الجمعة 07 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الخديعة والخطيئة.. إنهم يكفرون مصر القديمة

حرف

- هناك من يهدف إلى سلخ المصريين من هويتهم لتحقيق أهداف محددة.. لذلك يجب الفصل بين المجموعتين فصلًا تامًا

- يحذرون المصريين بأن من تشبه بقومٍ فهو منهم! من أوهمكم بأننا ننكر أننا منهم؟! نعم نحن من أسلافهم وننتمى إليهم

- من مساوئ المشهد الثقافى المصرىمن يسمون أنفسهم الكتاب الإسلاميين نساءً أو رجالًا

هذه الموجة الحالية من محاولة استعداء المصريين ضد حضارة أسلافهم من منطلق دينى كاذب ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن اشتدادها هذه المرة وزعيق ناعقيها وهياجهم لا يعنى سوى يقينهم بفشل كل ما سبقها من موجات، وبضياع كل ما توهموه من نجاحٍ فى إبعاد المصريين المعاصرين عن هؤلاء الأسلاف وإرثهم.

بعد توقف السياحة الغربية عام ٩٧ إثر جريمة الإرهاب فى معبد حتشبسوت، كانت مواجهتى الأولى مع من يتبنون فكرة شيطنة الحضارة المصرية القديمة ووسم أصحابها بالوثنية والتبرؤ من الانتماء إليها، قمت وقتها بالإرشاد السياحى لمجموعات من المصريين، وبدأتها مع مجموعة تابعة لنقابة مهنية مصرية رفيعة، عُرف عن مجلس إدارتها آنذاك الهوى الإخوانى، بعد الانتهاء من زيارة معابد الكرنك فاجأنى كبيرهم خمسينى العمر ذو اللحية الكثيفة باستنكاره لمعظم حديثى ونكرانه لتحمسى للحضارة وأصحابها وكيف لى- وأنا المسلم- أن أحتفى بكل هذا الشرك حسب وصفه؟! خضنا نقاشًا مطولًا، أدركتُ من خلاله ما يرتكز عليه خطاب تكفير حضارة مصر من أفكار أو أوهام لا تقوى على الصمود أمام الوثائق المصرية القديمة أو حتى النصوص الإسلامية. 

الفكرة كلها تدور فى فلك قصة موسى «س» وفرعونه، وتنطلق إلى تكفير أهل تاريخ ممتد لما يزيد على ثمانية وثلاثين قرنًا قبل الإسلام، لا يوجد خلاف هذه القصة من أسانيد أو حجج أخرى لكل من تبنى هذا المعتقد، وهذا يدفعنا إلى تحديد عدة أسئلة وإجاباتها كمنطلق لتفنيد هذا الفكر. 

نحن لدينا مجموعة من المصريين تعتقد بصواب ما ذهب إليه محدثى، وهناك مجموعة من المصريين وغير المصريين لا تهتم بصواب الفكرة أو فسادها، إنما تهدف إلى سلخ المصريين من هويتهم لتحقيق أهداف محددة؛ لذلك يجب الفصل بين المجموعتين فصلًا تامًا. 

لنبدأ بمن يعتقدون بشكل حقيقى فى وثنية الحضارة المصرية، والذين يرتكنون إلى القصص القرآنى بخصوص قصة فرعون موسى ويصوغون موقفهم بشكل متسق مع ما قر فى يقينهم. وهؤلاء يجب أن نوجه إليهم الأسئلة التالية مصحوبة بإجاباتها الموثقة. 

متى وقعت أحداث قصة فرعون موسى؟ وما مصادرها التى يستند إليها مروجو تكفير قدماء المصريين؟ 

ماذا عن تاريخ وعقائد مصر قبل أحداث قصة فرعون موسى؟. 

ماذا عن تاريخ وعقائد مصر بعد وقائع قصة فرعون موسى؟.

