الجمعة 19 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

آلام المثقفين.. همومنا بعيدًا عن «لقمة العيش»

حرف

آلام المثقفين فى مصر موضوع شائك ومتشعب، يتناوله الكثير من المفكرين والكُتاب. كتب عنها الفيلسوف المعروف زكى نجيب محمود، أحد أبرز فلاسفة العرب فى القرن العشرين، فى كتابه «هموم المثقفين» عن ضرورة أن يكون المثقف ملتزمًا بقضايا مجتمعه، بعيدًا عن الانعزال فى البرج العاجى. 

المثقف المصرى أصبح يواجه تحديات فى التواصل مع قضايا المجتمع الحقيقية، بدلًا من الانشغال بالرفاهية الثقافية. لأنه يحاول أن يسعى لفهم الواقع وتحليله، ويعمل على إثراء الفكر والثقافة بدلًا من مجرد إرضاء القارئ.

لا أقصد هموم المثقفين المعيشية، فهذا موضوع آخر ربما تتناوله فى مقال آخر، ولكن سأتحدث عن همومهم مع الكتابة، ومع مؤسسات الدولة الثقافية. 

هموم المثقفين عبارة عن مزيج من المعاناة الشخصية مثل الاغتراب، والشعور بالمسئولية، وصدمات الماضى والأزمات المجتمعية التى يتأثر بها، وهناك وجع آخر يتمثل فى الشعور بالعجز تجاه بعض قضايا الأمة، والتى منها الصدام مع النخبوية، وصعوبة التغيير، بالإضافة إلى تحديات التعبير عن الذات فى بيئة قد لا تستجيب للفكر العميق، وتتجسد فى أزمات مثل غياب دورهم فى التنوير أو تضرر مؤسساتهم الثقافية، وكلها تحديات تجعل المثقف جزءًا لا يتجزأ من آلام مجتمعه لا منفصلًا عنها.

أوجاع الشخص المثقف تكمن فى عدم القدرة على تقبل نقائص الحياة، وتأمل اللحظات القصيرة للدهشة بكل تعقيداتها وأحلامها وخيبات أملها، الحياة التى تتوقع أن صاحب الثقافة هو حصان طروادة.. المُنقذ والمُتهم فى نفس الوقت.. الذى يعول عليه للتغيير وصناعة التحولات الكبرى. 

فى مصر ورثت الحكومة بعض المؤسسات الثقافية التى كانت فى السابق مؤسسات لنشر الثقافة والفكر اليسارى فى عصرى جمال عبدالناصر والسادات. أما الآن فقد تضاءل دور مؤسسات الدولة ، وهى مؤسسات ضخمة وقادرة على إحداث الزخم الثقافى وتنشيط الأفكار التى تبنى مصر فى أى وقت.

يحب المبدع دائمًا أن يكون فى موضع اهتمام أجهزة الإعلام والتواصل الاجتماعى والندوات. ويعتبر معرض الكتاب فرصة مثالية لكل الأدباء والمثقفين سواء لاقتناء الكتب أو حضور الندوات أو التواصل مع زملائه المبدعين.

كما أن ندوات معرض القاهرة للكتاب هى نفسها كل عام، لم يتغير فيها شىء، وكنا نتوقع أن تقوم الإدارة بتجديد دماء الثقافة، وضخ دماء جديدة فى رجالها، لكن الوضع كما هو، نفس الوجوه التى اعتادت الجلوس على منصات الندوات، ولو فحصت الأمر جيدًا فستجد أنهم من أصدقاء وأقارب وشلل القائمين على أمر تلك الندوات ولا جديد. 

من ناحية أخرى فإن عضوية المجلس الأعلى للثقافة، بلجانه المختلفة أصبحت حكرًا على مجموعة معينة لم تتغير. كما أن الترشيحات لعضوية تلك اللجان أصبحت شللية مطلقة، ولا مجال لعضوية المجلس لأى مبدع يحترم نفسه ويقف بعيدًا عن الشللية أو تبادل المنفعة مع زميل له فى موقع آخر . روى أحد الأصدقاء على صفحته، وقرأها كل أصدقائنا، وأنا أثق فى روايته وأثق فيه، أن أحد أصدقائه عرض عليه عضوية لجنة من لجان المجلس وهى لجنة الشعر، ولم يطلب منه سيرة ذاتية، ولما استنكر صديقنا تلك الطريقة الفجة فى العرض، أخبره الصديق بأنه رشح خمسة آخرين لعضوية لجان المجلس وللجنة الشعر، ويقول الصديق إن الغريب أن ترشيحاته صدقت وتم اختيار أربعة من الخمسة الذين رشحهم هذا الصديق فى لجنة الشعر وبعضهم لا يمت للشعر بأى صلة.

أما التليفزيون المصرى فيتعامل مع المثقفين بمكيالين، فى حين يتمتع ضيوف البرامج الرياضية والغنائية والفنية بأجور عالية تحسب بالدقائق، فإن ضيوف القنوات والبرامج الثقافية لا يحصلون على أى مقابل ولو أجر التاكسى الذى ينقلهم إلى ماسبيرو، وهو ما جعل البرامج الثقافية مُعادة ومكررة لنفس الضيوف، يتكررون كل فترة يقولون نفس الكلام ما جعل تلك البرامج لا يقبل عليها أحد. وما لم تكن المذيعة جميلة فلن يشاهد أحد تلك البرامج.

نأتى لجوائز الدولة التى هى حلم لكل كاتب أو مبدع مصرى سواء كان فى أول السلم أو فى آخره، فكل المبدعين المصريين يطمعون فى الوصول لتلك الجائزة الرفيعة، ولكن! 

لكى يصل المبدع إلى تلك الجائزة، يجب أن تقوم بترشيحه هيئة من الهيئات أو المؤسسات الثقافية أو أقسام كليات الآداب فى الجامعات المصرية. غير أن الكثير من تلك المؤسسات يتم تشكيل مجالس إداراتها بالانتخاب، وبالتالى يتعين على عضو مجلس الإدارة أن يجامل من انتخبوه، وليس سرًا أن الكثير من المبدعين يلاحقون أعضاء مجالس إدارات تلك الهيئات بالاتصالات أثناء جلسات التصويت على الترشيح لجوائز الدولة، ويتم طرح أسماء الأصدقاء والمحاسيب ويتم التصويت بطريقة «انتخب مرشحى وأنتخب مرشحك»، ويفوز بالترشيح من كان له نصيب أكثر من الشللية والتربيطات وكثرة الاتصالات، ومدى قدرته على الإلحاح. 

وفى نفس ما يحدث عند التصويت فى لجان المجلس الأعلى للثقافة على الفائزين بتلك الجوائز. وفى النهاية تصل أغلب الجوائز لمن لا يستحقها.

آن الأوان أن تعيد الدولة ووزارة الثقافة النظر فى طريقة ترشيح المبدعين لجوائز الدولة التى حق لكل المبدعين طالما أثروا مجتمعهم بإبداعهم وفنونهم. 

كما يجب أن نذكر بأن هموم وصراعات الهوية والأيديولوجيات المجتمعية تشكل ضغوطًا على المثقف، ما يتطلب منه فك هذه الاشتباكات بطرق فكرية هادئة فى النهاية، المثقف المصرى بحاجة إلى أن يكون ضميرًا مستنيرًا كما قال سارتر، ملتزمًا بقضايا مجتمعه وأمته، وأن يعمل على إحداث تغيير حقيقى من خلال أفكاره وأعماله.