اللعب بالنار.. حوار علمى هادئ مع مونيكا حنا ورفاقها
- تيار القومية المصرى موجودٌ بقوة على الأقل منذ ثورة 1919م أى قبل ظهور ما يسمى بجماعات الإسلام السياسى
- إن ما يحدث وتتبناه الدكتورة وتروج له هو محاولة لسرقة حضارة مصر
- نحن لسنا عنصريين يا دكتورة نحن فقط ندافع دفاعًا مشروعًا علميًا عن بديهيات التاريخ
- لا توجد محاولة تسييس للعلم كما تدعى الدكتورة لكن هناك رفضًا وثائقيًا موضوعيًا لما تروج له من أفكار
- عليها وعلى غيرها ألا تتبرأ مما كتبته سابقًا بأثر رجعى إلا أن تقول صراحة إنها أخطأت
«يهاجموننى لأننى أغرد خارج السرب!».. هكذا قالت د. مونيكا حنا فى معرض دفاعها عن نفسها مما لفظه المصريون من أفكارها المغلوطة عن طبيعة وهوية وصُناع الحضارة المصرية. بينما تقول د. إيناس الشافعى «هل عاب الرسول العدنان أن الهاشميين من قبيلة قريش عبده الأوثان والكفار.. فلا يعيب مصر أيضًا صاحبة العلم وحضارتها تجبّر بعض فراعنتها»، نقلتُ نصَّ كلماتها بكل أخطائها اللغوية عمدًا لأنها تدعى علمًا باللغة العربية تخلطه بتخصصها فى اللغة المصرية القديمة لكى تصل بنا فى النهاية إلى هذه النتيجة الموجهة للمصريين.. إنكم سواء بسواء مع من كان أسلافُهم عبدة الأوثان حول الكعبة! وتقول إنها خصصت عقودًا من عمرها للبحث! نحن الآن نعاصر محاولتين تدعيان الموضوعية والأكاديمية، الأولى أصنفها كمحاولة سرقة - ناعمة مغلفة بعبارات مخدرة للعقل - لهوية صُناع الحضارة المصرية، أما الثانية فهى تدافع بقوة عن مصرية صُناع هذه الحضارة، لكنها باختصارٍ تصر على أن هؤلاء الصُناع قد انحرفوا دينيًا ويتساوون فى نظرها ومعتقدها مع عبدة هُبل واللات والعزى! .. فى هذا الحديث أحاول مناقشة بعض الأفكار الخاصة بكلٍ منهما مع عدم المساس بشخصيتهما، فكل ما يرد هنا من نقدٍ أو وصفٍ إنما أوجهه للفكرة لا لصاحبها أو صاحبتها.
فى حوارٍ صحفى لها نُشر يوم الأربعاء، ردت الأكاديمية د. مونيكا - التى تثار حول أفكارها شبهاتٌ علمية موضوعية كبرى - ببساطة واستخفاف قائلة «يهاجموننى لأننى أغرد خارج السرب!»، قرأتُ نصَ الحوار وأراه نصًا لا يرتقى فى مضمونه لمستوى الموضوعات التى تمت مناقشتها ويدور حولها الجدل. وكنت أتمنى أن يقوم من أجرى الحوار ببعض الجهد المعلوماتى قبل إجرائه. كان يجب عليه القيام بقراءة مقالات من سيحاورها قراءة وافية تليق بخطورة موضوع الحديث. الموضوع باختصار أن د. مونيكا كتبت كثيرًا جدًا على صفحتها الرسمية مقالات متاحة للجميع، وهى غير متخصصة مثلًا فى علم تطبيقى مثل الطب أو الهندسة حتى يصبح ما تكتبه غامضًا وحصريًا فى فهمه على فئة بعينها. هى متخصصة فى علم من العلوم الإنسانية النظرية المتاحة مؤلفاتها للجميع. وأى طالب آثار، أو سياحة قسم إرشاد، أو آداب قسم تاريخ، سوف يقرأ ما تكتبه بشكل صحيح دون الخوف من اتهامات زاعقة مكشوفة توجهها لمن يعارضها للخروج من مأزقها.

