الأحد 24 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

لافانفارلو فينوس السمراء.. الرواية المجهولة لـ«شارل بودلير»

شارل بودلير
شارل بودلير

- لم تنشر فى كتاب إلا بعد رحيله بعامين مع قصائد «سأم باريس».. ولم يذكرها الدكتور عبدالغفار مكاوى فى كتابه العمدة عن بودلير و«ثورة الشعر الحديث»

- كتبها وهو فى الخامسة والعشرين ونشرتها «جمعية الأدباء» وأصابه الإحباط لأن أحدًا لم يلتفت إليها

- أشار إليها رفعت سلام فى ترجمته لأعمال بودلير الكاملة فى سطرين فقط لا غير.. و اعتبرها «نصًا سرديًا يقدم فيه الشاعر نفسه بدرجة أو بأخرى»

- من أكثر عيوب سامويل الفطرية، تماهيه الكامل مع كل من يعجب بهم، واعتبار نفسه مساويًا لهم

قبل أسابيع قليلة، فكرت فى الكتابة عن واحد من أهم رواد قصيدة النثر فى العصر الحديث، وهو الفرنسى الأشهر شارل بودلير، والذى يعد أول من كتب هذه القصيدة، وأثار الدنيا كلها قبل ما يزيد على مئة وستين سنة، وتحديدًا عندما نشر ديوانه الأول «أزهار الشر» عام 1857.

ولأننى لا أعتمد على الذاكرة وحدها، فكثيرًا ما خانتنى، ولا أعرف إلا النذر اليسير من اللغة الفرنسية، وكثيرًا ما أحرجتنى فى مواجهة صغارى الذين اختارت لهم أمهم تعلمها كلغة أولى منذ سنوات ما قبل المدرسة، ولا أعتمد على ما سبقت كتابته بالعربية وحدها، وكثيرًا ما خذلتنى، ولم أفق بعد من صدمة محاولتى قراءة كتاب السيد عباس محمود العقاد «التعريف بشكسبير»، والذى يصر فيه على أن ابنة شكسبير الكبرى «سوزان» كان اسمها «سوسن»، والحقيقة أننى لم أفهم السر وراء تكرار السيد العقاد الاسم الجديد، هل هو نوع من التعريب مثلًا أم أنها مجرد «فذلكة لغوية»؟! لكننى فى النهاية ضحكت منها، وقلت لنفسى ربما كان السبب هو كراهيته لكل ما له علاقة بالدكتور طه حسين الذى تحمل زوجته اسم «سوزان».. لم لا؟!

على أى حال، لهذا كانت ذخيرتى من الكتب، واللغة الإنجليزية هى مفتاحى للبحث والتنقيب، وكثيرًا ما فاجأتنى، وفتحت شهيتى للقراءة والمعرفة.. وبفضلها عثرت على ما لم أكن أتوقعه، أو أعرف به، فكثيرًا ما تحدثت عن وحدة الفنان والفنون، وكثيرًا ما كنت أردد أن الكتابة الأدبية والإبداع كلٌ لا ينفصل، غالبية الشعراء كتبوا الرواية والقصة، وكثير من التشكيليين كتبوا الشعر، كما أن معظم الروائيين الكبار مروا بالشعر، لكننى لم أتوقع أن يكون من بينهم شارل بودلير، الوجه العالمى الأول لقصيدة النثر والشعر الحديث، لدرجة أننى عندما تيقنت من حقيقة أنه كتب رواية قصيرة ونشرها للمرة الأولى وهو فى الخامسة والعشرين من عمره، وجدتنى أهتف بينى وبين نفسى هتاف القيصر «حتى أنت يا بودلير؟!»، والحقيقة أننى لا أعرف سببًا لعدم التوقع ذلك، فكل المعطيات تقول إن التحول عن النظم الشعرى إلى قصيدة النثر لا بد أن يصحبه مرور على فنون السرد، فما بالك ببودلير، وهو واحد من أوائل من نشروا هذه القصيدة وغيروا وجه الشعر الحديث.

عن الرواية والشعر وجين دوفال 

بالرغم من الحالة المتفردة للقصائد المنشورة للفرنسى الأشهر شارل بودلير وثوريتها، فإن القارئ الذى لا يعرف غيرها يفتقد جانبًا مهمًا، فى ظنى، من أدب بودلير، وهو ما تكشف عنه هذه الرواية القصيرة «لا فانفارلو»، التى يرجح المتخصصون فى أدبه أنه كتبها فى وقت ما من عام ١٨٤٦، وتم نشرها لأول مرة فى عدد شهر يناير ١٨٤٧ من نشرة «جمعية الأدباء»، ولكن يبدو أن أحدًا لم يلتفت إليها فى وقتها، ولم تُنشر فى كتاب إلا بعد وفاته بعامين فى طبعة مشتركة مع مجموعة قصائد «سأم باريس»، وأيضًا لم ينتبه إليها العالم حتى كانت بدايات القرن العشرين، حيث حظيت باهتمام نقدى واسع إلا فى عالمنا العربى، إذ تكاد لا يعرف بها أحد، ولا يلتفت إليها سوى أقل القليل من شعراء قصيدة النثر.

