أولياء وأدعياء..
الصوفى والقصر.. أول رواية عن «السيد البدوى» الحقيقة بلا خرافات ولا مبالغات
- الرواية تسجل رحلة «الولىّ المقاتل» من جبال مكة إلى سطوح طنطا
- صاحب الرواية هو د. أحمد رفيق عوض المثقف الفلسطينى البارز الذى شغل مناصب مهمة فى وزارتى الثقافة والإعلام الفلسطينيتين
- كان الذهاب إلى طنطا قرارًا شبيها بالإلهام فقد شعر الشيخ أحمد بحماس فى بدنه وهو يَعُدُّ الخطى فى تلك الحقول العامرة لمشاهدة هذه القرية التى اختارها دون القاهرة
- أصحاب الممارسات غير السوية فى الموالد «سلفيون مندسون» أو غير تابعين للصوفية
فى سيرة سيدى أحمد البدوى، كما فى كل سير أكابر الصوفية، تختلط الحقائق بالخرافات، والوقائع بالأساطير، والأحداث بالكرامات، فلا تعرف فيها حقيقة من خيال، ولا منطقًا من وهم، وتتحول سيرة الولى إلى أسطورة لا تخضع لقواعد العلم والتاريخ، ومن هنا تأتى أهمية تلك الرواية التاريخية البديعة التى قرر مؤلفها أن يقدم فيها سيرة شيخ العرب.. سيرته الحقيقية لا الخرافية!
الرواية الصادرة مؤخرًا عنوانها «الصوفى والقصر.. سيرة ممكنة للسيد البدوى» ومؤلفها هو د. أحمد رفيق عوض، المثقف الفلسطينى البارز والذى شغل مناصب مهمة فى وزارتى الثقافة والإعلام الفلسطينيتين، وترجمت أعماله الروائية إلى لغات عالمية، وحصل على جائزة الملك عبدالله الثانى للإبداع الروائى فى الأردن عام ٢٠٠٣، وتميز برواياته ذات الطابع التاريخى ومن أهمها «القرمطى» و«عكا والملوك» و«بلاد البحر».

فى روايته الجديدة، وفى صفحتها الأولى، يصارحنا د. أحمد رفيق عوض- الحاصل على درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية- أنه يقدم سيرة مغايرة لهذا الصوفى الشهير الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، فاختلفوا فيه وعليه: «قيل عن السيد البدوى كل المتناقضات، فقد ذُكر أنه شيعى، وأنه سنى، وقيل إنه متصوف، وقيل إنه تستر بالتصوف، وقيل إنه من آل البيت، وقيل إنه ليس كذلك، وقيل إنه داعية، وقيل إنه صاحب دعوة سياسية، وقيل إنه رجل، وقيل إنه امرأة، وقيل إنه موجود، وقيل إنه لم يكن موجودًا أصلًا.. هذا كله، مع أن سيرته لا تتعدى فقرات متناثرة فى الكتب.. هنا، حكاية أخرى تجاور وتحاور الحكايات السابقة.. لا أحد يكتفى أو يقنع بالتاريخ، كما وقع على وجه الحقيقة.. الواقع ذاته لا يكفى».
نحن إذن أمام سيرة مغايرة للسيد البدوى، يبدأها مؤلفها منذ أن بلغ الرجل الأربعين من عمره، ناسكًا متعبدًا منقطعًا للذكر وحيدًا فى مغارة معتمة بجبل أبى قبيس على أطراف مكة المكرمة، أحب بلاد الله إلى الله ورسوله، البلد الحرام الذى جاءه صبيًا مهاجرًا مع أسرته من مدينة فاس المغربية.. إلى أن ينتهى به المقام فوق سطح داره بقرية صغيرة مجهولة فى قلب دلتا مصر، سرعان ما حوّلها إلى مدينة عامرة وقبلة لمحبيه وزواره وواحدة من أشهر المراكز الروحية فى العالم، رقق المصريون اسمها من «طنطدة» إلى «طنطا»!

كان أحمد بن على بن يحيى ينتمى إلى أسرة من الأشراف، إذ يمتد نسبه إلى مولانا الحسين، وفى مكة التى اختارها والده مستقرًا لم يبق له الموت سوى شقيقته فاطمة وشقيقه حسن التاجر المجتهد، الذى لم يكن فقط هو كافله وراعيه نفقة ومعاشًا، بل كان كذلك شيخه الأول فى طريقه إلى الله، وعلى يديه أخذ خرقة التصوف.. وعلى دربه سار سنيًا شافعيًا.. ورفاعيًا قادريًا نسبة إلى الوليين أحمد الرفاعى وعبدالقادر الجيلانى.
تقدم الرواية وصفًا تفصيليًا لشخصية البدوى، شكلًا وفكرًا، فقد كان قوى البنية أعطاه الله بسطة فى الجسم، ثم إن له «وجه عريض مبقع ببثور جدرى قديم وبشامتين على أنفه وجرح بين عينيه، ولولا عيناه القويتان والثاقبتان لكان وجهًا من تلك الوجوه التى لا تترك أثرًا».. قوة الجسد جعلت منه فارسًا لا يشق له غبار، وذاع صيته كمحارب شرس فى جيش الأمير حسن ومعاركه للاستحواذ على الحكم فى مكة وصراعه مع شقيقه راجح، واشتهر البدوى بقدرته على أن يبارز بسيفين فى وقت واحد..