الإجابة القطعية للسؤال الأول تتلخص فى عدم معرفة الحقبة التاريخية على سبيل اليقين. وكل ما لدينا هو مجموعة من الآراء التاريخية، لكل منها معطياتها الاستدلالية لا القطعية، فرأى يقول إن القصة برمتها وقعت أثناء حقبة غزو الهكسوس مصر، أى فيما يعرف بعصر الانتقال الأول بين الدولة الوسطى وبين الدولة الحديثة، أو تقريبًا بين القرنين ١٨ و ١٧ قبل الميلاد، بما يعنى وجود تاريخ لمصر ممتد قبلها لسبعة عشر قرنًا، وبعدها لخمسة عشر قرنًا قبل المسيحية. وبما يعنى أن أبطال القصة غير مصريين، وأنها كانت صراعًا بينيًا بين قبائل الهكسوس بدمويتها وفظاظتها، وأن مصر بريئة تمامًا من كل ما ورد فى التراث الدينى- اليهودى، والذى نقل عنه المسلمون- سواء كان حقيقة أو أساطير. 

الرأى الثانى يدور حول بعض أسماء ملوك مصر من الدولة الحديثة، ولم تتفق هذه الآراء على اسم ملك بعينه، بل العكس هو الصحيح، فهناك شبه اتفاق علمى على تبرئة ملوك مصريين بالاسم من هذه القصة مثل رمسيس الثانى، وهناك مئات الأدلة على هذه البراءة تضج بها أبحاث المؤرخين. 

وفى هذا الموضع هناك مفاجأة لا أعتقد أن السائرين فى ركب تكفير مصر القديمة يعلمون بها، وكان لى شرف نشرها منذ سنوات فى مقال صحفى بعنوان البحث عن الفرعون الغامض. هذه المفاجأة وردت فى كتاب إنجليزى بعنوان «توت عنخ آمون.. مؤامرة الخروج».

فى هذا الكتاب الخطير شهادة موثقة عن واقعة حدثت أثناء عمل كارتر فى مقبرة الملك توت، فبعد أن ثبت للسلطات المصرية قيامه بعمليات نهب لبعض محتويات المقبرة، قامت تلك السلطات المصرية- ممثلة فى شخص وزير الأشغال المصرى مرقص باشا- بإيقافه فجأة. حاول كارتر جاهدًا حل مشكلته مع السلطات المصرية وفشل، فقام بلقاء قنصل بريطانيا فى الأقصر بفندق ونتر بالاس فى حضور عدد من علماء المصريات، وقام بابتزاز القنصل قائلًا «إنه وجد فى المقبرة بردية تنقل وجهة نظر الحكومة المصرية القديمة فى قصة خروج بنى إسرائيل من مصر، وأنه إن لم يتدخل القنصل بالضغط على السلطات المصرية لعودته للمقبرة فسوف يقوم بنشر البردية!» انفعل القنصل وقام بقذف كارتر بالمحبرة ثم أخرج الحضور، وعقد لقاءً منفردًا مع كارتر لا يعرف أحد ما دار به، لكن كارتر عاد للعمل فى المقبرة بعد ذلك بأيام!.

تنفى هذه القصة وقوع حادثة الخروج فى عصر رمسيس الثانى من الأسرة ١٩؛ لأن البردية وجدت فى مقبرة الملك توت من الأسرة ١٨، وبما يعنى أنها حدثت قبل عصر الملك توت، وتعنى هذه القصة أيضًا أن هناك أطرافًا غير مصرية متورطة فى عملية تضليل علمى صريح؛ لأن البردية اختفت ولم يتم معرفة محتواها، كما لا يعرف أحد مصيرها! 

وسبب ابتزاز كارتر للدبلوماسى البريطانى وقتها هو أن بريطانيا كانت ترعى تدشين قيام الكيان الصهيونى القائم على الأساطير التلمودية وفى القلب منها قصص السبى والخروج من مصر ومحاولة إلصاق تراجيديا بنى إسرائيل بملك مصرى معين هو رمسيس الثانى، ومعنى رضوخ القنصل لكارتر أن بالبردية ما ينفى قدرًا كبيرًا من تلك الأساطير التى تلصق التراجيديا الدينية بالمصريين وملوكهم.

هذا التضليل المتعمد يفتح الباب على مصراعيه أمام تشكيك منطقى كبير فى كل الرواية المتداولة شعبيًا بين المسلمين عن قصة فرعون موسى وما يصاحبها من شيطنة كل ما هو مصرى قديم. 