على أى حال فإن هذه الرواية القصيرة تكشف كيف كان بودلير مفتونًا طوال حياته بإمكانيات النثر وتجريب الخيال، وهى الرواية التى يمكن الاستمتاع بها كحكاية بسيطة ومتشعبة إلى حدٍ ما، إلى جانب امتيازها بحالة السخرية العميقة التى عرف بها بودلير فى النظر إلى العالم.. ولأنه كتبها فى وقت مبكر من حياته، يمكن النظر إليها كعملية اختبار ذاتية لإمكاناته النثرية والأدبية، وحدود ما يمكن أن يذهب إليه الخيال والتجريب.

رسم تخطيطى لمشهد من الرواية بريشة بودلير

تم نشر هذه الرواية لأول مرة فى عدد يناير من نشرة جمعية الأدباء الفرنسية عام ١٨٤٧، وكان بودلير وقتها فى الخامسة والعشرين من عمره، وقبلها كان يكتب بدأب وجدية لعدة سنوات، ونشر مقالات وقصائد فى عدد من الصحف والمجلات، وكان قد بدأ يحقق بعض النجاح منذ بدايات عام ١٨٤٥، وهو العام الذى بدأت خلاله ظاهرة نشر الصحف للروايات الأدبية فى صورة حلقات مسلسلة تجتاح الصحف الفرنسية، وأحدثت ثورة فى عالم النشر الأدبى، وحققت أرباحًا طائلة لكتاب فرنسيين كبار، وفى مقدمتهم بلزاك وجورج صاند وغيرهما، هذه الظاهرة بدأتها صحيفة «لا برس» منتصف عام ١٨٣٦، بنشرها للقصص الأدبية المصورة التى كانت تحظى بشعبية هائلة فى الصفحة الأولى، فأحيت الصحافة الفرنسية، ووسعت من جمهورها، وزادت معدلات الإعلانات واشتراكات الصحف، ولهذا كانت تدفع أجورًا جيدة جدًا للكتاب، وهو ما التقطه بودلير الذى كان وقتها يعانى من المنع من التصرف فى ميراثه الضخم، فتعلم كيفية العمل لتحقيق النجاح فى هذه البيئة، ولاحظ الناقد والمفكر الألمانى والتر بنيامين أن بودلير عرض مخطوطة «لا فانفارلو» على عدة صحف فى وقت واحد، وسمح لها جميعًا بإعادة نشرها دون الإشارة إلى أنها «إعادة نشر»، ومنها مجلة «أمسيات أدبية مصورة» التى أعادت نشرها عام ١٨٤٩، مشيرًا إلى أنه منذ تلك الفترة المبكرة من حياته بدأ بودلير النظر والتعامل مع سوق النشر دون أى أوهام، حتى إنها أصبحت عادة دائمة لديه أن يعرض أعمالًا مطولة للنشر فى الصحف، رغم أنه لم يكتب الكثير من هذه النوعية من النصوص، لكنه ذهب إلى أن أى قارئ معاصر لرواية «لا فانفارنو»، كان لا بد سيعرف أن المؤلف هو ناقد فنى شاب وواعد.

والواقع أنه قد يُغفر للقراء المعاصرين لبودلير إن لم يروا فى «لا فانفارلو» شيئًا مُبتكرًا، واعتبروها مجرد نسخة أخرى من سلسلة تقليد طويلة من أعمال بلزاك، إذ تشير قصة بودلير صراحةً إلى قصته «الفتاة ذات العيون الذهبية»، وتتشابه حبكتها كثيرًا مع قصة أخرى هى قصة «بياتريكس» المنشورة ضمن مجموعة «الكوميديا الإنسانية»، إلى جانب أن أسلوبها وسخريتها يذكران بأعمال أخرى لبلزاك، خصوصًا فى رواية «الأوهام الضائعة»، أضف إلى هذا «لا فانفارلو»، حسب نقاد فرنسيين، كانت تحمل أصداءً لواقعة حقيقية شغلت الحياة الباريسية قبلها بعامين، فقصة عن علاقة غرامية بين صحفى وراقصة تعرٍ ، كان لا بد أن تعيد إلى الأذهان علاقة ألكسندر هنرى دوجارييه، المحرر المشارك فى صحيفة «لا برس»، بالراقصة الفاضحة لولا مونتيز، الذى قتل فى مبارزة بالرصاص عام ١٨٤٥، وحوكم قاتله فى العام التالى فى «روان»، وامتلأت الصحف وقتها بتغطية إعلامية مكثفة للقصة التى يبدو أن بودلير استخدمها كحبكة رئيسية لروايته.

