الأحد 28 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ونس الست.. كيف يسمع الإيرانيون أم كلثوم؟

حرف

- كان غناء أم كلثوم لرباعيات الشاعر الإيرانى «عمر الخيام» نقطة فاصلة فى علاقة «الست» بالثقافة الإيرانية عمومًا

- «الست» خارج كل الحسابات السياسية فى إيران وما زالت قابلة للاحتفاء والتتويج على مدار السنوات

- بعد مررو كل تلك السنوات ما زالت إيران تحتفى بأم كلثوم

أثناء رحلتى إلى إيران، وتجوالى فى إحدى أسواق طهران القديمة، التى ذكرتنى آنذاك نسبيًا بأزقة قاهرة المعز وحاراتها، دخلت محلًا لبيع شرائط «الكاسيت»، الذى بمجرد أن علم صاحبه الذى تجاوز العقد الخامس تقريبًا، بأنى مصرى، قال مبتسمًا: «أنت من بلاد الأهرامات وأم كلثوم..»، وعرض علىّ مجموعة من الشرائط الممنوع تداولها، والتى كان يخفيها فى مكان ما أسفل طاولة العرض، لمغنيات إيرانيات، مثل «جوجوش، وروح برفر.. وغيرهما»، وكذلك أشعار بأصوات نسائية، مثل الشاعرة الأشهر فى إيران أثناء حقبة السبعينيات «فروغ فرخزاد»، والأهم شريط كاسيت قديم لرباعيات الخيام، بصوت أم كلثوم.

خرجت من محل شرائط الكاسيت، لأجد نفسى أطارد صوت أم كلثوم فى طهران، فقد انتبهت إلى أنى أسمعها كثيرًا، تتردد أغانيها فى الأسواق أو أثناء مرورى بجوار مقهى شعبى قديم، ينفلت صوتها من نافذة بعيدة. فأم كلثوم تتنفس بصوت خفيض فى إيران، ورغم ذلك يظل حاضرًا بقوة، كما فى القاهرة، فصوتها هو الونس الدافئ الذى يشكل خلفية موسيقية لكل مشاهد الحياة. ذلك الونس الذى قد يمنعك من سماع أغنية لأم كلثوم منفردًا، ولكنك تطمئن لمجرد سماع صوتها الآتى من مقهى على ناصية الشارع.

وقد شغلنى منذ ذلك المشهد التأسيسى الذى يرجع تاريخه لعقدين من الزمان تقريبًا، سؤال غاية فى الأهمية، وهو كيف يسمع الإيرانيون أم كلثوم؟ وما عمق تأثيرها على الحياة الموسيقية والثقافية فى إيران، منذ العهد الملكى مرورًا بالثورة الإسلامية وإلى اللحظة الراهنة. وكيف لم يشكل عائق اللغة مانعًا حقيقيًا لهذا التواصل الثقافى والفنى، فإيران دولة ذات رصيد حضارى ضخم ومعقد، ولها حضورها الموسيقى الجيد والمهم، فهل تأثرت بسطوة حضور «الست» الذى سيطر على الحياة الموسيقية فى الشرق؟!.

على بلد المحبوب ودينى 

الحقيقة أنه منذ قيام الثورة الإسلامية فُرضت قيود صارمة على الغناء النسائى فى الأماكن العامة أو أمام جمهور مختلط من رجال ونساء، وصحيح أن هذا المنع لم يتم النص عليه قانونًا، ولكنه أتى نابعًا من تفسيرات دينية وفتاوى آيات الله، بداية من آية الله الخمينى، تلك الفتاوى التى اعتبرت غناء المرأة غير مناسب على المستويين الاجتماعى والدينى. كما أن الظرف السياسى الذى مر على إيران فى مرحلة الثامنينيات والحرب العراقية الإيرانية، جعل النظام أكثر ميلًا للأصوات الذكورية، والأغانى ذات الطابع المذهبى والحماسى، مع خلفية الموقف السياسى ضد حالة النشاط الفنى والغنائى الذى كان يُميز نظام الشاه، ما أدى إلى إبعاد كل المغنيات اللائى كن لهن حضور قوى أثناء العهد الملكى، على الساحة الاجتماعية والثقافية فى إيران. 