وذلك لسبب أكاديمى بسيط أن هذا التراث الإسلامى الشعبى الدينى فى تفاصيله وشروحاته قائم أساسًا على النقل من المرويات اليهودية، والتى صاغت الفكرة الصهيونية المعاصرة! وهذا بنص حديث ابن كثير فى مقدمة شرحه لقصة بنى إسرائيل فى مصر!.

لقد قام كبار المفسرين القدامى بالنقل الحرفى مما سمعوه أو قرأوه من مرويات اليهود على اعتبار أنهم يلتزمون بما هو منسوب للنبى «ص».. لا تجادلوا أهل الكتاب ولا بأس من الأخذ منهم.. بعضهم افتتن بالقصص والحكاوى اليهودية، فدونوها فى كتبهم، وتناقلتها الأجيال حتى اكتسبت حصانة غير منطقية مستقاة من دفاع رجال الدين عن التراث الإسلامى بصفة عامة. حتى وصلنا للمرحلة المعاصرة التى يتلقى فيها المسلمون المصريون هذا التراث ويتحمسون له ويعتبرونه جزءًا من الدين، فنجد حالة من التشكك والريبة فى قطعة من تاريخ مصر، لقد استدرج المدافعون عن التراث الإسلامى بعض المصريين للفخ. 

الغريب أن أحدًا لا يلتفت إلى ما ورد فى القرآن الكريم ذاته وأنه لم يُدِنْ لا مصر ولا المصريين بما أدان به غيرهم من الأمم صراحة، القصص القرآنى يختص بواقعة محددة بين أطراف محددين ولا يدين مصر بشىء، بل على العكس فقد كرمها فى أكثر من موضع، ولم ينتبه الساقطون فى الفخ إلى قضية منطقية عادلة أن قصة أو واقعة معينة- استغرق وقوعها بضع عشرات من السنين- لا يمكنها أن تدين شعبًا أو حضارة امتد عمرها لأكثر من ثمانية وثلاثين قرنًا من الزمان قبل الإسلام! كما لم يتنبهوا إلى ما نتلوه صباح مساء من الذكر الحكيم عن احتضان مصر لأنبياء آخرين!. 

بعيدًا عن هذا العصف الأكاديمى فى تفنيد القصة أو الحجة الأساسية فى باطل اتهام الحضارة المصرية القديمة بالوثنية، تأتى أهمية السؤال الثانى.. ماذا عن مصر وعقائدها قبل وقوع القصة المفترضة؟ 

تقول الوثائق المدونة منذ الدولة القديمة- ثلاثين قرنًا قبل الميلاد- إن مصر عرفت التوحيد بشكل واضح صريح، لدينا نصوص تتحدث عن «إله الكل» الخالق، ولقد فض اشتباك اللغة فيما يخص أسماء الشخوص مثل آمون ورع وغيرهم علماءُ المصرية الذين أفادوا أن الترجمة المعاصرة لكلمة «نتر» بمعنى إله هى ترجمة تؤخذ بحذرٍ شديد وأنها قد تعنى شخوصًا نورانيين على غرار الملائكة أو صفاتٍ للإله الواحد تم محاولة تجسيدها فى صور مادية محسوسة تتناسب مع ثقافة مصطلح «أهل الفترة» الواردة فى الفكر الإسلامى، والتى تشير إلى فترات عدم وجود أنبياء بشكل صريح، لدينا مئات النصوص تتحدث عن الخالق وعن إيمان المصريين بعقائد البعث والخلود واستخدامهم لمصطلح دار الحق ودار الآخرة فى الإشارة لما بعد الموت. وإخناتون لم يكن أول الموحدين، بل حاول التصدى لسيطرة الكهنة أو رجال الدين، وترديد مصطلح أنه أول الموحدين يتنافى مع وجود ما سبقه من نصوص دينية على امتداد أكثر من ثمانية عشر قرنًا من الزمان. 

هل تسللت أفكار فاسدة لبعض الكهنة أو رجال دين مصريين قدماء لفكرة التوحيد المصرية القديمة؟ قطعًا حدث ذلك. ولن يكون منطقيًا تخيل غير ذلك فى عمر حضارة امتدت لتلك القرون الممتدة. لكن هذا لا يدين الفكرة أو يفسدها إذا ما قارنا ذلك بما علق بكل الديانات المعروفة بما فيها المسيحية واليهودية والإسلام وبما نقرأه من قصص أنبياء، وما فعله أتباع أنبياء مثل بنى إسرائيل أنفسهم فى حياة أنبيائهم! 