جين دوفال بريشة إدوارد مونيه

على أن أهمية هذه الرواية تكمن فى كونها توثق بشكل كبير مراحل مهمة فى حياة بودلير، ويمكن اعتبارها كسرد خيالى للقاء بودلير الأول بالممثلة الكريولية جين دوفال، الجميلة الهايتية التى أطلق عليها فيما بعد لقب «فينوس السمراء»، وكانت بمثابة ملهمته وعشيقته، تجد أثرها واضحًا فى عدد كبير من أشهر قصائده، فيما تحكى الرواية عن قصة شاعر شاب، هو صامويل كرامر، الذى يحاول مساعدة صديقة طفولته مدام دى كوزميلى، التى انبهر زوجها براقصة مغوية وجذابة تدعى «لا فانفارلو»، فينتهى به الأمر إلى الوقوع فى حبها، ونتيجةً لهوسه بها، تتلاشى نيران إبداعه، ويجد نفسه ينزلق نحو حياة مادية، وعالم لا علاقة له بالشعر والإبداع.

الوجه العالمى الأول وصفحات فارغة

ولأنه شارل بودلير، فلم تكن تجوز بداية التفكير فى الكتابة عنه دون الرجوع بالطبع إلى كتاب الدكتور عبدالغفار مكاوى العمدة «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر» بجزأيه «الدراسات» و«النصوص»، والذى يذهب فيه إلى أنه ما من شاعر استحق هذه التسمية، «شاعر العصر الحديث»، مثل شارل بودلير؛ «فلم يقتصر أثره على الشعر الحديث من بعده إلى يومنا الراهن فحسب، بل امتد كذلك إلى نظريات فن الشعر التى تتحدث عن طبيعة بنائه وظواهره وقضاياه». ويضيف الدكتور مكاوى: «صار الشعر الفرنسى بعد بودلير مسألة تعنى القارة الأوروبية كلها، ويكفى أن نذكر تأثيره على الإنتاج الشعرى فى ألمانيا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، بل يكفى أن الفرنسيين أنفسهم سرعان ما تبيَّنوا أن هذا الشعر كان أبعد أثرًا من شعر الرومانتيكيين، وأن التيارات الجديدة التى انبعثت منه كانت أعظم قوة وأشد إثارة، إذ نفذ فى قلوب فيرلين ورامبو ومالارميه، واعترف هذا الأخير بأنه بدأ من حيث انتهى بودلير، ولم يتردد شاعرٌ كبير مثل فاليرى فى أن يتتبع قبل موته بقليل ذلك الخط المباشر الذى يصل من بودلير إليه، ثم جاء صوت الشاعر العظيم توماس إليوت ليؤكد فى دراسته الهامة عنه أن بودلير هو أعظم مثل للشعر الحديث فى أية لغة من اللغات»، وهو ما يعود إليه الدكتور مكاوى مؤكدًا أن «كل من يقرأ بودلير اليوم يعرف بغير شك أنه الرائد الذى وضع أساس هذا البناء الشامخ الغريب الذى نسميه بالشعر الحديث. بل إن القارئ الذكى لن يعدم أثره هنا وهناك على رواد شعرنا العربى الجديد».

ولأننى ممن يعتقدون بأن حياة الكاتب لا تنفصل عن أعماله، كان لا بد من العودة إلى كتاب آخر عمدة فيما يتعلق بالفرنسى الأشهر، وهو ترجمة الشاعر الكبير رفعت سلام للأعمال الشعرية الكاملة لشارل بودلير، وهو كتاب ضخم يقع فى أكثر من ٩٠٠ صفحة، ولدى منه نسختان، إحداهما إصدار دار «الشروق» عام ٢٠٠٩، والثانية من مطبوعات مكتبة الأسرة عام ٢٠١٦، وهنا كانت بداية الخيط، والدهشة، والبحث.

