الأربعاء 30 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ربـــاب فوق جبل يشكر.. السقوط فى حب رواية!

حرف

شهدت الرواية العربية الحديثة، فى الأيام الأخيرة، صعودًا ملحوظًا لما يعرف بالرواية النسوية. وهو ذلك الصعود الذى واكب الرواية العربية عمومًا، لأسباب ربما تعدد المجالات أمام المرأة للعمل والخروج، وتوفر وسائل التثقيف الذاتى من تليفزيون وإنترنت، فضلًا عن سهولة النشر، لم يقدم النقاد مواكبة حقيقية لهذا الكم من الإنتاج المتميز، كما لم يفسروا صعود هذا النوع من البوح الأنثوى المتميز، أو هذا الصعود والتألق للرواية العربية عمومًا، والرواية النسوية على وجه الخصوص. وذلك تماهيًا مع دور المرأة فى المجتمع، من خلال الحياة الاجتماعية والثقافية، ومع أن الأدب النسوى ظل محاطًا بنوع غامض من التمييز. 

تمكن الأدب، المنسوب للنساء، من التخلص من السيطرة الذكورية على المشهد الروائى، وهو ذلك النوع من الفكر الذى يرى أن المرأة تابعة للرجل، ولا يجب أن تتخطاه. وظل هذا الفكر سائدًا منذ فجر الرواية النسوية الأول على يد زينب فواز. وقوت القلوب الدمرداشية ومى زيادة، حتى وصلنا إلى كتابات رباب كساب ونورا ناجى وهالة البدرى وأمينة زيدان وصفاء عبدالمنعم وسلوى بكر وعزة رشاد ورضوى عاشور وريم بسيونى وميرال الطحاوى ومى التلمسانى ونهلة كرم ومنى الشيمى وصفاء النجار وانتصار عبدالمنعم وسحر الموجى. 

وقد حاول النقد فى عديد من الدراسات أن يدرج تلك الكتابات فى عداد كتابات المتعة، بما فيها من خروج عن الأعراف، والدخول فى مناطق محرمة.

ونعود إلى رباب كساب وروايتها الجميلة على جبل يشكر، تحاول الكاتبة، أن تنقلنا، انتقالًا سلسًا وناعمًا، إلى الهبوط على جبل يشكر، حيث الأجواء التاريخية الحقيقية، لبعض الأماكن الأثرية فى القاهرة القديمة، ومنها البيوت القديمة التى نقلتنا إليها الكاتبة ببراعة هائلة، دون أن نشعر أننا نتخطى الواقع، إلى عالم الخيال والجن الذى يعاشر ساكنات البيت القديم الجميلات.

أسلوب السرد، وحبكة الرواية، والقدرة على التعبير، وصف الشخصيات والتعبير عنها، كلها عوامل جذب ساعدتنى على المضى فى القراءة، وسرعة الانتهاء منها فى يومين، وهو زمن أعتبره يسيرًا جدًا. حيث أقرأ ببطء وتركيز واستيعاب، وتركتنى الرواية مرتبطًا بشخصياتها وأبطالها، مفكرًا فيما آلت إليها مصائرهم.

لم تكن لدىّ أى فكرة عن بيت الكريتلية، قبل أن أقرأ عنه فى رواية رباب، كما لم يكن يدور بخلد كل من عبدالقادر الحداد، والحاج محمد سالم الجزار، اللذين اشتركا فى تشييد البيتين المتجاورين، أن يؤول البيت إلى رجل إنجليزى، هو جاير أندرسون، وهو بريطانى عاش فى مصر أيام الاحتلال واعتنى بالبيت ثم صار أثرًا، وبعدها أصبح يُكتب فى الروايات والقصص، وكان للكاتبة رباب كساب شرف تعريفنا بهذا الأثر من خلال روايتها التى نحن بصددها. 

وظل هذا البيت موضعًا لحكايات الأساطير والخرافات التى رواها الخادم العجوز الذى كان يعمل لدى الرجل البريطانى، ويدعى سليمان الكريتلى الذى وهب نفسه لخدمة ضريح «سيدى هارون الحسينى» كما يطلق عليه هناك، وأصبح الرجلان أصدقاء وقام سليمان بحكى الكثير من القصص الشيقة، والتى أغلبها كاذب وغير حقيقى لجاير الإنجليزى، الذى دونها فى مذكراته، حيث حكى قصة سيدنا إبراهيم وذبح سيدنا إسماعيل مدعيًا حدوثها على جبل يشكر فى موضع البيت، كما ادعى أن هذا الجبل هو الجبل الذى كلم الله موسى عليه السلام فوقه ولكن لم تخل الحكايات من حكايات طريفة كذلك.

غرقت فى الرواية بالكامل لدرجة أننى بعد الانتهاء منها بيوم ضبطت نفسى أفكر فى مصائر بعض أبطالها، الذين ارتبطت بهم، حتى الشخصيات الهامشية.

تجلت براعة الكاتبة فى خلط الماضى بالحاضر، وقدمت معلومات تاريخية امتزجت بالخيال، عن بيت الكريتلية، الأثر التاريخى المعروف، إلى الحد الذى شككت فيه أنه بالفعل كان ملكًا لجدها، تجولت الكاتبة بقلمها الرشيق بين الأساطير التى ترددت عن البيت، وبين الواقع الذى تعيش فيه شخصياتها. وتتبع مصائر الشخصيات التى ارتبطت بشكل ما بالبيت، وبشكل أساسى شخصيتين نسائيتين فى جيلين مختلفين لكن بينهما روابط وتشابهات كبيرة نكتشف مدى عمقها تدريجيًا.