هناك خلطٌ متعمد من جانبها بين عدة موضوعات حتى تمرر من بين ثنايا تلك الموضوعات هذه الأفكارَ المتهافتة علميًا، التى تهدف لسحب البساط من المصريين بصفتهم صناع حضارتهم وإرثهم. تخلط فى حديثها بين استعمارية الحقبة الأولى من علم المصريات ودعوتها لاسترداد القطع المصرية وبين أفكارها عن شيوع هوية صُناع الحضارة المصرية بما يترتب عليه جعل الإرث المصرى حاليًا مشاعًا ومتجهًا اتجاهات جغرافية بعينها خارج مصر. تتهم فكرة الدفاع عن الهوية المصرية بأنها دعوة مستحدثة جاءت كرد فعل متطرف وعنصرى لمقابلة فكرة الإسلام السياسى.
كل ما ذكرته عن سيطرة الاستعمار على علم المصريات وأنها تمثل تيارًا تجديديًا مضادًا لهذا الاستعمار هو خيالٌ أو وهم لا علاقة له بالحقائق العلمية فيما يخص تاريخ المصريات كعلوم وليس علمًا واحدًا. الجيل الأول من علماء المصريات لم يكونوا مصريين بالفعل، لكنهم هم من صنعوا هذا العلم، ومن فكوا شفرات اللغة المصرية القديمة بالتعاون مع مصريين من العوام ومن أقباط مصر كما يعرف الجميع ذلك عن فريق شامبليون مثلًا. فاللغة المصرية القديمة الآن هى الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم، ولا يمكن لهذه الأكاديمية أو غيرها أن تعمل بعيدًا عما سطره هؤلاء الأساتذة العظماء من مختلف الجنسيات، كما لا يمكن الاستخفاف بنا برمى هؤلاء بأنهم ضلوا الطريق لأنهم غير مصريين. فعلوم المصريات شأن علومٍ عصرية أخرى نشأت على أيدى علماء غربيين.
والخلط بين خلق هذا العلم على أيدى هؤلاء وبين سرقة القطع المصرية هو افتراءٌ بيّن. فالذين سرقوا لم يكونوا حكرًا على علماء المصريات الأجانب، فهناك مصريون كُثر متورطون فى السرقة، وهناك أجانبٌ كثر متورطون فى السرقة لا علاقة لهم بعلم المصريات. علم المصريات راسخ ولم يثبت بعد خطأ أسسه العلمية التى يسير عليها كل المشتغلين بأفرعه المختلفة.
وكل الأساتذة المصريين من الجيل الثانى قد أكملوا الطريق خلف هؤلاء الأوائل مثل العظيم الراحل د. سليم حسن وغيره. فهل يمكن أن نتهم د. سليم حسن مثلًا باتهاماتٍ علمية فى موسوعته العظمى التى تمثل مرجعًا رئيسيًا للدكتورة مونيكا وغيرها - حتى لو رغمًا عنهم - فى أى عمل بحثى يخص تاريخ وآثار مصر القديمة؟!
هل أتت د. مونيكا بما يغير مثلًا المستقر الراسخ فى اللغة المصرية القديمة، وبالتالى علينا إعادة كتابة تاريخ مصر بما يتفق بما أتت به؟! هذا لم يحدث لا منها ولا من غيرها ممن يقودون الآن محاولات سلب هوية صُناع حضارة مصر، أو الذين يشيطنون هؤلاء الصناع بناءً على معتقداتهم الدينية الشخصية وانتصارًا لهوياتٍ أخرى بأن يصبح أسلافُ المصريين وأسلافُ هؤلاء سواءً بسواء!