فى صفحة ٦٩ من الكتاب، وتحت عنوان «بودلير: سيرة ما»، توقفت أمام سطرين يذكر فيهما رفعت سلام فى عبارات مقتضبة أن جمعية الأدباء الفرنسية نشرت له فى يناير ١٨٤٧ نصه السردى «لافانفارلو»، باعتباره النص «الذى يقدم فيه بودلير نفسه، بدرجة أو بأخرى، فى شخصية صامويل كرامر، بطل النص».. وزادت دهشتى عندما وجدت أن رفعت الذى ترجم فى كتابه جميع قصائده ومقالاته، بل والقصاصات والرسائل والملاحظات والهوامش التى كتبها على صفحات كتبه، لم يزد بكلمة واحدة بشأن هذا النص السردى، فلم يترجمه، ولم يعد لذكره مرة أخرى!!

هنا تحولت رحلة البحث من تقصى ما يثرى الكتابة عن شعر بودلير وشخصيته وحياته، إلى «لا فانفارلو» النص السردى الذى كتبه ولا يعرف به أحد، أو لا يهتم به أحد، فلم يكن له أثر فى كتاب الدكتور مكاوى أيضًا.. هنا لم يكن لدى من خيار سوى اللجوء إلى محركات البحث الشهيرة، حيث شاهدت عشرات الصفحات العربية التى تحكى عن حياته، وعلاقته المرضية بأمه، وألمه من زواجها بعد رحيل والده، وغيرها من القصص التى كنت أعرفها، إلى جانب بعض المقالات النقدية حول شعره، ومقالاته النقدية وآرائه فى الفن والحياة، لكننى لم ألحظ أى إشارة إلى كتابته لنص سردى ولا اقترابه من فن الرواية.. وبعد ساعات من القراءة والتجول بين المقالات والدراسات النقدية، توقفت أمام أحد الروابط فى صفحة «ويكيبيديا» العربية، والتى لم تكن تحتوى أى شىء تقريبًا عن الرجل غير بضعة أسطر لا تقول شيئًا.. كان الرابط يشير إلى أعماله الأساسية، وفى سطرها الثالث وجدت كلمة «لا فانفارلو» باللغة الإنجليزية، فاخترت تتبع الرابط الذى أحالنى إلى صفحة لموقع فرنسى اسمه «ويكى سورس»، كانت الصفحة تحتوى نصًا يزيد عدد كلماته على عشرة آلاف كلمة، لكنه مكتوب بالفرنسية التى لا أجيدها، بحثت فى الصفحة عن إمكانية وجود النص بلغة أخرى، فلم أجد غير رابط للنص باللغة الإسبانية التى لا أعرف منها غير أن «كوموستاس» هى المرادف لعبارة «كيف حالك؟!».. لم يعد أمامى غير تحميل النص الفرنسى والاحتفاظ به لوقت لاحق.

ولأننى لست ممن يرضون من الغنيمة بالإياب، عقدت العزم على استكشاف هذا النص، ومعرفة ما هو.. وقررت العودة إلى عادتى الأثيرة فى البحث باللغة الإنجليزية، وكم كانت سعادتى ودهشتى عندما انفتحت أمامى صفحة «ويكيبيديا» الإنجليزية.. كم من المعلومات الموثقة والدقيقة، وروابط الأصول التى تحيل إلى المصدر الأصلى.. حتى وصلت إلى جملة تقول ما ترجمته: فى السنوات التالية تم نشر رواية بودلير القصيرة «لا فانفارلو».. توقفت أمام كلمة «نوفيلا» طويلًا، واتسعت مساحات دهشتى عندما صدمتنى حقيقة أن العبارة هى الجملة الختامية فى فقرة عن مراحل نشر أعماله، يبدأ بعدها مباشرة حديث مطول عن «أزهار الشر»، دون أى إشارة لأى معلومات عن هذه الرواية القصيرة أو ما كتبه النقاد عنها، ولا أين نشرت.. ولا أى شىء!!

لا أخفى عليك أننى شعرت بمزيج غريب من الإحباط والشغف والإصرار، خصوصًا وأن الصفحة كبيرة جدًا، و«متروسة» معلومات وآراء وقصص ومواقف، فكان أن اخترت تتبع الرابط الذى تشير إليه كلمة «لا فانفارلو» الذى فتح لى صفحة أخرى من الموسوعة باللغة الإنجليزية، ولكننى فوجئت بأن كل ما تحتويه لا يخرج عن حوالى المئة كلمة، ترجمتها أن «لا فانفارلو» هى عمل للشاعر الفرنسى شارل بودلير، نشر لأول مرة فى يناير ١٨٤٧، عندما كان فى الخامسة والعشرين من عمره، و«تصف الرواية القصيرة قصة خيالية عن علاقة غرامية بين الكاتب وراقصة تدعى جين دوفال»، وقالت الناقدة الأدبية الأيرلندية إينيد ستاركى، المعروفة بأعمالها السيرية عن الشعراء الفرنسيين، عن «لا فانفارلو»: «مثل هذا العمل آخر دفقة طاقة فى بودلير لفترة طويلة، فتلاشى شغفه بالعمل فجأة كما بدأ، بعد نشره فى يناير ١٨٤٧، تباطأ إنتاجه الأدبى، وسقط فى حالة من الخمول والكسل وعدم القدرة على العمل، وهى حالاتٌ كانت تتكرر طوال حياته، وخاصةً بعد نوبة من النشاط الإبداعى».. ثم لا شىء!!