ورغم أن تلك القيود قد خفت تدريجيًا منذ التسعينيات وسطوة بعض التيارات الإصلاحية على الحياة السياسية، لكن استمرت مطاردة الأصوات النسائية حتى على شبكات التواصل الاجتماعى أو الإنترنت عمومًا، فتم اعتقال ومنع العديد من المغنيات الإيرانيات اللائى حاولن نشر مقاطع غنائية، فى محاولة للخروج من هيمنة الإطار التنظيمى الذى تفرضه الدولة بهدف السيطرة على صوت المرأة، خاصة بعد ظهور حركات تحررية نسائية أتت متزامة مع مقتل «مهسا أمينى» ضحية شرطة الأخلاق وقانون الحجاب، فالغناء النسائى فى إيران الثورة مفروض عليه قيود غاية فى التعقيد، رغم هامش الحرية والانفتاح الذى يسمح به النظام الآن نسبيًا داخل المجتمع، لكن يظل غناء المرأة من الأمور الشائكة.

الغريب فى الأمر، أن أغانى أم كلثوم لم تشملها تلك القيود بشكل أو بآخر، خاصة أغانيها ذات الطابع الدينى أو رباعيات الخيام أو الأغانى الوطنية، فقد ظلت حاضرة فى الوجدان الإيرانى، ولم يتم التعامل معها بنفس الحدة التى تمت مع المغنيات الإيرانيات.

وحتى نفهم ذلك، دعونا نعود سنوات إلى الوراء، حينما كان شارع «لاله زار» فى طهران، خلال العهد الملكى، أى منذ نحو ستين عامًا تقريبًا، هو المركز الفنى والغنائى الإيرانى، يشبه إلى حد بعيد شارع عماد الدين فى القاهرة، أو الشانزليزيه فى باريس، حيث السينمات والمسارح والملاهى، كانت لياليها مفعمة بأصوات المغنيات، وعروضهن الاستعراضية، والأغانى الشعبية التقليدية أو ما يطلق عليها «ترانه هاى سنتى»، وغيرها من صنوف الفن الغنائى فى ذلك التوقيت. فى تلك الآونة بدأ المجتمع الإيرانى يتعرف على الفن المصرى، سواء السينمائى أو الغنائى، فقد كانت الأفلام المصرية تُعرض فى سينمات إيران بشكل مكثف، وكذلك أغانى أم كلثوم التى نالت شهرة واسعة سواء على مستوى النخبوى أو الشعبى، فرغم اختلاف اللغة، وكذلك اختلاف البناء الموسيقى الإيرانى الذى يعتمد على ما يُسمى الـ«الدستجاه» أو «الجوشه» أو المسار اللحنى المرن والمتسلسل، بخلاف الموسيقى العربية التى تعتمد على المقامات وتنوعياتها والمسار اللحنى المحدد والواضح. إلا أن غناء أم كلثوم كان له سلطانه وسلطنته فى الأجواء الإيرانية، خاصة فى منطقة الأحواز جنوب إيران، التى شكلت بسكانها ذوى الأصول العربية، بابًا ملكيًا لانتشار أغانى الست وترجمتها إلى الفارسية، حتى أصبحت جزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية الموسيقية داخل المجتمع.

ظهر فى ذلك التوقيت، حالة فنية يمكن أن نطلق عليها بكل يقين، مجاذيب أم كلثوم، فقد أصبح تقليد أسلوب أم كلثوم فى الغناء، اعتمادًا على قوة الصوت وقدراته الاستعراضية، هو مدخل لنجاح المغنيات الإيرانيات، أمثال «مریم روح برفر» التى تمثل حلقة الصلة القوية بين الغناء الإيرانى التقليدى / الشعبى، والموسيقى العربية الشرقية، خاصة أم كلثوم، فقد كانت نجمة الغناء الإيرانى فى فترة الخمسينيات والسيتنيات، وأُطلق عليها من النقاد آنذاك «أم كلثوم إيران»، اتسمت بقوة الصوت وطول النفس، والأهم أنها حاولت الخروج من إطار الغناء الإيرانى الترفيهى الذى كان سائدًا، لتختار أغانى ذات طابع فلسفى أو صوفى، كما فعلت أم كلثوم، بل إنها حاولت كثيرًا أن تغنى أغانى إيرانية على ألحان أغانى بليغ حمدى أو السنباطى، مثل أغنية «على بلد المحبوب»، فى محاولة منها لإثبات قوة صوتها بألحان السنباطى أفضل من تعامل مع المساحات الصوتية لصوت «الست»، توفيت «روح برفر» عام ١٩٨٨، خارج إيران، التى هجرتها بعد الثورة تقريبًا، وقد تركت خلفها العديد من التسجيلات التى حاولت فيها إثبات استحقاقها للقب «أم كلثوم إيران».