كيف وصل المصريون لفكرة التوحيد؟ تختلف الإجابة وتنحصر فى تيارين، أحدهما يقول بأن بعثة النبى إدريس كانت على أرض مصر، وهو الذى ألقى ببذرة التوحيد فى مصر، بينما يذهب المؤمنون بالتيار الآخر إلى القول ببحث المصريين عن الله الخالق عبر مئات السنوات فى عصور ما قبل التاريخ. تأمل المصريون بعض الظواهر مثل الفيضان ودورة الشمس والظواهر الطبيعية حتى استقر فى وجدانهم أن للكون خالقًا، وأن الحياة لا تنتهى بالموت ولا بد أن تكون هناك دورة حياة أخرى يتم فيها حساب البشر على أعمالهم، سواء كان هذا الرأى الأول أو الثانى هو الصواب، فإن المهم هو اليقين بوصول المصريين لفكر التوحيد ومعرفة الله. 

مما يتم تجاهله عمدًا فى قصة ديانة مصر الجانب الأخلاقى الموثق أو منظومة القيم التى آمن بها المصريون، وكانت محرك حياتهم وضابطة سلوكهم فى الحياة الاجتماعية فيما بينهم، وتعاملهم مع الأمم الاخرى فى السلم والحرب، قوانين ماعت الأخلاقية وضوابط الاشتباك العسكرى وتفضيل قيم الخير والسلام، لا يمكن إطلاقًا فصل هذا الجانب عن الجانب العقائدى الدينى، فقراءة المنظومة القيمية المصرية تقطع بارتكانها إلى المعتقد الدينى فى وجود إله سوف يحاسبهم، ولن تكبل أمة نفسها بضوابط أخلاقية أو تروض حروبها وتروض علاقاتها مع الجيران وتهذبها- كما فعل المصريون مع أنفسهم- لو كانت هذه الأمة متحررة من أى قيم دينية سامية. نصوص الأدب المصرى التى نشرتها آلاف الكتب تؤكد صبغة المصريين لأخلاقهم بصبغة دينية صريحة. 

السؤال الثالث عن عقائد المصريين بعد وقوع أحداث قصة فرعون موسى وإجاباته تمثل امتدادًا صريحًا لما حدث قبل تلك القصة، وتزيد عليها هذه التخمة من الوثائق الدينية. وحين نضع الفترتين جنبًا إلى جنب، ونضع بينهما تلك القصة الدرامية نجد هذا الشذوذ السلوكى صارخًا بما يقود لاستدلال أقرب للقطع أن هذه الممارسات- لو صح حدوثها- لا تنتمى إطلاقًا لشخصية هذه الحضارة. ولو حدثت حقًا وكان بطلها ملكٌ مصرى، فغالب الأمر أنه كان استثناء لما قبله وبعده، وأنه شأن خاص به وحدث محدد يخصه ويخص طغمة قليلة لا تمثل عموم المصريين، بدليل مساندة بعض المصريين لبنى إسرائيل بإقراضهم الذهب ومساندتهم فى الخروج وكتم أمرهم عن هذا الملك.

وتبقى أيضًا شخصية هذا الملك غامضة تاريخيًا لتعمد كارتر وكارنارفون- ممول الكشف- إخفاء شخصيته، لو كان هو رمسيس الثانى أو ملكًا مصريًا معروفًا لبادرا بإعلان ذلك ونشره لما كان سيمثله ذلك الإعلان من انتصار للفكرة الصهيونية، خاصة حين نقرأ ما ورد فى نفس الكتاب عن مصاهرة الأخير لعائلة صهيونية معروفة هى عائلة روتشيلد وما ألمح إليه مؤلفا الكتاب من اتهامات للعائلة بإعدام أو تعمد إخفاء البردية!.

