القارئ الخاسر الأكبر.. كيف أصبحت معايير الترجمة للإنجليزية محبطة للمبدعين؟

ماذا يترجم العالم؟! ولماذا يحظى كتاب أدبى، أو عمل فنى، بالقبول والترجمة والانتشار فى ثقافة مغايرة دون غيره؟! كيف يتم تقييم الأعمال التى تفضلها دور النشر الأمريكية والأوروبية من اللغات التى لا يتحدثها قراؤها؟! وما المعايير المؤهلة لأى عمل أدبى لكى تتم ترجمته؟! هل هى معايير تخص جودة الكتابة والأفكار، أم أن هناك أشياء أخرى تتحكم فى عقول الناشرين والمترجمين والقراء؟!

أسئلة كثيرة حاولت الكاتبة والروائية البلقانية آنا شنابل البحث عن إجابات لها فى مقال نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية صباح الثلاثاء الماضى، خلصت من خلاله إلى أن القراء يخسرون كثيرًا عندما يقرر حراس بوابات الترجمة الناطقون بالإنجليزية ما الكتب التى تبيع وما القصص التى يجب أن تروى.
تبدأ شنابل مقالها بالحديث عن ظروف رحلتها مع تلك الأسئلة التى يبدو أنها لا تخص كتاب ومبدعى البلقان وحدها، وتقول: قبيل دخول العالم فى إغلاقات «كوفيد- ١٩»، حضرتُ مؤتمرًا للكتاب الأمريكيين فى ولاية تكساس، وفيما بين جلسات النقاش والتواصل مع بقية الحاضرين، كنت أقضى وقتى بالتجول فى معرض مصاحب للكتاب، وتصفح العناوين، وسؤال الناشرين: «كم عدد الأعمال المترجمة فى قوائمكم؟ وكيف تكتشفون المؤلفين من خارج الولايات المتحدة؟ كيف تقيّمون جودة الكتابة باللغات التى لا تتحدثونها؟»
لم يكن فضولى هو ما يدفعنى إلى ذلك فحسب، بل كنت كمن وجد نفسه فى مهمة عمل، أردتُ أن أعرف نوع العمل الذى يجذب الناشرين الأمريكيين، وما إذا كان عملى سيُثير اهتمامهم أم لا، ولم أُكلف نفسى عناء إخفاء طموحى فى الترجمة.
ومن الإجابات الكثيرة التى حصلت عليها بقيت إحداها عالقة فى ذهنى كبذرة مغروسة فى الأرض، وهى التى جاءت من ممثل إحدى أكبر دور النشر الأمريكية، فبعد أن شرحتُ له من أين أتيت، مستخدمة عباراتٍ شائعة مثل «جمهورية يوجوسلافيا الشمالية السابقة»، و«ليست منطقة حرب حاليًا»، قدّم لى هذه النصيحة: «فكرى فى قصص ومواضيع خاصة بثقافتك وتاريخ المكان»، فتجرأت وسألته: «إذن، ليست قصة، مثلًا، عن امرأة تركت عملها فى مجال التمويل، وطلّقت زوجها، وأصبحت خزّافة؟»، فكان رده: «حسنًا، إذا تناولت تلك القصة قضاياك الثقافية أو التاريخية أيضًا، فنعم»، ولا أخفى أننى شعرتُ ببعض الانزعاج، لكننى شكرته بأدب وانصرفت، لكننى فجأةً، شعرتُ بأهمية بالغة لتدخين سيجارة، وتناول بعض من القهوة».
فى السنوات التالية، فهمتُ سبب انزعاجى الشديد من كلماته، فقد كشفت عن نمط ما زال يثير إحباطى، إذ إنه بالنسبة للمؤلفين والكتاب القادمين من البلقان، وغيرها من الدول الأوروبية، وغيرها من بلدان العالم التى يشكل تاريخها وثقافتها لغزًا بالنسبة لأمريكا الشمالية، فغالبًا ما يعتمد طريق ترجمة أعمالهم إلى الإنجليزية ونشرها من قبل ناشرين أمريكيين أو بريطانيين على استيفاء شرط واحد ضمنى، يجب أن يقدم عملنا السياق السياسى أو الثقافى لمنطقتنا، أو على الأقل أن يكون مستمدًا من أحداث تاريخية محورية، ولكى ينجح، يجب أن تكون له قيمة تفسيرية أو توضيحية، ويفضل أن يكون ذلك مع لمسة تعليمية».