أجمل حكاية فى العمر كله

أسطورة «الست» لم تقف عند حدود «روح برفر»، فالتنافس على لقب «أم كلثوم إيران» ظل مشتعلًا، بل هذا اللقب فى حد ذاته أصبح مقامًا رفيعًا لا يناله إلا المميزات من المغنيات، فمن ضمن هؤلاء، المغنية الإيرانية «لاله زار» التى كان لها حضور قوى فى مجال الغناء الشعبى فى مرحلة الخمسينيات، وحاولت أن تدمج بين «الدستجاه» الإيرانى و«المقامات «العربية / الشرقية»، ولُقبت شعبيًا بأم كلثوم إيران. 

ولكن المغنية الإيرانية، التى نالت تقريبًا شهرة أم كلثوم فى إيران وخارجها فى زمانها، هى «قمر الملوک وزيرى»، التى بدأت حياتها الفنية تقريبًا بالتزامن مع أم كلثوم، وأطلق عليها النقاد والموسيقيون، خاصة المغنى الإيرانى «غلامحسین بنان»، لقب «أم كلثوم إيران»، ليس فقط لتشابه صوتها مع «الست» ولكن لأن قصة حياة قمر الملوك مشابهة بشكل كبير لحياة أم كلثوم، خاصة فى الجانب المتمرد، ومحاولة إثبات موهبتها النسائية أمام سطوة المجتمع الذكورى المسيطر على الحياة الفنية والاجتماعية، فكانت أول امرأة تغنى دون حجاب فى حفل عام، متحدية سلطة رجال الدين فى الأربعينيات من القرن الماضى، الذين حرّموا بشكل قاطع غناء المرأة حتى لو فى مجتمعات نسائية مغلقة. وتمكنت أن تصل إلى قمة مجدها بواسطة حضورها فى حفلات الأمراء والنبلاء فى إيران، وكانت على دراية قوية بأغانى أم كلثوم، وقد ورد فى كتاب عن قصة حياتها بعنوان «القمر الذى صار شمسًا»، أنها كانت تحتفظ بأسطوانات أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش، وتعلمت العربية من خلالهم، ولها العديد من المحاولات فى الغناء لأم كلثوم بالعربية.

«وزيرى» لم تكن فقط مغنية، فقط كان لها دور بارز فى الحياة السياسية الإيرانية، وحركات التحرر النسائى، وعلاقتها بالسلطة آنذاك معقدة ومضطربة أحيانًا، بل تعرضت للسجن أكثر من مرة، وكانت شديدة العطف على اليتامى والفقراء، وقد ذكرت ابنتها بالتبنى، أن «قمر الملوك»، أصرت على تعليمها العربية من خلال أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب، واستطاعت هذه الابنة بالتبنى «زبيدة جهانجير»، أن تدخل عالم السينما والتمثيل فى إيران، بل إنها قامت بتمثيل دور أم كلثوم فى أحد مشاهد الأفلام الإيرانية التى تم إنتاجها بواسطة الدولة آنذاك، وذلك بفضل تعلمها اللغة العربية، وحفظها لأغانى الست، لسنوات طوال.

الحقيقة أن نهاية «قمر الملوك» كانت غاية فى المأساوية، فجنازتها لم يحضرها أحد تقريبًا من كل معاصريها، وتوفت وهى فى فقر شديد، بل إن العديد من المصادر أكدت إدمانها للمروفين فى مرحلة من حياتها ما أثر على جودة صوتها، ولكنها ظلت أيقونة الفن الإيرانى فى مرحلة الأربعينيات والخمسينيات، وكانت أكثر المنتمين للغناء العربى، مع الحفاظ على الهوية الإيرانية فى الغناء.