نجد أنفسنا مع شخصية «راقية» صانعة الحكايات والأساطير، وإمكاناتها التى لا تنتهى فى الحكى، وقدرتها الهائلة على خلق حالة أسطورية مبنية على الخيال.. أو الفضاء الذى تحلق فيه.

تأثرت الكاتبة بثورة يناير ٢٠١١ ، وأيامها فى ميدان التحرير، باعتباره حدثا مهما كان معاصرًا للفترة الزمنية التى تدور بها أحداث الرواية، دون أن تتكئ على تلك الأحداث، وتقع فى فخ المباشرة والتقريرية، ولكنها تجاوزت الحدث بقدرتها على نسج خيالها حول الأماكن والوقائع والأحداث التى تعالجها. 

عالجت الرواية الأفكار المتداولة عن الجن والقرين، ووظفتها بطريقة رائعة وجمالية راقية.

تقول «عشقت العالم الآخر من خالتى، كما احترفت رؤية الغيب على جدران فناجين القهوة من أمى وعمتى، حملت على كاهلى حكاياتهم دون النظر لحكايتى، يوم أن صارت لى حكاية أهملتها وتعلقت بأهداب ماضينا البعيد، حكايات أهلى الغريبة، ذهبت لأسكن وحدى إلى جوار البيت، بيت عائلتنا الذى لم يعد لنا.»

فاجأتنى نصوصها فى الرواية بقدرة الكاتبة العميقة على التحليل الرصين، لمرحلة عمرية انقضت منذ وقت بعيد، وقدرتها على استحضار هفوات إنسانية من مراحل موغلة فى النسيان، تلك المرحلة التى مرت بكل أنثى، وعبرت بها إلى أنوثتها، ولكنها لم تعبرها بجسدها فقط، فالتصقت بروحها، وظلت عالقة بها حتى اجتازت كل مراحل النمو البشرى، وأصبحت سيدة ناضجة، وابتعدت عن تلك الفترة بتوتراتها وعصبيتها وجنونها، ولكن تلك الذكريات ظلت عالقة بها، فكتبتها عنها رباب باقتدار وتمكن. 

كتبت رباب عن اللحظة الفارقة بين طفولة متمردة، وأنوثة ناعمة، تمامًا كحالات العبور من هدوء البرزخ الضيق من الرحم إلى الحياة الصاخبة بحلوها ومرها، إنها حالة تستعصى على التعبير والكتابة لدى الكثيرين. 

الواقع أن قدرة الكاتبة على بناء النص، واستحضار الألفاظ المناسبة لبنائه، تناغمت تمامًا مع المعنى المقصود الذى قصدت أن تكتبه. وشيدت بكلماتها وألفاظها صرحًا روائيًا، شاهق الارتفاع لعمل فنى رفيع المستوى. لا يوجد لفظ أو كلمة زيادة أو نقصان، وأدت الألفاظ والكلمات دورها تمامًا، باقتدار وحرفية.

الكاتبة أدارت حواراتها الداخلية مع ذاتها باقتدار. كان حوارًا ذكيًا. لم يدخلها إلى العيوب التقريرية التى تنتاب بعض كاتبات الرواية الأنثوية، كان الحوار متفقًا مع المستوى الذهنى والثقافى، للشخصية التى تعالجها، ويكشف عن قدرة راقية للكاتبة، فى التعامل مع المشاعر الإنسانية. 

وهو ما يجعلنا نتفق مع المنطق الذى يطرحه العالم النفسى العلامة فرويد «من أن الفن هو منطقة وسيطة بين عالم الواقع الذى يحبط الرغبات، وعالم الخيال الذى يحققها».

عالم الخيال الذى يعنيه فرويد هو مستودع تم تكوينه أثناء عملية الانتقال المؤلمة من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، ومن أجل القيام بعملية تعويض، أى أن الأعمال الفنية، بما فيها الكتابة هى إشباعات خيالية للرغبات الشعورية. 

تحية لكاتبتنا الرائعة على روايتها البالغة الإتقان، والمشبعة بعبق اللهجة المصرية المحببة. 

وعلى الإجمال تشهد نصوص الكاتبة رباب كساب تحديًا للقارئ والناقد معًا، يتطلب جهدًا لهضم تلك النصوص، لأنها لا تعطى نفسها لقارئها دفعة واحدة من القراءة الأولى، بل يتطلب الأمر. لمزيد من الوعى بقيمة العمل، قراءة أخرى، متأنية حتى يتوقف القارئ على الرؤى العديدة والدلالات التى يطرحها. 

ولا شك أن إحساس الكاتبة بمدى مسئوليتها الفنية والإبداعية، كانت وراء الدافع إلى سلوكها لهذا النهج من الكتابة، السهل الممتنع. البسيط فى مظهره اللفظى واللغوى، والبالغ الصلابة والعمق، فى داخل بنيانه الأدبى.

إنه النص الذى لا يتعامل معه القارئ بشفرة واحدة أو مفتاح واحد، ولكنه يحتاج إلى تأويل وفك الشفرات، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال القراءات المتعددة للنص الواحد.

إنها الكتابة الأكثر ديناميكية، والأكثر جرأة، فى التعامل مع التجربة الواقعية، وفى التغلب على معضلة الكتابة الأنثوية بمفرداتها الحميمة، والتى ما زالت الثقافة العربية تعانى من سلبياتها، وإحراجاتها، واتهاماتها لكاتباتها بالمروق والتمرد. 

تحية للكاتبة المحترمة التى أهدتنا رواية متميزة، بكل دلالاتهما الموحية والمعبرة، وفى انتظار المزيد من الأعمال الإبداعية الأخرى.