الأحد 26 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الذبح الثانى.. لماذا تصر الجامعة الأمريكية على طعن نجيب محفوظ؟!

حرف

- لم يؤذه شىء قدر شبهة التطبيع التى تعيد الجائزة إحياءها

- مئات الكتاب والمبدعين يطالبون بمقاطعة جائزة «رفائيل كوهين».. والجامعة تواصل مسيرتها فى محاولات تمرير التطبيع

- فعلها طلاب ودفعوا «سفير التطبيع» للهرب من مبنى الجامعة.. واكتفى «جيش الدفاع عن كوهين» بتثمين موقف المصريين والعرب!.. شكرًا والله

صباح الجمعة الماضى أصدر عدد من الكتاب والمثقفين بيانًا بمقاطعة جائزة الجامعة الأمريكية التى تحمل اسم نجيب محفوظ إلى حين تغيير لجنة تحكيمها التى أحاطت بها شبهات التطبيع بتضمينها اسم «رفائيل إسحاق كوهين»، اليهودى البريطانى المتصل بعلاقات مع محتلين إسرائيليين يقول إنهم أفراد عائلته فى الأراضى الفلسطينية، ولم تمض ساعات حتى وقع على البيان مئات من الكتاب والمثقفين من مختلف أنحاء الوطن العربى، أدباء وفنانين ومفكرين ونقادًا وأكاديميين من مصر والعراق وتونس والمغرب ولبنان.. غير أن الجامعة التى شهدت قبلها بأيام مظاهرات حاشدة لطلابها احتجاجًا على استضافة السفير الأمريكى السابق لدى إسرائيل، وانتهت بهروبه من مبناها، بعد تجاهل إدارتها لكل الحجج التى قدمها الطلاب لإلغاء المحاضرة التى كان من المقرر أن يقدمها، عاودت مسيرتها فى تجاهل كل ما يتعلق برفض ممارساتها المتكررة فى مصر، وغيرها من البلدان العربية لتمرير خطط التطبيع مع إسرائيل، الأمر الذى يعكس إصرارًا غير طبيعى من إدارة الجامعة الأمريكية بالقاهرة على خيانة أديب العربية الأكبر، وإعادة الربط بين اسمه وبين دولة الاحتلال.

أساطير جيش الدفاع عن كوهين

لعله من المعروف لدى الجميع أن كاتب مصر الأشهر نجيب محفوظ لم يتأذ من شىء فى حياته، وفيما بعد رحيله، بقدر تأذيه من «شبهة» ارتباط اسمه بالتطبيع مع إسرائيل.. التهمة التى نفاها عن نفسه فى حياته، وكتب عشرات المثقفين والصحفيين فيما بعد رحيله ما يؤكد موقفه المعلن من الأمر، لكى تأتى «دار نشر الجامعة الأمريكية» التى وثق فيها وائتمنها على أعماله، وعلى تقديم جائزة باسمه للموهوبين من كتاب الرواية فى العالم العربى، لتعيد إحياء الجدل حول الرجل، وحول الجائزة، ووضعها فى بؤرة شبهات التطبيع، بل والتأكيد عليها من خلال اختيارها لأعضاء لجنة تحكيم «جائزة نجيب محفوظ» فى دورتها الحالية، والتى تضمنت أحد الأسماء المرفوضة من أعداد كبيرة من الكتاب والمبدعين المصريين والعرب، لارتباطه بعلاقات عائلية معلنة وغير خفية بمحتلين إسرائيليين، وهو ما أكده المدافعون عنه من حيث لا يعلمون، فهم من قالوا بأن لديه أقارب يزورهم فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ويزورونه فى القاهرة.. وما أكدته ممارسات الشخص المعنى بنفسه، فهو من اختار تغيير اسمه من «رفائيل كوهين» إلى «رفائيل اسحاق» هربًا من «الشبهات» التى تصر إدارة الجامعة ورفاق لجنة التحكيم على عدم وجودها، ناهيك عن ارتباط غالبية الترجمات القليلة التى أنجزها بالجامعة ذاتها، وبمجلة وجائزة «بانيبال» المملوكة ليهودى بريطانى آخر وزوجته، هو العراقى الأصل صموئيل شمعون، ومنها ترجمات لمطبعين معروفين بالاسم والصورة، لا يخفون ذلك ولا يتنكرون له، ما يعنى شبهات إضافية كان سيد الرواية العربية فى غنى عنها جميعًا، خصوصًا مع اتساع رقعة الاختيار لعضوية لجنة تحكيم الجائزة من بين كبار النقاد والمبدعين المصريين والعرب والأجانب ممن يرحبون بمهمة التحكيم فى جائزة تحمل اسم نجيب محفوظ، لا شبهات حولهم، ولا يحتاجون إلى تزكية، فأسماؤهم وأعمالهم المنشورة تكفى وتزيد.