طبعة عربية ومحيرة.. وغير متوافرة

هنا تحولت أهداف رحلتى من البحث، فلم تعد الكتابة عن بودلير وشعره وحياته هى الهدف، بل هى هذه الرواية المجهولة، بالنسبة لى على الأقل، والتى لم أسمع عنها من قبل، ويبدو أن كثيرًا من الشعراء والأدباء والنقاد العرب لا يعرفون بها.

والحقيقة أننى عثرت على ترجمة محتملة لها، هى ترجمة الكاتب العراقى الدكتور شاكر نورى، لكنها الترجمة التى زادت من حيرتى واندهاشى، وفتحت فى رأسى عشرات الأسئلة التى لم أجد لها من إجابة واحدة منطقية ومرضية، فهذه الترجمة التى عرفت بالمصادفة أنها نشرت عام ٢٠١٨، تحت عنوان «عشيقة أزهار الشر»، لا تجد لها أثرًا على صفحات غالبية محركات البحث، سوى فى صفحات بيع الكتب وبعض المكتبات، وجميعها يتفق فى أن تلك الترجمة الحديثة «غير متوافرة» أو «نفدت».. لا قراءة نقدية، لا عروض للنص، لا تعليقات، لا أخبار احتفالية أو حتى تقارير اعتيادية كما يحدث مع أى كتاب جديد، ولو كان مؤلفه مجهولًا أو نصف موهوب، حتى صفحة دار النشر التى أصدرتها، لم أجد بها ولو إشارة لصدور الترجمة.. حتى مترجمها لم أجد لديه عنها سوى «بوست» يتيم على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» يتحدث فيه عن صدور كتابين له، أحدهما هو ترجمته للرواية الوحيدة لبودلير، وبعض التصريحات المقتضبة المنشورة بموقع صحيفة «الصباح» العراقية فى يوليو الماضى، ومقتطف من الترجمة بصحيفة «الاتحاد» الإماراتية قبل نشر الترجمة بعامين، وتحديدًا فى ديسمبر ٢٠١٦.

والحقيقة أيضًا أننى لم أفهم السر وراء إطلاقه عنوان «عشيقة أزهار الشر» على الرواية، هل هو استثمار لشهرة ديوان بودلير الأول، وهو الذى تحتل صورته كامل الغلاف؟! أم لغرابة الاسم «لا فانفارلو»، وهو كما هو واضح اسم شخصية بطلة الرواية، وهو أمر معتاد ومكرر فى الآداب العالمية، لعل أقربها إلى الذهن رائعة الفرنسى جوستاف فلوبير «مدام بوفارى» أم أن هناك أسبابًا أخرى لهذا العنوان ربما تكشفها قراءة المطبوع غير المتاح؟!

على أى حال، فبقدر ما أثارت تلك الترجمة العربية المحيرة فى نفسى من دهشة واستغراب، بقدر ما أشعلت حماسى للوصول إلى النص فى لغة يمكننى قراءتها والترجمة عنها، وهو ما حدث فى وقت قياسى.. ولا أخفى عليك أن الفرحة لم تسعنى عند العثور على عدد لا بأس به من ترجماتها، وبكل اللغات تقريبًا، روسية وألمانية وفارسية، لكن فرحتى الكبرى كانت عندما وجدت أكثر من ترجمة إنجليزية للرواية، وعرفت أنه أصيب بالإحباط بعد نشرها للمرة الأولى، ولم يذكره سوى ثلاث مرَّاتٍ فى مراسلاته، وقيل إنه لم يسجله فى قائمة أعماله فى أواخر أيام حياته، لكنه أعيد نشره فى كتاب للمرة الأولى بعد رحيله بعامين مع قصائد «سأم باريس».. أتيت على الترجمة الإنجليزية الأولى فى ساعات، واستمتعت بالنص الفاتن والدال على روعة بودلير وشغفه بالكتابة والأدب والنثر، ثم زادت متعتى بما كتبه مترجم النسخة الإنجليزية الثانية حول ظروف ترجمته لها، والبروفات الخمس التى قام بها قبل الوصول إلى النسخة النهائية، ثم بدأت فى مطابقة الترجمات التى عثرت عليها مع النسخة الفرنسية، تلك التى قلت لك إننى ركنتها لوقت لاحق، بمساعدة من ابنتى التى تتقن الفرنسية بحكم دراستها، وكان أن بدأت فى ترجمتها، وقررت الاحتفال بها، وتقديمها للقارئ العربى بما يليق بالنص الفاتن، وبمؤلفه الذى غير وجه الشعر فى العالم الحديث، وبالقارئ العربى الذى أظن أنه يستحق كل عناية واهتمام فى انتقاء ما يصله من نصوص وأعمال أثرت فى مسيرة الأدب العالمى، ورحلة الإنسان على وجه البسيطة.