لكنه سرعان ما أدرك أنه ما خُلق إلا للحب ولذكر الله، تحكى الرواية: ما إن انتهت فتنة القتال بين الشقيقين الأميرين حسن وراجح اعتزل أحمد الناس جميعًا، قال له شيخه برى إن عليه أن يغتسل، فلما اغتسل رجع إليه وقال: لقد اغتسلت يا شيخى، تبسم الشيخ الذى بدأت عيناه فى الغياب: ما هذا قصدت يا بنى.. اغسل قلبك.. اغسل يديك.. اغسلهما بالدموع. قال أحمد علمنى يا شيخ. قال الشيخ: أن تقول ذلك وأن تسألنى.. يعنى كأنك تقول أريد أن أقلدك.. لا تقلد حبى.. اصنع حبك بيديك أو بعينيك أو بقلبك.. أو بكل ذلك».
أصبحت حياة البدوى بعدها رحلة للبحث عن الله، فهرب من مكة أمام إلحاح أميرها الجديد ليضمه إلى جيشه، قرر أن يخلى قلبه من شهوات الدنيا وصراعاتها وألا يكون فى قلبه مكان إلا لله، وأن يقضى وقته مأخوذًا بذكره لا يشغله سواه، وبدأت نفحات الله وكراماته تهطل عليه، وبدأت الأسرار العلوية تتفتح له، وهو ما أدركه فى تلك الرؤية التى تجلت له فى ذلك الخان الصغير بقلعة الكرك الذى نزل فيه على أبواب مدينة الله التى بارك فيها وحولها.. القدس!
تحكى الرواية عن تلك الرؤية الفارقة فى مسيرة البدوى: «فى تلك الليلة نام أحمد كما لم ينم من قبل، ورأى فى منامه مشايخه جميعًا، كانوا يبتسمون له، وفى منامه رأى حقول تين وزيتون كثيرة، ورأى أنه حبة زيتون كبيرة جدًا، وأنه تم هرسه حتى صار زيتًا صافيًا ومشعًا، وأنه انتقل إلى سراج ذى قاعدة فضية دائرية، وأنه أضاء أرجاء القلعة، ولما استيقظ لصلاة الفجر فوجئ بأن الزيت يغطى كفه، يا إلهى، يا إلهى، أنا أضعف من الاختبار، يا إلهى العظيم أعطنى قوة الفرح وقوة الكتمان معًا، يا ربى امنحنى قدرة الاحتفاظ بالأسرار والهدايا اللطيفة، يا إلهى أعوذ بك من أن يلعب بقلبى الشيطان أو ينتابنى الغرور أو الخيلاء والعجب، يا رب اجعلنى مثل تراب الطريق، اجعلنى من مجاهيل الناس ومحاويجهم لأبقى معلقًا بذكرك وباسمك وبجلالك.. اغرورقت عيناه بالدموع وهو يمسح وجهه بالزيت الذى اكتشف أن له رائحة كثيفة ومحببة»

وفى الكرك وجد نفسه محاصرًا بجيوش الفرنجة وطريقه مقطوع إلى الشام، ووجد نفسه جنديًا فى جيش الملك الناصر، ويدخل معه القدس فاتحًا ومحررًا وظافرًا، ليغسل مسجدى القبة والصخرة بماء الورد مثلما فعل جده الناصر صلاح الدين، ويذيع صيت البدوى ويحكى الناس عن كرامات الولى المقاتل.
لكن البدوى يهرب من المفتونين به، ويفر من الشهرة التى تسعى إليه رغمًا عنه: «لا أريد الشهرة، حفظ السر مع الله منتهى اللذة، كل ما أريده هو أن أفر بقلبى فى شعب الجبال، كل ما أريده من دنياى مغارة».. من القدس إلى دمشق.. ومنها إلى العراق، وقبل أن يصل إلى بغداد كان صيته قد وصلها، وراح الناس يتداولون ويزيدون فى قصة قطاع الطرق الذين هاجموا قافلة البدوى ونهبوها وأخذوه أسيرًا بين من أخذوا من الأسرى، وفى مغارة اللصوص ينجح فى أن يهديهم ويحولهم من مجرمين عتاة إلى تائبين منيبين، وأن ينزع من قلوبهم القسوة ويبذر فيها المحبة والرحمة..
ذهب البدوى إلى العراق وقطع كل هذه المسافات وتعرّض لكل هذه المخاطر من أجل أن يزور مقام شيخيه: الرفاعى والجيلانى، ويورد المؤلف ذلك الحوار البديع بين البدوى والجيلانى الذى كان قد رحل قبلها بنحو سبعين سنة، وجاء لمريده فى المنام، وفى رؤية كاشفة: «زاره الشيخ عبدالقادر الجيلانى فى المنام، جاء بقامته الطويلة الفارعة، والمعنى الحازم فى عينيه وعلى وجهه. سأل الشيخ عبدالقادر: لماذا جئت تزورنا يا أحمد؟ قال الشيخ أحمد: كل ما نفعله بأمر، نفهمه أو لا نفهمه؟ قال الشيخ عبدالقادر: أفررت؟

