لا تعتقد أن عدم النشر كان منعًا أو حجبًا، فإننى أؤكد أنها لم تُنشر بسبب تفاصيل العمل وزحامه، فبعضها كان يؤجل ثم يدخل دائرة النسيان، وبعضها كان يتراجع عنه مَن كتبوها لأسباب تخصهم وحدهم.
من بين هذه المقالات يأتى هذا المقال الذى كتبه الكاتب والمحاور الكبير محمود فوزى عن الكاتب الكبير أحمد بهجت.
كان محمود فوزى- رحمه الله- من بين أنشط الصحفيين المصريين وأغزرهم إنتاجًا، صدر له ما يزيد على 100 كتاب، وكلها تستمد قيمتها من أنها كانت توثيقًا لحياة عدد من السياسيين والكتّاب والمفكرين والروائيين، فقد كان فوزى دائم الحوار معهم، وهى الحوارات التى كانت مطولة وشاملة وصاخبة وقادرة على رسم صورة مكتملة التفاصيل للتاريخ المصرى الحديث من خلال صُناعه.
عرفت محمود فوزى أثناء عملى فى جريدة صوت الأمة «2005- 2000» وعندما كنت أراجع بعض أوراقى، وهى عادة تلازمنى منذ سنوات بين وقت وآخر، عثرت على هذا المقال الذى كتبه فوزى عن أحمد بهجت، الذى يكشف فيه محاورنا الكبير عن جوانب كثيرة فى حياة كاتب مهم وملغز فى الوقت نفسه.

محمود فوزى مع توفيق الحكيم

من عينيه تطل روعة التصوف وعلى شفتيه ابتسامة السخرية، أما الحب فيكمن فى أعماق قلبه.. إنه الكاتب الكبير المتصوف والساخر أحمد بهجت. حياته أشبه ما تكون بصندوق الدنيا الذى يطالعنا به كل صباح فى الأهرام، والذى يحوى الكثير من تجارب الحياة وإطراقات الفكر وحكمة التاريخ، وكانوا يطلقون على أحمد بهجت وهو صغير «ديك البرابر»، فقد كان الولد الوحيد على ثلاث بنات!
وكان والده مدرسًا للتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية، وينحدر من جذور ريفية، فجده كان فلاحًا وأصبح شيخ بلد ثم عمدة من صغار كبار الملاك يملك ١٢ فدانًا فى قريته.
وكانت الأسرة تعيش فى القاهرة، ثم انتقل الأب إلى الإسكندرية، ولا يزال أحمد بهجت يتذكر حتى الآن حينما كان يجلس فى عربة الأطفال التى تجرها أمه على البحر وهو متدثر بالصوف على شاطئ الإسكندرية، ولم تفارق عينيه زرقة البحر وتلاطم أمواجه اللازوردية!
كانت طفولته سعيدة فى بدايتها، ولكن حين تحول إلى طفل شقى للغاية تغيرت معاملة أبيه وأمه له خوفًا من تدليله وإفساده بهذا التدليل.
وقد أثر هذا الأسلوب فى حياته، فكان حريصًا على تجنب الأخطاء فى عمله أو تقليلها لأكبر قدر ممكن.
وقد أثر هذا الأسلوب التربوى على منهجه فى تربية ابنيه «خالد» الأستاذ المساعد فى معهد السينما، و«محمد» الناقد الأدبى بالأهرام.. لقد ترك لهما حرية الاختيار ولم يتدخل فى حياتهما بالقسوة أو التدليل.. لقد رسب أحدهما يومًا فى الامتحان وغلبه الهم خوفًا من عقاب أبيه له، فقال له أحمد بهجت: لماذا أنت مهموم لأنك رسبت؟.. إن رسوبك دليل على أن عقلك يعمل بشكل جيد، ومن هنا اصطدم بمناهج التعليم الفاسدة ورفض تقبلها!! وقد أثبت هذا الابن فيما بعد بتفوقه أن رأى أبيه كان سليمًا!!
وحين كان أحمد بهجت طالبًا بالمرحلة الثانوية بمدرسة التوفيقية بشبرا كان مولعًا بالملاكمة ورفع الأثقال!
ولم يتصور أحمد بهجت يومًا أنه سيكون كاتبًا، فقد كان منتهى طموحه أن يصبح ضابط شرطة!
وكان مثله الأعلى فى ذلك خاله، وكان لأحمد بهجت ثلاثة أخوال، أولهم محمد على رشدى الذى كان وزيرًا للعدل، ود. رشاد رشدى الكاتب المسرحى الكبير، أما أقربهم إلى قلبه وعقله فى فترة المراهقة فكان خاله الثالث عبدالمنعم رشدى الذى كان يشغل وقتها مأمور قسم عابدين، والذى لم يكن أحمد بهجت يفارقه مطلقًا وهو فى قسم البوليس! فكان يشاهد المجرمين ويستمع إلى التحقيقات ويصادق الضباط ويحلم باليوم الذى يدخل فيه كلية البوليس، لأنه كان يعتبر مهنة البوليس هى أنبل مهنة فى الوجود، ولكن أمه وقفت حائلًا دون تحقيق حلمه لعلمها من خلال إخوتها أنها مهنة شاقة محفوفة بالمخاطر!
أما خاله د. رشاد رشدى فقد قاده إلى عشق الأدب والفن، وكانت مكتبته هى مدخله الثانى بعد مكتبة أبيه الزاخرة بالكتب الإسلامية والأدبية، وأصبح مغرمًا بتوفيق الحكيم بعد أن قرأ له كتابيه «محمد» و«أهل الكهف»، وقرأ لطه حسين ولم يعجبه من مؤلفاته سوى كتابه «الأيام»! وأحس بصعوبة أسلوب العقاد حين كان يدرس أحد كتبه فى المدرسة فلم يحبه، ولكن تحول هذا الجفاء إلى شلال من الحب مع تقدم العمر.
ووقع فى يديه ذات يوم كتاب للشيخ محمد الغزالى، فانبهر به وأصبح من قرائه ومُريديه.
وكان توفيق الحكيم هو المدخل الثالث لأحمد بهجت للأدب والصحافة، فقد توثقت صلته به حينما كان الحكيم كاتبًا كبيرًا من كُتّاب الأهرام، وبعد أن أصبح أحمد بهجت رئيسًا للقسم الأدبى بالأهرام.