نأتى للفريق الثانى من مروجى أفكار وثنية الحضارة المصرية. وهو الفريق الذى لا يهتم بالحقائق التاريخية؛ لأنه يعمل على استغلال الفكرة وترويجها لأهداف سياسية صريحة محددة.مَن يمثل هذا الفريق وما هى أهدافه؟ ومَن سقط فى فخ مساندته جهلًا من أشخاص أو مؤسسات مصرية؟ 

يضم هذا الفريق أطيافًا يجمعها تلاقى الأهداف لا وحدة الفكر، تشمل تلك الأطياف مجموعات الإسلام السياسى بمختلف تشعباتها ومسمياتها سواء مصرية أو غير مصرية، ومجموعات الصهيونية، ومجموعات مستهدفى السطو على هوية الحضارة المصرية لنسبتها لنفسها. 

جماعات الإسلام السياسى تعمل على سلخ المصريين من أى انتماءاتٍ وطنية بهدف مساهمة المصريين فى منح شرعية شعبية لتلك الجماعات. وجدت تلك الجماعات فى هذه الفكرة مطية رائجة تحقق ذلك الهدف بسهولة أكبر من جهد الإقناع بفكرة هدم الدولة الوطنية لإقامة إمارات طائفية مذهبية. فلو اقتتع المصريون بوثنية حضارتهم الأم فسوف يتبرأون منها ويفقدون أقوى مصادر الممانعة الوطنية لمشروع تلك الجماعات. 

أما الجماعات الصهيونية فهى أهم من يدرك خطورة تمسك المصريين بأصولهم التاريخية، ومدى ما يمنحه هذا التمسك للمصريين من قوة فى مواجهة الخرافة الصهيونية. ويدركون أن النجاح فى استعداء المصريين ضد أصولهم التاريخية بدعاوى دينية سيكون- إن حدث- نصرًا كبيرًا يترتب عليه تطوع المصريين أنفسهم بتمزيق أمتهم على أسس دينية، كما حدث فى أوطان أخرى ومع شعوب أخرى وجماعات مقاومة كانت وطنية! 

أما مستهدفو السطو على الحضارة المصرية فظلوا لعقود طويلة ينفقون على دعايات شيطنة الحضارة المصرية ومحاولة تنفير المصريين من تلك الحضارة عن طريق المعايرة الممنهجة للمصريين بأصولهم الفرعونية التى يغلب عليها الطغيان! ثم فجأة وبعد أن أتت تلك الدعايات ببعض ثمارها السامة بين بعض المصريين، يتحول خطاب هؤلاء تحولًا جذريًا بمحاولة نسبة تلك الحضارة- التى ظلوا يصفونها بالوثنية والطغيان- لأنفسهم، وأيضًا ينفقون تلالًا من الأموال فى سبيل ترويج هذا الوهم وشراء شرف الانتساب إلى تلك الهوية!. 

أما الذين سقطوا فى فخ مساندة هذا الفريق من المصريين- أشخاص نخبوية ومؤسسات- فهم يمثلون الجانب الحزين المؤسف من الرواية، لقد كون هؤلاء ما يشبه جيشًا من المتطوعين من تلقاء أنفسهم- سواء كان عمدًا أو جهلًا- للانضمام لهذا الفريق وتقديم خدمات مجانية كبرى له. وكان دور المؤسسات أخطر من الأشخاص لما تمتلكه أى مؤسسة من قدرة وتنظيم وشرعية قانونية للتأثير على العقل المصرى الجمعى بطريقة ناعمة متسللة تراكمية.

تأتى فى المقدمة مؤسسات الفن والدراما المصرية فى العقود التالية لنصر أكتوبر، فلقد أنتجت تلك المؤسسات أعمالًا درامية كبرى دشنت لشيطنة التاريخ المصرى القديم، وتكريس السردية الصهيونية التى نقلتها كتب التراث الإسلامى. قدموا شخصيات تاريخية مصرية حقيقية بالأسماء على أنها شخصيات كافرة طاغية حاربت الأنبياء والرسل السماوية، وكان رمسيس الثانى أكثر من تم استهدافه، كما تم تقديم إخناتون كأول موحد بما يشوه ما سبقه من تاريخ وملوك، أربعة عقود كرست فى العقل المصرى الجمعى لفكرة وثنية وكفر مصر القديمة. 