فصول من الرواية

1

سامويل كريمير، الذى وقّع ذات مرة على بعض الحماقات الرومانسية، الكاذبة والسخيفة، باسم مستعار هو مانويلا دى مونتيفردى، فى أيام الرومانسية الجميلة الأولى، هو نتاجٌ لمزيجٍ متناقض يجمع بين أب ألمانى شاحب اللون، وأم تشيلية سمراء، داكنة البشرة.. أضف إلى هذا الأصل المزدوج تعليمًا فرنسيًا، وخلفية أدبية متحضرة، وستكون أقل دهشة، إن لم تكن راضيًا ومستنيرًا بشأن التعقيدات الغريبة لشخصيته.

لسامويل جبين نقى ونبيل، وعينان لامعتان فيما يشبه قطرات القهوة السوداء، وأنف مثير للسخرية، وشفتان وقحتان وحسيتان، وذقن مربع مستبد، وشعر رأس رافائيلى متكلف، مبالغ فى إتقان تسريحته كلوحة لرافييل.

إنه فى نفس الوقت شخص كسولٌ للغاية، وطَموحٌ بصورة مثيرة للشفقة، ومشهور كبائس سيئ الحظ، لأنه لم تكن لديه طوال حياته سوى أنصاف أفكار.. أفكار غير مكتملة أو ناضجة.

شمس الكسل التى تُشرق بداخله دائمًا، تُبخر هذا النصف من العبقرية الذى وهبته له السماء وتبدده.

من بين كل هؤلاء الذين عرفتهم فى هذه الحياة الباريسية المروعة، من أنصاف العظماء، كان سامويل هو أكثرهم تجسيدًا لرجل الأعمال الجميلة الفاشلة.. مخلوق مريض وخيالى، يتجلى شِعره ويتألق فى شخصه أكثر بكثير من أعماله أو كتاباته، وهو الذى يظهر لى، فى نحو الواحدة صباحًا، بين توهج نار الفحم ودقات الساعة، أشبه بإله للعجز الجنسى، إله حديث ومخنث، عجز هائل وكبير جدًا، حتى إنه يبدو ملحميًا.

كيف لى أن أجعلك ترى بوضوح هذه الطبيعة القاتمة المظلمة، والمتقلبة المليئة بالومضات الساطعة من الضوء المفاجئ، الكسولة والمغامرة فى نفس الوقت، المبدعة فى المشروعات الصعبة كما فى الإخفاقات المضحكة، تلك الروح التى غالبًا ما تتخذ فيها المفارقة أبعاد السذاجة، والعقل ذى الخيال الواسع بفعل الكسل والوحدة المطلقة.

من أكثر عيوب سامويل الفطرية، تماهيه الكامل مع كل من يعجب بهم، واعتبار نفسه مساويًا لهم، فهو مثلًا عندما ينتهى من قراءة عاطفية لكتاب جميل، يكون استنتاجه اللا إرادى: «هذا جميل بما يكفى لأن أكون أنا مؤلفه»، ومنها إلى التفكير: «هو إذن من تأليفى»!!

غلاف مجلة أمسيات أدبية مصورة، وتحتوى القصة
الوحيدة لشارل بودلير، وهى النص الثالث فى العدد
الخامس عشر

هكذا.. بلا مسافة أكثر من «علامة فاصلة».

فى عالم اليوم، هذا النوع من الشخصيات أكثر شيوعًا مما قد يظن المرء، فالشوارع والمتنزهات العامة والحانات وجميع ملاذات الترفيه تعجّ بمثل هؤلاء.. إنهم يتماهون تمامًا مع أى نموذج الجديد لدرجة أنهم لا يبتعدون كثيرًا عن الاعتقاد بأنهم من ابتكروه.