أما فيما يخص تيار القومية المصرية، فمن الظلم للمصريين أنْ نقزم أو نَسِم هذا التيار بأنه أتى بعد ظهور الإسلام السياسى، فالثابت تاريخيًا أن تيار القومية المصرى موجودٌ بقوة على الأقل منذ ثورة ١٩١٩م أى قبل ظهور ما يسمى بجماعات الإسلام السياسى والتى ارتبط ظهورها بسقوط الدولة العثمانية وقيام دولة الكيان. بل إن أحد وزراء مصر الأقباط - مرقص باشا حنا وزير الأشغال - هو الذى منع استيلاء كارتر على كنوز مقبرة توت عنخ آمون فى بدء عشرينيات القرن الماضى. تيار القومية المصرية موجود بقوة فى الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزى. وفى تاريخ المصريات مثّل جيلُ د. سليم حسن تيارَ القومية المصرية حين تولى مسئولية منصب وكيل عام مصلحة آثار مصر كأول مصرى يتولى هذا المنصب ويصبح مسئولًا عن كل آثار مصر.
ومن الذى قال إن تيار القومية المصرى يقول بنقاء العرق المصرى بنسبة مائة فى المائة فى كل العصور؟ لكن السؤال ما هى نسبة التداخل، ومتى حدث تاريخيًا، وما مدى تأثير هذا التداخل العرقى على هوية صُناع الحضارة؟ نحن لدينا وثائق تفصيلية عن هذا التداخل فى كل فترات تاريخ مصر تقريبًا. وحين نتطرق إلى هذه النقطة فيجب أن يكون الكلام محددًا بوثائق عن كل فترة تاريخية مستقلة بذاتها لا أن يكون عامًا شموليًا.
أما فيما يخص محاولتها الزعم بأنها تطالب باسترداد القطع المصرية المنهوبة، فإن هذه المطالبة المصرية الرسمية والشعبية والأكاديمية تسبق ظهور الدكتورة بعشرات السنوات، حين سنت الدولة المصرية قوانين تجريم الاتجار فى آثار مصر. ود. حواس على سبيل المثال نجح بمجهودات فردية وباستغلال ثقل حجمه الدولى وشعبيته خارجيًا فى استرداد قطع مهمة من الولايات المتحدة أشهرها ما قام به بعد ٢٠١١م. واستردت مصر بالفعل بالطرق القانونية مئات القطع التى خرجت من مصر بطرق غير مشروعة ولم تتوقف مصر رسميًا فى أى وقت عن هذه المطالبة.
هذه الهالة التى حاولت الدكتورة نسجها حول نفسها لم تكن سوى محاولة لتمرير الأفكار - عن مساهمة شعوب أخرى فى صناعة حضارة مصر - والتى تدحضها حقائقُ التاريخ المصرى. كان موقفها هذا كمن يحمل الورود للمصريين فى يدٍ بينما يحمل أشواك الصبار فى اليد الأخرى.
باختصار شديد، فإن بعض ما كتبتَه الدكتورة - فيما يخص تلك الأفكار - ليس بجديد، وتعمل على محاولة تحويله لحقائق علمية بعض المعاهد والأكاديميات غير المصرية منذ ستينيات القرن الماضى، وبعض مؤلفات هذه المعاهد متاحة باللغة الإنجليزية وصادرة عن جامعة غير مصرية شهيرة! الدكتورة تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر فى نفس هذا الاتجاه لأسبابٍ قد تخص أفكارها ومعتقداتها هى بشكل شخصى ولا علاقة لذلك بموضوعية ما تقوله.

وهناك كثيرون غير مصريين - أكاديميين وغير أكاديميين - يعملون على نفس الملف بطرق مختلفة، لكن الجديد فى حالة الدكتورة أنها وجدت من يحتفى بها من مؤسسات أكاديمية غير مصرية الهوية، ومن مصلحة هذه المؤسسات رواج أفكار الدكتورة. أى أن الاحتفاء الذى حدث مؤخرًا هو مجرد اتفاقٍ فى المصلحة والغاية، وهى غاية ترويج وهم وخديعة أن الحضارة المصرية شاركت فى صناعتها شعوبٌ أخرى مجاورة لمصر لتجريد المصريين المعاصرين من إرثهم المستحق. هذه هى الترجمة المباشرة لكثيرٍ من الكلام المغلف بمصطلحات ناعمة. وبصراحة أقول، حين يصدر هذا الزعم من غير دارسى تاريخ مصر فيمكن تفهم عذر الجهل لأن أى طالب جامعى يدرس تاريخ مصر سوف يدرك تهافته، أما حين يصدر عن أكاديمية فأنا لا أبرؤها من العمد.