• نعم، فررت، لا عن خشية بل عن تعفف وترفع.
• فماذا تريد؟
• العلم
• إدراك العلم مكابدة، لا شىء غيرها.
• علمنى يا شيخى
• طريقنا الكتاب والسنة، وسُداها ولحمها الإخلاص والمحبة والصدق والثبات
• زدنى
• المحبة.. المحبة.. فإنها منجاة
• ولكنى لا أجيد الكلام
• كنت لا أتقن العربية عندما جئت بغداد ولكن الله فتح لى
• ولكنى أوثر السلامة
• طريقنا شاقة فتزود
• ولكنى لم أتقن من الدنيا سوى الحرب
• أنت محارب إذن؟ أما أنا فلم أكن كذلك. حارب حيث تقدر
• ولكن الناس يتقولون علىّ ويسندون إلىّ ما لم أفعل
• احرص على قلبك، إذا مال للناس أو استمالهم. اجعل قلبك قالبك
• ولكنك قرأت وكتبت أما أنا فلا
• أنت يا أحمد كتابك خطابك، وحروفك سلوكك، وعلومك فتوحك

وفى العراق كان اللقاء الذى نسج مريدو البدوى ودراويشه حوله الأساطير، وهو لقاؤه بأجمل نساء زمانها وأغناهن فاطمة بنت برى، كانت مضرب الأمثال فى الجمال والفتنة، ولم يصمد رجل فى اختبار غوايتها، لا غنى ولا ولىّ، إلى أن كان اللقاء مع البدوى، وحده الذى نجى من اختبار الغواية، ووحده الذى هزمها وفتح قلبها على الله «جعل الله لك آية فى وجهك فاقرأيها بقلبك».
وجاءته الإشارات بالتوجه إلى مصر، وفى طريقه إلى المحروسة كانت رحلته الأخيرة الأشد هولًا، ووجد نفسه أسيرًا مقيدًا فى قبو مظلم أشبه بالجحيم مع آخرين أوقعهم حظهم فى قبضة جنود الفرنجة فى نابلس، وبعد أسابيع من العذاب حررهم جنود الملك الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر، ومن جديد يجد البدوى نفسه جنديًا فى جيش الملك الصالح، بعدما رأى أنه جيش الحق وحامى الإسلام وأرضه فى مواجهة أطماع الفرنجة ومؤامرات الخونة من الحكام العرب المتواطئين معهم، ويحقق جيش مصر انتصارًا ساحقًا على الجيوش التى جاءت لتحتل مصر فى معركة الحربية، ومن جديد يهرب الولى المقاتل من «الفتنة» ومن أحاديث الناس عن كراماته فى المعركة!

فى بلبيس يقرر البدوى أن يسير وراء قلبه، ويغير مسار رحلته من الجنوب حيث القاهرة العامرة إلى الغرب حيث «طنطده»، تلك القرية المجهولة التى قرر البدوى أن يستقر بها.. وتكون مثواه الأخير!
فى طنطا كانت سيرة البدوى قد سبقته، فأكرموه واستضافوه وفتحوا له بيوتهم وقلوبهم، وأصر ركن الدين التاجر الطنطاوى أن يسكن الشيخ فى بيته، واختار الشيخ أن تكون إقامته فوق سطح البيت.. وسرعان ما ذاع صيت البدوى وتجاوز حدود طنطا، وتوافد الناس على بيته، فكان يطل عليهم من فوق السطح يخطب فيهم ويسمع منهم وينصح لهم ويعظ.
ويغادر الشيخ سطحه متوجهًا إلى المنصورة مع حشد من أتباعه لينضموا إلى جيش مصر الذى خرج لرد جيش لويس التاسع ملك فرنسا الذى احتل دمياط، وفى معركة المنصورة تتجلى كرامات الشيخ، فقد حدث أن تسلل جنود الفرنجة من إحدى الثغرات وأسروا عشرات من المصريين وحاولوا العودة بهم إلى الشاطئ الآخر، فطاردهم البدوى مع رجاله، وفى نفس الليلة كان البدوى يعود بالأسرى، لتعلو الهتافات فى معسكر الجيش المصرى: البدوى جاب الأسرى!
بلغة صوفية عذبة، وبحكى جذاب يقدم د. أحمد رفيق عوض سيرة ممكنة لشيخ العرب الذى جاب الأسرى.. بلا خرافات ولا مبالغات!