اليوم، تراهم يجاهدون فى فك شفرات الصفحات الغامضة لأفلوطين أو بورفيرى بشق الأنفس، وغدًا، سوف يعجبون ببراعة كريبيون الأصغر فى التعبير عن الجانب الفرنسى المتقلب من شخصياتهم.

بالأمس كانوا على تواصل حميم مع جيروم كاردان، والآن يعبثون مع ستيرن، أو يتخبطون مع رابليه فى غمرة من شراهة المبالغة. 

ورغم كل ذلك، تجدهم فى غاية السعادة بكل تحول من تحولاتهم، حتى إنهم لا ينزعجون إطلاقًا من كل هؤلاء العباقرة الرائعين، ولا يمانعون فى أن يسبقوهم فى تقدير الأجيال القادمة.. وقاحة ساذجة ومحترمة! 

وهكذا كان سامويل المسكين.

2

فى إحدى الأمسيات، خطرت على بال سامويل فكرة الخروج.. كان الجو جميلًا وعطرًا.

ووفقًا لميله الفطرى فى الإفراط والمبالغة، إذ كانت لديه عادتان قويتان ومهيمنتان، هما عادتا العزلة والتبذير، وكلتاهما تتمتعان بنفس القدر من العنف وطول الأمد، ولأنه ظل فى مسكنه لفترة طويلة، لعب ذلك الكسل الأمومى، والكريولى الذى يجرى فى عروقه، دورًا فى منعه من الانزعاج من فوضى غرفته، وغسيله المتسخ، وشعره المتشابك.

مشط شعره، واغتسل، وفى دقائق معدودة كان قد استعاد هيبته وهدوءه، كما استعاد ثقة من تُعتبر الأناقة بالنسبة لهم شأنًا يوميًا، ثم فتح نافذته، ليتسلل إلى الغرفة المغبرة يوم دافئ وذهبى.

تعجب سامويل من سرعة حلول الربيع فى غضون أيام قليلة، ودون سابق إنذار.

هواء دافئ، مُشبع بروائح ذكية، فتح أنفه، فصعد جزء منه إلى رأسه، وملأه تأملًا ورغبة، بينما انساب الجزء الآخر بحرية إلى قلبه ومعدته وكبده.

أطفأ شمعتيه بحزم، وكانت إحداهما لا تزال تومض على مجلد من «سويدنبورج»، بينما ماتت الأخرى على أحد الكتب المخجلة، تلك الكتب التى لا تُجدى قراءتها نفعًا، ولا تكون مفيدة إلا لأولئك الذين يمتلكون ذوقًا غير معتدل للحقيقة.

من قمة عزلته المثقلة بالأوراق عديمة الفائدة، المكدسة بالكتب القديمة، والمكتظة بأحلام اليقظة، كان سامويل غالبًا ما يرى وهو يسير فى أزقة حدائق لوكسمبورج، شكلًا على هيئة شخصية أحبها يومًا ما فى الريف، عندما كان فى السن التى يحب فيها المرء الحب، وعلى الرغم من أن ملامحها كانت تبدو ناضجة وممتلئة بفعل سنوات طويلة من الاستخدام، فإنها كانت تتمتع برشاقة تليق بامرأة صادقة ومحترمة، وكان بإمكانه أحيانًا أن يلمح فى أعماق عينيها ظلال أحلام اليقظة الدامعة لطفلة صغيرة.

كانت عادة ما تأتى وتذهب برفقة خادمة أنيقة، يوحى وجهها وسلوكها بأنها صديقة حميمة أكثر منها خادمة منزلية، وبدت له وكأنها تبحث عن أماكن معزولة، حيث تجلس فى وضعية أرملة حزينة، تحمل أحيانًا فى يدها المشتتة كتابًا لم تقرأه قط.

كان سامويل قد التقى بها فى ليون، شابةً، يقظةً، مرحةً، ونحيفةً. وبفضل النظر إليها، ومراقبتها عن كثب، ورغبة التعرف عليها إن صح التعبير، أعاد اكتشاف كل الذكريات الصغيرة التى ارتبطت بها فى مخيلته، واحدةً تلو الأخرى، روى لنفسه، تفصيلًا تلو الآخر، قصة حب الشباب كاملةً، تلك القصة التى ضاعت منذ ذلك الحين فى زحام حياته ومتاهة عواطفه.

رسم تخطيطى لمشهد من الرواية بريشة بودلير

فى ذلك المساء، استقبلها بمزيد من الاهتمام والنظرات، انحنى لها، ولكن بحذر وتكتم شديدين، وبينما كان يمر بها، سمع هذا الحوار من خلفه:

«ما رأيكِ بهذا الشاب يا مارييت؟».