هذا ليس تحاملًا منى، لكنه بديهيات التاريخ التى يستحيل أن تكون الدكتورة غير مُلمة بها بحكم تخصصها. حين نتحدث عن علاقة مصر بجيرانها وبباقى الشعوب التى عاصرتها لا يمكن الاستسلام لحديث شمولى غير تفصيلى لحضارة استمرت أكثر من ثلاثين قرنًا على الأقل قبل الغزو اليونانى. أى يجب أن نفصّل لهذه العلاقات فى الفترات التاريخية المختلفة حتى نرى من هم صناع هذه الحضارة ومتى وجدت إسهامات غير مصرية وحجم تلك الإسهامات ومدى مشروعية تقديمها كشكل شراكة فى صناعة هذه الحضارة.
لو أننا سنغرق فى الحديث عن عصور ما قبل التاريخ ونتحدث عن عشرات الآلاف من السنوات، فساعتها يمكن القول ولمَ لا نعود لعصر سيدنا آدم ونحسم الحديث بأن الحضارة الإنسانية مشتركة بين أبناء آدم؟! هذا عبثٌ كامل ويجب أن نتحدث عن الفترة التاريخية الموثقة التى تمت فيها صناعة مفردات الحضارة بوادى النيل والدلتا. لذلك فيجب أن نلتزم بحديث الوثيقة وتقسيم الفترات التاريخية المكتوبة لحين إشعار آخر. وغير منطقى أن تقفز الدكتورة إلى العصر المتأخر بعد أكثر من ألفى عام مكتوبة من تاريخ وحضارة المصريين فتحدثنا عن أن حجتها هى الأسرة ٢٥ مثلًا!
أو أنها مثلًا تقول إنه لا حديث عن عرق مصرى بعد القرن ١٦ قبل الميلاد أى مع تكوين الدولة الحديثة بجغرافيتها المتسعة خارج حدود مصر، ففى هذا خطأ مركب.
فأولًا لو افترضنا جدلًا صحة عبارتها يكون السؤال الأقوى هو وماذا عن ستة عشر قرنًا سابقة لهذا التاريخ من حضارة مصر المكتوبة؟ أما الجزء الثانى من الخطأ فهو خطأ العبارة ذاتها، فليس صحيحًا عدم وجود حديث عن العرق بعد القرن السادس عشر قبل الميلاد. عبارة تهدمها آلاف الوثائق التى سأشير إليها فى موضعها.
فلقد مرت مصر فى علاقاتها المكتوبة مع جيرانها بمراحل موثقة لا مجال للالتفاف عليها. بدأت بتبادل تجارى بغرض الحصول على المواد الخام غير الموجودة فى مصر وتقديم منتجات زراعية وغير زراعية مصرية فى المقابل.
ألفية الدولة القديمة هى السر وهى كتابنا المقدس عن صناعة حضارة مصر وهوية صُناعها. وهى الألفية التى تسبق القرن السادس عشر قبل الميلاد بعدة قرون هى عمر عصرى الانتقال الأول والثانى وعمر الدولة الوسطى.
ففى هذه الألفية وهى صانعة حضارة مصر، خلا المشهد تقريبًا من أى إسهامات غير مصرية. الدولة القديمة امتدت لعشرة قرون تقريبًا، صنع خلالها المصريون كل مفردات الحضارة من طب وهندسة وصيدلة وعمارة وأفكار وقيم حاكمة وفنون وموسيقى وجيش ورياضة.
ألفية الدولة القديمة لها الكلمة العليا فى إنصاف المصريين. ويمكن القول بنقاء العرق المصرى تقريبًا فى هذه الألفية، كما يمكن تأكيد هوية صُناع الحضارة بأنهم مصريون. ففى هذه الدولة خلق المصريون علوم الطب والصيدلة، وتم توثيق وجود أربع مدارس طبية على الأقل فى مصر، ومارسوا جراحات العظام وابتكروا علوم التشريح والنساء والتوليد ووفد إلى مصر طلاب علم من كريت.