أحمد بهجت وجيهان السادات وأحمد زكى


وقد فاجأه يوسف السباعى ذات يوم، وكان رئيسًا لتحرير الأهرام، بضرورة كتابة عمود يومى خفيف الظل، لأن الأهرام- على حد تعبيره- وقورة أكثر من اللازم!
وتصادف يومها أن كان أحمد بهجت يزور خاله د. رشاد رشدى، فلما عرف بحيرته فى اختيار عنوان لعموده قال له: أنت عاشق للمازنى.. والمازنى كان يكتب تحت عنوان «صندوق الدنيا»، فأعجبه العنوان، خاصة أنه لا يختص بموضوع معين، فهو صندوق يحمل الأفراح والأحزان والابتسام والسخرية.
والحكمة التى خرج بها أحمد بهجت من «صندوق الدنيا»، والدنيا نفسها، هى قول أبى سعيد الخراز: «كل ما فاتك من الله سوى الله يسير، وكل حظ لك من الله سوى الله قليل».
ومن أشهر مؤلفات أحمد بهجت «قصص الحيوان فى القرآن»، والذى كتب فيه عن غراب بنى آدم وناقة صالح وهدهد سليمان وحوت يونس، ولكن القصة التى أثرت فيه شخصيًا فى قصص الحيوان فى القرآن هى قصة ذئب يوسف، وهى أول ما بدأ الكتابة فيه، وقد لفت انتباهه إليه أنه ذئب برىء ولكنه مُتهم بأكل سيدنا يوسف، والأصل فى الذئاب أن تكون هى الجانية، ولكن هذا الذئب متهم وبرىء فى نفس الوقت، وقد صعبت عليه حالته فاضطر إلى القراءة عن الذئاب وسلوكها، فاكتشف حقيقة أخرى يجهلها معظم الناس، هى أننا نتهم الرجل الفلوت الذى لا هم له إلا الإيقاع بالنساء بأنه ذئب، بينما الذئب الحقيقى من أخلص الخلق لأسرته، ولا تعرف الذئاب هذه الخيانة التى تقع فى البشر.

هيكل وأحمد بهجت

وأحمد بهجت يعشق الحيوانات، وكان لديه كلب كبير اسمه «سلطان»، عاش معه أكثر من ١٢ عامًا بعد العزلة التى فرضها أحمد بهجت على نفسه بالعيش فى شقة منفصلة فى مصر الجديدة للتفرغ تمامًا للكتابة، ومن حوله مكتبات تملأ أرجاء المكان، وتحوى آلاف الكتب وتزين حائط المكتبة لوحات عديدة، من أبرزها لوحة زيتية مرسومة للكلب «سلطان» الذى كان يتحدث إليه أحمد بهجت دون كلام، وبمجرد النظر فقط، وكان الكلب يفهم ما يقوله صاحبه لأنه كان فى منتهى الذكاء!
وكان أحمد بهجت يختلف كثيرًا مع خاله د. رشاد رشدى، الذى عمل مستشارًا للرئيس السادات، حول شخصيته، وكان ينتقد السادات بشدة فى قراراته وأعماله، وكان د. رشاد رشدى يقول له دائمًا:
بُكرة ح تعرف وتفهم حقيقة السادات!
ومن المفارقات الغريبة أن يكتب أحمد بهجت فيلم «السادات»، والذى أقنعه بكتابة هذا الفيلم هو الفنان أحمد زكى، وقد حدث هذا بعد حادث المنصة حيث قال له:
أريد أن تكتب فيلمًا عن السادات وسوف أمثل فيه دوره!
فأصابت الدهشة أحمد بهجت وقال له:
لماذا اخترتنى أنا.. هناك كُتّاب محترفون للسيناريو والحوار.. ورغم أننى أعتبر واحدًا منهم إلا أننى مُقل جدًا فى أعمالى؟!
ولكن أحمد زكى نجح فى إقناعه بكتابة الفيلم، كما نجح فى نقل حماسته اللاهبة إلى عقل وقلب أحمد بهجت، فأقدم على العمل وكان يعلم مسبقًا أنه سيلقى نقدًا شديدًا من محبى السادات ومعارضيه معًا، ورغم المخاوف فقد غامر وخاض التجربة، وكان منهجه فى تقديم الفيلم هو تقديم السادات كإنسان ورئيس دولة، ومثل أى إنسان لا بد أن تكون له أخطاء، وقد أوردها الفيلم ولكن بنعومة وحياد!
وكان الفيلم صورة شخصية أصيلة لفلاح وزعيم اتخذ قرار الحرب وقرار السلام، وقد كرّمه الرئيس حسنى مبارك بأرفع الأوسمة مع باقى أسرة الفيلم.