تأتى المؤسسات الدينية كتفًا بكتف بجوار مؤسسات الفنون فى نفس العقود بوقوعها فى غرام نفس السردية الصهيونية، أصبحت قصة فرعون موسى- كما أوردها التراث الغارق فى تلك السردية- هى أحب خطاب دينى لرجال تلك المؤسسات فى مصر لعقود طويلة، ويا ليتهم التزموا بما ورد فى القرآن الكريم واكتفوا به!. 

تيارات سياسية يسارية كانت أسيرة فكرة تعبوية أخرى تعارض فكرة انتماء المصريين لحضارتهم القديمة، فداهنوا الخطاب السياسى المتأسلم وتجاهلوا الحضارة المصرية القديمة وعملوا على بتر المصريين من هذا الانتماء. حتى لو لم يتبنوا الخطاب التكفيرى لتلك الحضارة القديمة، فلقد تركوا مهمة سلخ المصريين عنها لرفقائهم من تيار الجماعات المتأسلمة. 

فى هذه الأيام التى ينتفض خلالها المصريون انتصارًا لحضارتهم الأصيلة وهويتهم التاريخية، أصيب أنصار تكفير تلك الحضارة من التيار المتأسلم بالهياج الشديد، أطلقوا للمصريين تحذيراتٍ عبثية مثل التحذير من الافتتان بالمشهد الحالى والافتتان بحضارة وثنية وملبسها والتشبه بأهلها!.

فى الحقيقة لو جاز لنا القول بأن المصريين قد سقطوا فى فتنةٍ ما، فهم قد سقطوا فى فتنة تسليم قياد عقولهم لهؤلاء الذين ارتدوا مسوح الهداة! فالجهل المعرفى، والكسل عن بذل جهد البحث الواجب هو فتنة العقل الحقيقية. وإذا كان ترويج هذا الفكر من قبل أصحاب الأهداف هو كذب وخديعة كاملة، فإن سقوط بعض المصريين فى هذه الخديعة- بهذه السهولة عبر العقود الماضية- هو خطيئة هؤلاء المصريين، وهم مسؤلون عنها مسئولية تامة.. خطيئةٌ لمتعلمين، وبعضهم حاصل على درجات أكاديمية كبرى، رضوا بأن يقود عقولَهم أعداء صريحون أو جُهّال لم يقرأوا كتابًا ثقافيًا واحدًا أو رجلُ دين متعصب لتراث لم يتم تطهيره من السردية الصهيونية فيما يتعلق بتاريخ مصر. هؤلاء المصريون المتعلمون يرتكبون خطيئة وطنية وأخلاقية كبرى. خطيئة وطنية بتبنيهم وبنشرهم وترويجهم لأكذوبة تصب فى اتجاه التخديم على هدف ضرب القومية المصرية- التى يقوم عليها التماسك الوطنى- بدواع دينية. وخطيئةٌ أخلاقية بوضعهم انتماءَ مواطنيهم المصريين القومى المصرى فى مواجهة وصراع مع انتماء نفس المواطنين للدين الإسلامى. أو باختصار وضع حضارة وتاريخ وأصل مصر فى مواجهة الإسلام.

لو قام هؤلاء باحترام عقولهم أولًا، وقاموا بجهد البحث لعرفوا كيف نهل خلفاء المسلمين منذ عصر الخلافة الراشدة من نور حضارات جميع الأمم التى استولت على أراضيها جيوش المسلمين، ولعرفوا بوجه خاص كيف نهل هؤلاء الخلفاء من حضارة ونور مصر، وكيف لجأ هؤلاء الخلفاء لعلماء وأطباء ومهندسى وكتاب وصناع مصر لتشييد ما يسمى بالحضارة الإسلامية. 

لو قام المصريون بالبحث العلمى المجرد لعرفوا أن مجمل تاريخ مصر يزدان بقيم أخلاقية وعقائدية فاقت فى سموها ما مارسته حكومات وشعوب اعتنقت ما يعرف بالديانات السماوية. 