خلق المصريون علم الكيمياء وصنعوا الألوان والأصباغ ومنسوجات الكتان والأصواف.
خلقوا الهندسة المعمارية وطرق قطع الأحجار والبناء والمنازل سابقة التجهيز.
خلقوا الرياضات البدنية من سباحة وكرة.
صنعوا الجيش النظامى الأول ولدينا وثائق تكوينه ونظمه وهويات مجنديه.
وخلقوا النظام الإدارى، والحكم المحلى، وهندسة الرى. صاغوا عقائدهم الدينية والجنائزية، وخلقوا أفكارًا وقيم العدل والضمير والسلام ونبذوا الغزو وفكرة استعمار أراضى الغير.
كتبوا الفنون من شعر وأغنية وقصة، وصنعوا الأدوات الموسيقية.
الذين فعلوا ذلك هم المصريون كافة كعرق وليس كتيار شعبوى عالمى.

هذه هى الحقيقة التى توثقها عشرات الآلاف من الوثائق. كانت لهم علاقات تجارة مع جيرانهم لكنهم لم يشركوا هؤلاء الجيران فى صناعة حضارتهم، ووثقوا المستوى الحضارى لهؤلاء الجيران. هؤلاء المصريون هم سكان الوادى والدلتا الذين لم يغادروا مواطنهم بعد ذلك واستمر تناسلهم وتمسكهم بالأرض. كل ذلك قبل الدولة الحديثة بقرون.
بعدها عصر الانتقال الأول ثم الدولة الوسطى التى تمثل امتدادًا للدولة القديمة واقتصرت صناعة الحضارة على العنصر العرقى المصرى المكون من مصريى الشمال والجنوب فى القرى والنجوع ونوبيى مصر. بخلاف ذلك مثّل المصريون باقى الأجناس بشكل محدد ووثقوا علاقاتهم معهم أيضًا بشكل محدد.
غزو الهكسوس يعتبر هو أول تداخل حقيقى وقوى لحضارة غير مصرية مع الحضارة المصرية. أخذ المصريون بالفعل من الهكسوس بعض المفردات العسكرية، وهذا لا يعنى الزعم بأن الهكسوس مثلًا هم صانعو حضارة مصر العسكرية، وهذا الزعم جنون خالص يشبه مثلًا أن ننسب أى جيش معاصر لدولة أخرى لمجرد أن هذا الجيش قد حصل على بعض أسلحته من تلك الدولة.
حتى هذه طورها المصريون فسبقوا الهكسوس فى ترويض الخيل واستخدامه خارج نطاق العجلات الحربية كما طوروا العجلة الحربية ذاتها. كان المصريون قد صنعوا آلات موسيقية منذ ألف وخمسائة عام قبل الدولة الحديثة وطوروها، وبالفعل فقد دخلت لمصر أشكال جديدة لبعض هذه الآلات مثل الدف الذى تغير من الشكل المربع للدائرى. فهل هذا يعنى أن ننفى عن المصريين أنهم هم الذين خلقوا للمرة الأولى الآلات الموسيقية؟!
لقد رفض المصريون البوح بأسرار حضارتهم للأجانب، ولدينا توثيق لذلك ببرديات الأسرة العشرين حين رفضوا إخبار الأجانب الأسرى عن سر استخدام قش التبن فى صناعة الطوب اللبن! الموضوع محسوم والأرض المصرية لم يحدث بها انقطاع بشرى أو حضارى كما حدث مثلًا فى بعض مناطق شمال السودان وأقصى جنوب مصر! لم يحدث انقطاع بشرى أو حضارى مصرى فى وادى النيل والدلتا حتى يزعم أحدهم أن هناك شعوبًا أخرى قد ملأت هذا الفراغ والانقطاع وشاركت المصريين صناعة الحضارة! لدينا أكثر من مائة عقد زواج وطلاق توثق أنساب العائلات المصرية وتصاهرها.