لكن هذه الكلمات قيلت بنبرة صوتٍ مُشتتةٍ، لدرجة أن أشدّ المراقبين شرًا لن يجد فيها ما يمكن أن يقوله ضد السيدة.

«أجده جيد جدًا يا سيدتى، هل تعلم سيدتى أن هذا هو السيد سامويل كريمر؟».

وبنبرةٍ أكثر صرامةً:

«كيف عرفتِ ذلك يا مارييت؟».

لهذا السبب، حرص سامويل بشدة، فى اليوم التالى، أن يعيد إليها المنديل والكتاب اللذين وجدهما فوق أحد المقاعد، واللذين لم تكن قد فقدتهما بطريقة ما، إذ كانت لا تزال قريبة تشاهد العصافير تتصارع على الفتات، أو تبدو وكأنها تتأمل فى خبايا النباتات وأسرارها. وكما يحدث غالبًا بين شخصين رفعت أقدارهما المتواطئة روحيهما إلى نفس المستوى، ومع أن المحادثة بدأت فجأة، شعر سامويل بفرحة غريبة عندما وجد فيها شخصًا مستعدًا للاستماع إليه والرد عليه.

- هل يحالفنى الحظ يا سيدتى بما فيه الكفاية لأبقى مقيمًا فى زاوية ما من ذاكرتك؟! أم أننى تغيرتُ كثيرًا، لدرجة أنك لا تستطيعين أن تجدى فىّ صديق طفولتكِ الذى كنتِ تتفضلين بالتغيب عن المدرسة، ولعب «الاستغماية» معه؟!

أجابت السيدة بابتسامة خفيفة: «ليس من حق المرأة أن تتعرف على الناس بهذه السهولة، ولذلك يجب أن أشكرك يا سيدى على مبادرتك بمنحى فرصة استحضار تلك الذكريات الجميلة والمبهجة.. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل عام من حياتى كان يحمل فى طياته الكثير من الأحداث والأفكار.. ويبدو لى حقًا أن سنوات طويلة قد مضت بالفعل، أليس كذلك؟».

أجاب سامويل: «سنواتٌ عديدة، مرّت على أحيانًا ببطءٍ شديد، وبسرعة فائقة فى أحيانٍ أخرى، لكنها جميعًا كانت قاسيةً بصورة أو بأخرى، وبدرجاتٍ متفاوتة»!

سألت السيدة، وابتسامة تلوح فى عينيها: «والشعر؟!».

أجاب سامويل ضاحكًا: «دائمًا يا سيدتى.. لكن ماذا كنتِ تقرأين هناك؟».

«روايةٌ لوالتر سكوت».

- الآن أستطيع أن أفهم سر توقفاتك المتكررة عن القراءة، فيا له من كاتب ممل.. كحفارٍ ينبش وسط أتربة السجلات مثيرًا للغبار، كمية مرهقة ومبعثرة من الأوصافِ، كومةٌ من الخردة والأشياء القديمة والمُهملة من كل نوع: الدروع، والأطباق، الأوانى الفخارية والأثاث.. نُزُلٍ قوطية، وقلاعٍ ميلودرامية، حيثُ تتجول عارضات يرتدين ملابس ضيقة وصدرياتٍ مبهرجة، ستراتٍ وسراويلَ ملونةً، شخصياتٌ مألوفةٌ لن يفتقدها أيُّ مُنتحلٍ فى الثامنة عشرة من عمره بعد عشر سنوات، ولن يرغب بمعرفة أى شيء عنها.. عشيقاتٌ مُستحيلاتٌ وعشاقٌ مُجردون تمامًا من الواقع، وحب خال تمامًا من أى حقيقة، لا حقيقةَ للقلب، ولا فلسفةَ للمشاعر!

يا له من فرقٍ عن روائيينا الفرنسيين الرائعين، الذين تمتد فيهم العاطفةُ والأخلاقُ حتى إلى وصفِ الأشياءِ المادية، ويسود الشغف دائمًا على الوصف المادى للأشياء! من يُبالى إن ارتدت السيدةُ طوقًا أو كرينولين من تصميم أودينو، ما دام نشيجها مقنعًا، وخياناتها مصدقة؟ ما دام أنها تبكى أو تخون بما يناسبها؟

هل يثير اهتمامك العاشق أكثر لأنه يحمل خنجرًا فى صدريته بدلًا من بطاقة العمل؟! وهل يسبب لك الطاغية الذى يرتدى ثوبًا أسود رعبًا أقل شعرية من الطاغية الذى يرتدى جلد الجاموس والحديد؟

تصدر قريبًا عن دار ريشة للنشر والتوزيع