محمود فوزى


وأحمد بهجت سوف يتفرغ- بعد تماثله للشفاء من عملية جراحية أجراها بالأمس فى عينيه- لفيلم «قصة حب» وهو محاولة لإحياء العصر الرومانسى، وهو بطولة أحمد زكى وماجدة الرومى، والطريف أن كلًا منهما فى حاجة الآن إلى قصة حب هروبًا من جراح الماضى الأليمة.. هذا فى واقعهما الشخصى! أما الفيلم فينادى من خلاله أحمد بهجت بالعودة إلى الرومانسية من جديد لأن الحياة المادية قتلت كل ما هو جميل فى الإنسان، ولقد سألت كاتبنا الكبير أحمد بهجت ذات يوم قائلًا له: ألا ينتابك الشوق إلى الحب فى بعض الأحيان؟
فرد قائلًا: طبعًا ينتابنى الشوق إلى الحب وأتمنى أن أغرق فى قصة حب حتى أذنى!.. قصة حب حقيقية عنيفة، أيام الشباب كنت مستمرًا فى قصص الحب، وكان لى فى كل اكتمال للبدر ليلة! لكن حين يكبر الإنسان وينضج يبدأ فى توزيع حبه على الكائنات.. يربى كلبًا أو قطة، يحب شجرة أو مكانًا معيًنا. وعدت أسأله: متى خفق قلبك للحب آخر مرة؟ فقال منذ عشر سنوات!
ولماذا لم تكتمل هذه التجربة؟ فضحك أحمد بهجت قبل أن يقول: الحب أصله ثورة تريد أن تغير بها من وضعك، ولم يكن هذا بالإمكان إن لم يكن مستحيلًا!.. فى الغرب يمكن أن يحدث هذا الاقتران فى هذه المرحلة من العمر دون أى مشاكل، ولكن فى الشرق لدينا التقاليد والأعراف، والذى يصح والذى لا يصح، فلا تستطيع أن تتجاهل كل هذا.. ولو تجاهلته يحطمك ويكسرك حتت!.. أنت من حقك فقط أن تحلم!
صديقى العزيز الراحل فتحى غانم تزوج من أحبها فى نهاية حياته، وهذا يتطلب شجاعة لا تتوافر فى فارس عظيم.


وفتحى غانم كان هذا الفارس العظيم.. هل تعلم أننى كنت ألاعب فتحى غانم الشطرنج، وكنت أجلس على الكتب وأمامى رقعة الشطرنج، وكان فتحى غانم يلاعبنى وهو مُولٍّ ظهره لى حتى كان لا يرى الشطرنج، ومع ذلك يفوز علىّ!!

صورة المقال بخط محمود فوزى


كما يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه قد يكون فتحى غانم قد عانى معاناة شديدة من أجل هذا الحب! وأن المجتمع قد يعتبر ما حدث غير مقبول، ومن الممكن أن يكون قد لاقى أهوالًا ليحقق لنفسه بعض السعادة.
وقلت لأحمد بهجت: ألم تفكر ولو للحظة أن تنتصر للحب أم أن العقل والقلب كانا فى حالة توازن وتغلب العقل فى النهاية؟ فقال: لا.. أنا لا أفكر فى هذا وذاك فى وقت واحد، ولكن لجأت فى النهاية للأسلوب السهل وهو توزيع المشاعر على الناس والحيوان والطيور والنباتات، وتصبح فى علاقة مع الكون، وهذا ما تفعله الصوفية.. فالصوفية تضعك فى قلب الكون وتصرفك عن ملذاتك الخاصة الشخصية إلى متعة معرفة الحقيقة الكونية، وهذه أحد الحلول الرائعة