فى الدولة الحديثة التى شهدت ضم مناطق غير مصرية للمملكة المصرية حدث تداخل حضارى منطقى، لكن الثابت أن حضارة مصر طغت على ما سواها، ودليل ذلك أن أصبح آمون مثلًا معبودًا دوليًا، وما زالت معابده قائمة حتى الآن فى دول أخرى. حين قامت الدولة الحديثة كانت حضارة مصر قائمة بالفعل وتطورت. مَن الذى طورها؟ لدينا آلاف المقابر الخاصة بأفراد النخبة من فنانين وساسة وعسكريين تركوا لنا أنسابهم وعائلاتهم المصرية. وغير المصريين منهم نعرفهم، لكن نعرف أيضًا أنهم تمصروا واصطبغوا بحضارة وشخصية مصر.
لدينا أكثر من أربعين ألف وثيقة دونها فنانو وعمال مصر فى قرية العمال بدير المدينة بغرب الأقصر تخبر مَن هم وماذا فعلوا. هؤلاء هم الذين صنعوا حضارة الدولة الحديثة، فهلا أخبرتنا د. مونيكا كم من هؤلاء غير مصرى؟
لدينا مئات المقابر لهؤلاء الفنانين والقادة وحكام الولايات جميعها من الدولة الحديثة.

لدينا مئات الأمتار المربعة من الرسوم فى مقبرة واحدة لوزير مصرى اسمه رخميرع بها مئات المناظر التوثيقية لمن صنعوا حضارة الدولة الحديثة وهوياتهم.
لدينا نصوص عسكرية فى مقبرة قائد عسكرى مصرى واحد اسمه أحمس بن أبانا فى منطقة الكاب تحكى تفاصيل حروب المصريين ضد الهكسوس.
وفى هذا نرد على ادعاء الدكتورة بأن تيار القومية المصرية ينفى هذا الاختلاط، لكن هل يُنسب الأصل للفرع أم العكس؟ حين يجد أحدٌ من غير المصريين فرصة ترقٍّ فى العصور المتأخرة ويعمل كفرد فى إدارة مصرية ينفذ ما يتم تعليمه له، هل من المنطق أن ننسب الحضارة إليه وهى الراسخة قبل وجوده بعشرات القرون؟!
إن ما يحدث وتتبناه الدكتورة وتروج له هو محاولة لسرقة حضارة مصر وجعل إرث المصريين مشاعًا بين شعوبٍ أخرى. فمثلًا الآن تقوم مصر باستضافة ملايين اللاجئين، منحتهم فرص عمل وحياة بسبب ما يحدث فى بلدانهم. فهل يعقل أن يأتى بعد عقود من الآن من يزعم مثلًا أن هؤلاء هم من أنقذوا مصر من الميليشيات ومن الخريف العربى، ومن تنفيذ خطة التهجير لسيناء وأنهم هم من أنقذوا مصر من الإفلاس الإقتصادى؟! هذا هو المثل الأقرب للدقة والصواب.. أو مثلًا فى حرب أكتوبر منحت مصر شرف المشاركة الرمزية للبعض، فهل من المنطقى أن يحاول هذا البعض الآن ادعاء أنه الذى حارب وانتصر؟!
فى فترات تاريخية سابقة وبسبب أخلاقى مصرى بحت فتحت مصرُ أبوابها للجوعى والملهوفين من قبائل الشرق عرب ويهود. والآن هناك محاولة للزعم بأن هؤلاء اللاجئين القدامى هم مشاركون للمصريين فى صناعة حضارة مصر!
وبعد الغزو العربى لمصر كانت مصر بالفعل حضارة قائمة راسخة فشل الغزاة فى إدارتها فتركوا أمر تلك الإدارة لأهل مصر لما يزيد على قرنين من الزمان. بعض الذين احتفوا بأفكار الدكتورة تسوؤهم تلك الحقيقة التاريخية ويحتفون بأى صوت يعمل على إلقاء الضباب عليها.
نحن لسنا عنصريين يا دكتورة، نحن فقط ندافع دفاعًا مشروعًا علميًا عن بديهيات التاريخ التى يبدو أنك تتجاهلينها عن عمد. وحضارة مصر للجميع قول صحيح فى جانبٍ واحد فقط أنه متاح كإرث حضارى للبشرية كلها، لكنه ليس للجميع بمعنى السطو على هوية صناعه الحقيقيين!