إصرار إدارة الجائزة ولجنة تحكيمها على الاستمرار فى دوائر «الشبهات»، ودعم التطبيع مع العدو تحت ستار «السلام»، بدا واضحًا فى اعتمادها وأعضاء لجنة التحكيم المشبوهة، على تحويل الأمر إلى جدل لم ينجر إليه أحد، ولا طائل منه، بشأن التفريق بين «اليهود» و«الإسرائيليين» و«الصهاينة»، الأمر الذى لم يتفاعل معه أحد، فلم يقل أحد بأن رفض كوهين سببه أنه يهودى فقط، بل لممارسات محل شبهات دائمة، فى مقدمتها ترجمته المعلنة لواحدة من أشهر المطبيعين، وادعاؤه ترجمة لم يقم بها لأحد دواوين شاعر الرفض الأشهر أمل دنقل، وعضويته فى «حركة التضامن الدولية» التى ترفع شعارات العدل والسلام والحرية، وهى الشعارات التى لا تختلف عن أى شعارات أخرى يتخفى وراءها كل دعاة التطبيع من الإسرائيليين لكنها لا تمنعهم من التجنيد فى جيش الاحتلال بمن فيهم أفراد عائلته الذين يزورهم ويزورنه، ما يضع أعمال الكتاب والمبدعين العرب الذين يشرفهم التقدم لجائزة تحمل اسم سيد الرواية العربية الحديثة بين أيد غير أمينة، أو موثوقة، أو على الأقل تحمل من الشبهات أكثر مما تحمل من ضمانات الموضوعية والحياد.

والملفت أن فرقة «جيش الدفاع عن رفائيل كوهين»، لم يستوقفها مثلًا تزامن الإعلان عن اختياره لعضوية لجنة تحكيم الجائزة، مع دعوة ذات الجامعة لسفير الكيان السابق لإلقاء محاضرة على طلابها بشأن التطبيع بين مصر وإسرائيل، فأيهما نصدق؟! بيان دار نشر الجامعة أم ممارساتها الفعلية؟! بيان لجنة التحكيم الذى يتحدث عن «تثمينهم» موقف «المصريين والعرب الرافض لكل سياسات التطبيع مع إسرائيل ومن يؤيدها»، أم مظاهرات الطلاب الحاشدة وأعضاء هيئة تدريس الجامعة لمنع هذه المحاضرة، وهروب عضو اللوبى الإسرائيلى، أمريكى الجنسية، أمام موقفهم المحترم والمشرف؟! ولاحظ معى استخدام أفراد لجنة الجائزة لكلمة «تثمين»، لا تأييد ولا دعم.. والحقيقة أننا لا نحتاج لهذا التثمين، ولا حتى لدعمهم ولا تأييدهم لرفض التطبيع، لكننا فقط نتساءل عن حمرة الخجل، عن شرف الموقف، وشرف الكلمة..

فعلها الطلاب وأعضاء هيئة التدريس وأعلنوا رفضهم بأعلى صوت ممكن، ولم يفكر فيها من يقدمون أنفسهم على أنهم كتاب ونقاد ومبدعون، وكل ما فكروا فيه هو «تثمين» الموقف الرافض للتطبيع (!!) حتى أنهم لم يجرؤوا على اختيار الكلمة المناسبة لتبرير موقفهم المتخاذل.. فهل هؤلاء بالفعل مبدعون وكتاب؟! أصحاب كلمة وموقف أم مجرد مخادعين ومدعين؟!

«تثمين»!! متشكرين جدًا والله.