قال الناشر: «القراء الأمريكيون يحتاجون أن يتعرفوا على المكان»، للوهلة الأولى، يبدو هذا التوقع حميدًا، بل معقولًا، ففى نهاية المطاف، يتأمل الكُتّاب فى كل مكان، بمن فيهم أولئك القادمون من البلقان، فى محيطهم السياسى والثقافى المباشر، إذ لطالما كان الأدب وسيلة لعكس المجتمع وتحليله ونقده، لكن المضمون الأعمق لهذا التوقع أكثر إثارة للقلق، فهو يرتكز على اعتقاد ضمنى بأن البلقان مكانٌ أقل شأنًا، منطقةٌ تغلى دائمًا باحتمالات وقوع مأساة، وكما قال الناشر بصراحة: «من المهم تناول أمرٍ إشكالى ثقافيًا أو تاريخيًا، أو بالأحرى، صادم لكى يكون مثيرًا للاهتمام»، فهل كان يتخيل بكلمة «صادم» أمرًا يخص فظائع الحرب العالمية الثانية أم حروب يوجوسلافيا؟ هل كان يتخيل منطقة غارقة فى الفقر والتفاوت والتقاليد الأبوية؟! ربما كان يفترض أن مجتمعات البلقان معرضة بشكل فريد للعنف أو الأحزان، وربما كان يأمل فى قصص عن خيبة أمل ما بعد الاشتراكية، مما يُرسخ فكرة أننا ما زلنا نعانى من «صدمة» الاشتراكية اليوجوسلافية.. لا أستطيع الجزم بذلك، لكن ما أعرفه هو أنه ما كان ليهتم بنسخة بلقانية من رواية «عام من الراحة والاسترخاء»، وأن رواية عن بطل من البلقان منهك، ببساطة، من الرأسمالية، منغمس فى ذاته، غاضب، أو غامض أخلاقيًا، لن تلبى متطلبات الترجمة إلى لغته، وأنه لسوء حظه، ربما كان سيتجاهل الرواية الهجينة للكاتبة السلوفينية ناتاشا كرامبرجر، التى تولت إدارة مزرعة فى ستيريا السلوفينية، بعد عودتها من برلين، وأظن أنه لن يهتم كثيرًا بالقصص القصيرة للكرواتية لويزا بوهراوة، التى تصوّر قلق وأفراح جيل الألفية، وإن لونتها بألوان البحر الأدرياتيكى، ولا بشعر المقدونية الشمالية كاليا ديميتروفا، فلكى ينجح عملٌ لكاتبٍ بلقانى فى اختبار الترجمة إلى الإنجليزية، والانتشار فى الولايات المتحدة يجب أن يكون بطله ضحيةً، ضحيةً واضحةً وبصورة لا لبس فيها.. الناشرون يفضلون القصص التى تُثير التعاطف، والسخط الأخلاقى، والأسى، ويا حبذا لو كانوا الثلاثة معًا.
باختصار، فالمتوقع منا نحن كُتاب البلقان أن نتناول المواضيع العالمية كالحزن، والاغتراب، والحب والفقد، من خلال منظور إقليمى ضيق، ويجب أن يتضمن هذا المنظور انحرافًا ذاتيًا غريبًا.
ولكى يكون الأمر أكثر وضوحًا فإن البلقان منطقة فريدة بتعقيداتها الثقافية والسياسية والتاريخية، ولدى كُتّابها الكثير ليقولوه، وكثيرون منهم يبدعون فى ذلك. لكن إذا كان القصد من الترجمات إلى الإنجليزية توسيع نطاق المعرفة حول «ذلك المكان البلقانى»، فيجب على الناشرين أن يكونوا على استعداد للتفاعل مع قصص تتحدى المفاهيم السائدة لديهم.
السؤال ليس ما إذا كان على كُتّاب البلقان أن يعكسوا سياقهم، فنحن نفعل ذلك غالبًا، بطبيعة الحال.. السؤال هو إذا ما كان الناشرون الأمريكيون سيُنصتون إلى تنوع الأصوات الناشئة من المنطقة، أم أنهم يفضلون الروايات التى تُعزز افتراضاتهم بوضوح، فالبلقان فوق كل ذلك، منطقة تحمل ما هو أكثر بكثير من مجرد الحكايات الصادمة أو المأساة، أو الحكايات المصممة لغرض التعليم.
فى نهاية المطاف، البلقان أكثر بكثير من مجرد صدماتٍ أو مأساةٍ أو حكاياتٍ مُصممةٍ للتعليم.. هناك أيضًا قصصٌ مكتوبةٌ بشكلٍ استثنائى عن نساءٍ عملن سابقًا فى مجال التمويل، ثم تركن أزواجهن وافتتحن ورشةً للفخار، ودعم ناشرون فى أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة هذه القصص دعمًا كاملًا، ومن هنا جاء فوز جورجى جوسبودينوف بجائزة بوكر الدولية، وبذلك حققوا مهمتهم فى إيصال أصوات من مختلف بقاع العالم إلى جمهور عالمى، ليسوا كسفراء لجغرافيتهم، بل كرواة قصص مستقلين. لكنّ الكثيرين لم يفعلوا ذلك بعد.