لا توجد محاولة تسييس للعلم كما تدعى الدكتورة، لكن هناك رفضًا وثائقيًا موضوعيًا لما تروج له من أفكار. بل إن العكس ربما يكون هو الصحيح، وربما تكون مواقف الدكتورة السياسية السابقة سببًا لتبنيها بعض الأفكار. فأنا أؤمن بأن من يتبنى مسمى «عسكر» لنعت القوات المسلحة المصرية هو ممن لا يقدر الدور التاريخى لهذه المؤسسة فى الحفاظ على كيان الدولة المصرية فى الفترات التى نتحدث عنها. فمسمى العسكر يستدعى أفكارًا تاريخية ترتبط بهوية غير مصرية إطلاقًا، وحين يعتنق هذا المسمى فى الوقت المعاصر أى باحث - تأثرًا بموقفه السياسى - فهذا يعنى تشوش وتداخل معتقداته السياسية ببحثه العلمى.
هناك نقطة أصبحت تثير الاستغراب أو الاستهجان، أن كل من تتم معارضة أفكارهم أو أفكارهن يتقمصون دور الضحية التى تطاردها لجان السوشيال ميديا.

أولًا: السوشيال ميديا أصبحت واقعًا إعلاميًا تستخدمه كل محطات الصحافة والإعلام الرسمية وغير الرسمية. وأصبحت مفردة معاصرة من مفردات التعبير عن الرأى وتوجيه الرأى تستخدمها الدول والهيئات كما يستخدمها الأفراد وكما تستخدمها الأكاديمية ذاتها فى نشر مقالاتها. قميص الضحية المستهدفة ممن أسمتهم لجان الكمايتة أصبح لا محل له من الوجود الموضوعى. عليها وعلى غيرها ألا تتبرأ مما كتبته سابقًا بأثر رجعى إلا أن تقول صراحة إنها أخطأت وفى هذا شجاعة سوف تُقدر. لكن محاولة نفى ما تبنته بوضوح بعد أن أصبحت الأضواء مسلطة عليها أو محاولة اتهام معارضيها باقتطاع واجتزاء الأفكار فهذه طريقة قديمة. فالأفكار واضحة لا تحتمل تأويلًا، فإما أن تكون قد أخطأت أو تواجه منتقديها دون تسليط سيف الاتهامات المعلبة.
حالة الصمت أو السكوت من قِبل بعض الهيئات الأكاديمية والعلمية والثقافية المصرية على بعض هذه المشاهد هى حالة ينطبق عليها لفظ اللعب بالنار. صمت بعض الجهات يفهمه بعض المصريين أنه موافقة ضمنية من باب إن السكوت علامة الرضا! فما بالنا أن يتخطى رد فعل بعض المؤسسات والهيئات فعل الصمت إلى الاحتفاء والتكريم؟ هل هو جهلٌ بما يحدث وبخطورته أم كسل علمى؟! أم أن بعض القائمين على تلك الهيئات والكيانات لا يزالون يعيشون أفكار عقود منتصف القرن الماضى وما بعده ولا يدركون أن مصر قد تغيرت أو لا يدركون خطورة معركة الهوية التى تخوضها مصر؟
أن يتم تكريم بعض من يحاولون مجاملة آخرين بتبرير سرقة الإرث المصرى من قِبل كيانات مصرية هو لعبّ بالنار فى قضية بالغة الخطورة. ومعظم النار من مستصغر الشرر.
الحالة الثانية لأكاديمية - د.إيناس - تصر على أن مصر القديمة منحرفة دينيًا وأن ملوكها فراعين متجبرون وأنه يتوجب علينا تجرع هذا الوهم حتى لا نشعر بتميز أراه مستحقًا. لخصت هدفها فى تلك العبارة التى أوردتُها فى مقدمة المقال بأخطائها اللغوية الغريبة وهى تصر على خلط القصص الدينى الإسلامى التراثى بتخصصها وتصر على امتلاكها مفردات تفسير النصوص القرآنية واللغوية العربية.