إن هؤلاء الذين يروجون كذبًا لوثنية مصر القديمة فى أكثريتهم مجرد طابورٍ خامس ليس أكثر يريدون تجريد المصريين من أقوى أسلحتهم وهو سلاح الهوية المصرية تمهيدًا لكسر مصر إما لصالح مشروع تفتيت مصر طائفيًا أو لصالح المشروع الصهيونى، فالاعتزاز بالانتماء للحضارة المصرية هو الذى يتفق عليه كل المصريين وهو الذى يوحد صفهم كأمة واحدة.

ليس على المصريين أن يختاروا بين دياناتهم وبين انتمائهم الحضارى، لأن هذا الانتماء لا يتطلب منهم أن يغيروا دياناتهم لصالح الديانة المصرية القديمة، الدين لا يواجه الحضارة المصرية القديمة أو يصارعها، لكن هذا الانتماء يتطلب إحياء لغة وثقافة هما بالفعل متجذران وموجودان فى آلاف الكلمات والممارسات اليومية الحياتية. 

يمارس المصريون كل يوم بعض إرثهم التاريخى بشكل تلقائى، المرأة الصعيدية التى تخبز الخبز الشمسى وتستخدم الإبرة فى عمل بعض الأشكال على كل رغيف خبز تمارس طقسًا مصريًا خالصًا. كثير من موالد مصر هى ممارسات مصرية قديمة واسألوا أهل الأقصر ومركب أبى الحجاج الأقصرى التى يحملها الدراويش والمريدون فى ذكرى مولده وعلاقة ذلك بعيد «الأوبت» المصرى القديم!. 

طقوس خضة الأطفال.. البخور.. التمائم.. أضرحة الأولياء والقديسين.. السمك المجفف المملح.. شم النسيم.. الكحك.. دُمى الأطفال.. التحطيب.. لعبة السيجا فى قرى صعيد مصر.. آلاف الكلمات الباقية فى قرى مصر.. طقوس زيارة الموتى فى السابع والأربعين.. يعجزنى حصر تلك الممارسات المصرية الباقية فى هذا الموضع، لكن هذه بعض الأمثلة. 

جاء الإسلام فلم يحرم كثيرًا من ممارسات العرب، وسكت عن بعضها وأقر بعضها الآخر.. فلماذا يريدون حرمان مصر من إرثها وطقوسها إلا أن يكون الهدف هو مصر ذاتها وليس انتصارًا لدينٍ هو لم ينكر على الآخرين ما يريدون إنكاره على مصر والمصريين؟! 

لم يحرم الإسلام ما ارتداه كفار مكة قبل الإسلام للذكور وكثيرٍ من ملابس النساء، رغم ما قام به كفار مكة من تنكيلٍ بالمسلمين الأوائل وعبادتهم الأصنام صراحة، فلماذا يريدون حرمان المصريين من الاعتزاز بأزيائهم القديمة؟! 

الأزياء والجلابيب التى يريدون فرضها على رجال مصر ارتداها المسلمون الأوائل، لكن أيضًا ارتداها كفار مكة وعبدة هبل واللات والعزى! لم يأتِ الإسلام بزى دينى، لكن كل أمة دخلت فى الإسلام بقيت معتزة بأرديتها القومية، فلماذا يريدون حرمان المصريين مما لم تُحرم منه أمة أخرى؟. 

آلات الموسيقى التى يدعون أنها إسلامية أكبر أكذوبة فنية فى التاريخ الإسلامى، الدف كان هو آلة الموسيقى الصحراوية فأبقاها الإسلام، فى حين ثبت أن صحابة وتابعين اقتنوا آلات موسيقية من شعوب أخرى أكثر حضارة، فلماذا يريدون حرمان المصريين من إرثهم الفنى الذى أهدوه للبشرية؟! لم تكن القصة أن هناك آلات موسيقى إسلامية وغيرها وثنية، إنما كان الفارق بين شعب ذى حضارة غنية فتية مكتظة بآلات موسيقية وشعب فقير حضاريًا!. 

يحذرون المصريين بأن من تشبه بقومٍ فهو منهم! من أوهمكم بأننا ننكر أننا منهم؟! نعم نحن من أسلافهم وننتمى إليهم ونفخر بهذا، ننتمى إليهم بملبسهم وفنونهم وعلومهم كما انتمى المسلمون العرب الأوائل لأسلافهم فبقوا يرتدون نفس ملابس هؤلاء الأسلاف ويستخدمون نفس موسيقاهم الصحراوية البدوية! 