محاولات غير برئية

على الجانب الآخر كان البيان الذى حمل توقيعات مئات الكتاب والمفكرين والفنانين العرب، شديد الوضوح والتحديد والدقة فى اختيار الكلمات المعبرة عن موقفهم الواضح والمبدئى، وحمل الكثير من التساؤلات، والرد على ما جاهدت «فرقة جيش الدفاع» لنفيه وجاء فيه ما نصه: «قامت دار نشر الجامعة الأمريكية بالتنسيق مع الجامعة بوضع اسم (رفائيل كوهين) ضمن أعضاء لجنة التحكيم فى جائزة نجيب محفوظ السنوية للرواية، ولا ينكر كوهين صلاته بإسرائيل ولا بعائلته فيها ولا ينفى زياراته المتكررة إليها، وقد أثار ذلك الاختيار تعجب ودهشة المثقفين والأدباء الذين يحق لهم أن يسألوا: هل خلت الساحة الثقافية المصرية والعربية من أدباء جديرين بعضوية اللجنة فلم يبق سوى كوهين؟ أم أن الجامعة ترمى إلى فرض التطبيع الثقافى مع إسرائيل عبر كوهين وأمثاله؟ علمًا بأن كوهين هذا لم ينجز سوى عدد محدود من الترجمات مرتبطًا بمجلة وجائزة «بانيبال» التى أسسها عراقى يدعى صموئيل شمعون.. هكذا تحاول إدارة الجامعة الأمريكية أن تفرض التطبيع الثقافى على الحركة الثقافية بتقديم كوهين وإحاطته بأكاذيب عن دعمه الشعب الفلسطينى، بينما لم يسمع به أحد من الفلسطينيين.. وقد حاولت قلة من المثقفين الدفاع عن كوهين بدعوى أن علينا أن نميز بين اليهودى والصهيونى، ونحن بعون الله قادرون على ذلك التمييز، فهل تستطيع تلك القلة أن تميز «فرض التطبيع الثقافى» عن غيره؟

ألم تكن الجامعة هى التى دعت فى ١٤ أكتوبر الحالى دانيال كيرتزر سفير أمريكا الأسبق فى إسرائيل لإلقاء محاضرة فى الجامعة عن التطبيع مع إسرائيل حتى نظم طلاب الجامعة مظاهرة احتجاج كبرى وطردوا كيرتزر من الجامعة من غير أن يلقى محاضرته.. إننا نؤكد رفضنا البات للتطبيع الثقافى تحت راية كوهين مع عدو احترف إبادة الشعب الفلسطينى عامين كاملين، ونحن بذلك إنما نجدد موقف كل النقابات والهيئات الشعبية المصرية التى رفضت التطبيع الثقافى والعلمى فى مواثيقها، ونجدد رفضنا وجود رفائيل كوهين فى لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ، ومقاطعتنا هذه الدورة من الجائزة لحين تنقية لجانها من رموز التطبيع، والأمر كما قال طلاب الجامعة الأمريكية فى بيانهم بعد طردهم دانيال كيرتزر: «القضية لا تتعلق بحرية أكاديمية بل بالمسئولية الأخلاقية».. لا للتطبيع الثقافى.. لا للعدوان الصهيونى.. نعم لثقافة التحرر والتقدم».

أخيرًا.. ربما كان باستطاعة جسد نجيب محفوظ تحمل آلام الطعنة التى صوبها إليه جاهل به، لم يقرأ له، فنجا من محاولة الاغتيال، وعاد ليكتب ويملأ الدنيا بضحكته المبهجة، بل إنه سامحه بعدها وعفا عنه.. لكنه ليس بيننا الآن لكى يدافع عن خيانة الأمانة التى وضعها بين أيد تكشف المواقف والأفعال المتتالية أنها لم تكن أهلًا للثقة، أنها غير أمينة على ميراث الرجل.. فالحقيقة أننى أرى فى مجرد الشبهات محاولة غير بريئة لتشويه اسم الرجل، ووضعه فى سياق كنا جميعًا فى غنى عنه.. فلا الحياة الثقافية العربية فقيرة الكوادر، ولا الشبهات تليق باسم نجيب محفوظ.

وربما كان من المناسب هنا أن ندعو جميع الأصدقاء من الصحفيين وفى كل وسائل الإعلام الوطنية إلى حذف اسم نجيب محفوظ من الجائزة عند النشر عنها.. لتبقى «جائزة الجامعة الأمريكية»، أو «جائزة كوهين وجيش دفاعه» أو أى اسم آخر بعيدًا عن اسم نجيب محفوظ.