فى الحالتين نجد تشابهًا فى نقطتين، الأولى استخدام اللقب العلمى فى غير موضعه لتمرير أفكار شخصية. فالرسالة العلمية لكل منهما لا علاقة لها بشكل مباشر بالأفكار التى تقوم بترويجها.
التترُّس باللقب العلمى لإسكات المخالفين عن الاعتراض هو النقطة الثانية دون مراعاة أن العلوم الإنسانية النظرية متاحة للمثقفين أو العاملين فى المجال حتى وإن لم يحصلوا على نفس الدرجة العلمية لطبائع مهنهم. لا يملون من استخدام هذه الفزاعة على طريقة العبارة الشهيرة للفنانة نسرين فى الشهد والدموع.. لو سمحت دكتورة ناهد دكتوراه فى الأدب الإنجليزى!
المثير للدهشة فيما نرى هو غياب المشاكسة العلمية الأكاديمية من قِبل كيانات ومؤسسات علمية مصرية. الذين يعترضون ويردون ويتم اتهامهم بأنهم لجان مدفوعة هم مصريون مثقفون يرون خللًا فيما تطرحه هذه الدكتورة أو تلك. أكرر دعوتى لهذه الهيئات العلمية للقيام بواجبهم فى تفنيد ما يتم توجيهه من سهام اغتيال معنوى للحضارة المصرية أو محاولة السطو على صناعها الحقيقيين.
فى عام ٢٠٠٠م كانت مصر على موعد مع أزمة ثقافية وسياسية كبرى. حين نشرت وزارة الثقافة المصرية رواية «وليمة لأعشاب البحر»، فقامت جماعة الإخوان عبر جريدة الشعب وعن طريق كاتبها د. محمد عباس بتهييج طلابها فى جامعة الأزهر بدعوى أن الرواية تنشر أفكارًا كُفرية بأموال وزارة الثقافة المصرية. قام طلاب الجماعة بأعمال شغب وتمت مصادرة جريدة الشعب وغلقها كما تمت مصادرة الرواية وحدثت استقالات جماعية من جانب مسئولين فى وزارة الثقافة. أحيانًا أشعر أن التيارات الدينية المتطرفة أكثر حرصًا على الدفاع عن باطلهم ممن يفترض أن يدافعوا عن الهوية المصرية الوطنية.
فحين تقوم هيئة ثقافية مصرية رسمية بنشر رواية ذات عنوان تشكيكى فى الأصل التاريخى لملكة مصرية فهناك شىء خطأ. وقطعًا أنا لا أدعو لحراك فوضوى ضد رواية أدبية، لكننى أتساءل عن غياب الاعتراض الفكرى ممن يدافعون عن هوية تاريخ وحضارة مصر. الرواية خيالية عن قصة حب بين ملك مصرى وملكة نعتها عنوان الرواية بأنها كنعانية!
الغالبية لم يقرأوا الرواية لكنهم حفظوا العنوان وكأنه حقيقة. مؤلف غير مصرى ينشر رواية بأموال مصرية ويدّعى أن الملكة المصرية فلانة كنعانية! لماذا الآن تتم هذه المحاولات المتسللة للتشكيك فى أصول شخصيات مصرية تاريخية؟ لماذا لا نتعلم من دروس الماضى؟
فى مشهد من فيلم سينمائى تخاطب البطلة الفنانة داليا مصطفى أو انشراح زوجها الفنان طلعت زكريا قائلة: «يا راجل بقولك الراجل كان عايز يبوسنى هو أنا مش مراتك.. إنت مالك مريح كدا ليه؟!».
وفى عبارة عبقرية لسيدة المسرح سميحة أيوب فى فيلم «تيتة رهيبة» تقول للفنان خالد سرحان: «أنتم مالكم مريحين كدا ليه.. إيه السلبية اللى إنتوا فيها دى؟!».
سؤال لبعض الهيئات الثقافية والأكاديمية المصرية - وفيما يخص كل ما سبق وهذه الموجة الممنهجة لاستهداف هوية الحضارة المصرية - «هو فى إيه.. إنتم مالكم مريحين كدا ليه؟!».