لم يتبرأ المسلمون من إرث أسلافهم الكفار إلا فيما يخص المعتقد، وظلوا يتفاخرون بأنسابهم الوثنية حتى بعد الإسلام، فلماذا يحاول البعض اليوم أن ينكر على المصريين ما يتفاخر به باقى الشعوب؟!. 

إن كان يغضبنى كل ذلك، فإنه قد أغضبنى وساءنى بقدر ربما أكبر أن يتطوع رجل دين رسمى ينتمى لمؤسسة دينية رسمية بأن يفتى للمصريين بأن التشبه بأزياء المصريين القدماء جائز شرعًا! 

عفوًا فنحن لسنا فى انتظار فتوى دينية فيما يخص هويتنا وانتمائنا، نحن لا ننتظر المنح أو المنع، بمنطق أن من يملك شرعية المنح فهو يملك أيضًا شرعية المنع والتحريم، بأن نتمسك بهويتنا أو ننكرها! لا تدسوا أنوفكم فيما يخص هويتنا القومية، وإلا فعليكم إصدار فتاوى مماثلة تخص ارتداء الجلباب الذى ارتداه كفار مكة قبل الإسلام، لكننى لا أظنكم تجرؤون على ذلك! نحن أيضًا نرفض تدخل رجال الدين فى خديعة سلخ المصريين من هويتهم! لقد اكتشفنا الخديعة ولسنا فى انتظار رأى رجال الدين! المصريون القدماء هم سلفنا الصالح، ننتمى إليهم إلى يوم أن تقوم الساعة! ننتمى إلى علومهم وفنونهم وأخلاقهم وشرفهم وخصالهم ونتغنى بهذا الانتماء!. 

من مساوئ المشهد الثقافى المصرى من يسمون أنفسهم الكتاب الإسلاميين نساءً أو رجالًا. فقاعة ثقافية فى سماء الفكر المصرى المعاصر، فقاعة فارغة لا تحوى علمًا أو فكرًا أو معرفة. مجرد أدوات مستخدمة يستخدمها كل من يستهدف شق الصف الوطنى المصرى وتمتطيها كل جماعة مارقة، أطلت إحداهن على المصريين ببعض جهلها فى محاولة بائسة لإفساد عرس المصريين واحتفائهم بهويتهم الحقيقية. فضحت جهلها وكشفت عن خوائها. ظلت هذه المرأة تحظى بمكانة لا شرعية لها، سوى أنها تطنطن لأفكار مهاجمة هوية المصريين، تقول فى عباراتها الساقطة إن الحضارة الحقيقية لم تعرفها مصر إلا بعد دخول عمرو بن العاص أرضها قاصدة الغزو العربى!. 

حديثٌ لا يصدر عن طفل قرأ كتابًا واحدًا عن تاريخ مصر. صادف قراءتى لما كتبتَه مع وجودى مع مجموعة إنجليزية بها طفلٌ لم يتجاوز الثلاثة عشر عامًا. وأنا أقرأ جهل من يطلقون عليها كاتبة إسلامية، كنت أسمع من الطفل الإنجليزى عباراتٍ عما درسه وقرأه عن حضارة مصر القديمة من عمارة وفنون!.

كيف ربض أمثال هذه الجاهلة على أنفاس الثقافة المصرية تلك العقود؟! هؤلاء ليسوا منا، إنما يمثلون ثقافة أخرى غير مصرية، وصلوا فى غفلة من التاريخ إلى الصفوف الأولى من نخبة الكتابة والفكر فى مصر ليضللوا عقول المصريين. 

مثلها مثل بعض من سيطروا فى نفس العقود على بعض إدارات التعليم المصرى وصياغة المناهج لأبنائنا، ومثل الذين سيطروا على المؤسسات الدينية فخاصمت تلك المؤسسات- لما يقرب من نصف قرن- شخصية مصر وصفحاتها المضيئة حتى اقتحم عبدالفتاح السيسى بجرأة سيسجلها له التاريخ عقل تلك المؤسسات ونفض عنا آثار غبارها وضبابها!.