برضاك يا خالقى

تعامل الإيرانيون مع أم كلثوم، ليس فقط من باب التأثير الفنى أو الشهرة الواسعة، ولكن قدرة أم كلثوم الغيبية على منح كل ما تقوله معنى وجوديًا وفلسفيًا، فأغلب ما غنت أم كلثوم إن قرأناه كقصيدة أو أغنية عادية، لن يحمل نفس قيمة غنائها له، فهى تمنح الكلام طابعًا أكثر عمقًا، ووجدانًا مختلفًا. وهذا ما أدركه الإيرانيون بدقة، فالثقافة الإيرانية تعتمد فى عمقها على الجانب العرفانى أو الصوفى، وتُقدر للغاية هذا الجانب فى الثقافة والفن العربى، كما أن الأصول الإنشادية التى بدأت بها أم كلثوم حياتها الغنائية منحتها قدرة إلهية خفية على منح كل ما يلمسه صوتها خلودًا أبديًا يصعب تجاوزه. هذا المقام الروحى انعكس بقوة على الأغانى الدينية والفكرية، ما يتسق مع الثقافة الإيرانية فى جانب كبير منها.

المغنى الإيرانى الأشهر «محمد رضا شاجريان» من أكثر المطربين إدراكًا لقيمة أم كلثوم من هذا الجانب، وكان من أشد المعجبين بها، حتى إن حفيدته صرحت فى حديث صحفى، بأن أم كلثوم كانت مطربة جدها المفضلة. و«شاجريان» من الحالات الإيرانية النادرة التى استمرت فى حياتها الفنية بعد الثورة الإسلامية، رغم أن بدايته كانت قبلها بكثير، ولكنه عارض توجهات الثورة القمعية فى بدايتها، خاصة القيود على الحالة الفنية بشكل عام، وانضم للحركة الخضراء عام ٢٠٠٩، وتوفى عام ٢٠٢٠ فى طهران، وظل مناديًا بضرورة عودة الأصوات النسائية للسياق الفنى الإيرانى بشكل عام.

عام ١٩٧٩، سجل «شاجريان»، دعاءً دينيًا عظيمًا، تحت مسمى «ربنا» يستخدم فيه آيات قرآنية متداخلة مع أدعية رمضانية، وظل هذا الدعاء يُعرض فى الإذاعة وعلى التليفزيون الإيرانى لسنوات طوال بعد ذلك، الغريب فى الأمر، أن هذا الدعاء تحديدًا جاء متطابقًا تمامًا من حيث اللحن والمقام مع أغنية أم كلثوم «برضاك يا خالقى»، رغم أنه لم يفصح عن ذلك مطلقًا، لكن نقاد الحركة الموسيقية فى إيران، كانوا يتعاملون مع هذا الدعاء بوصفه تكرارًا صوتيًا لأغنية «برضاك»، وظل الأمر خلافيًا إلى الآن، هل اقتبس «شاجريان» نفس لحن السنباطى فى هذه الأغنية، أم أن التشابه ناتج عن استخدام نفس المقامات الموسيقية التى تُستخدم فى القراءات القرآنية، والتى اعتمد عليها السنباطى فى لحنه، وكذلك «شاجريان» فى الدعاء. خاصة إذا علمنا، أن قراءات القرآن فى إيران، تعتمد فى الأساس على القراء المصريين أمثال الشيخ عبدالباسط والشيخ المنشاوى، وأن لابتهالات النقشبندى حضورًا قويًا فى السياق الدينى الشعبى والرسمى فى إيران. لكن فى كل الأحوال تظل القيمة العرفانية والصوفية لأم كلثوم من أبرز الأفكار التى سيطرت على الإيرانيين فى تعاملهم مع أم كلثوم، وهذا ينقلنا إلى المحطة الأهم فى علاقة أم كلثوم بإيران.

سمعت صوتًا هاتفًا فى السحر

كان غناء أم كلثوم لرباعيات الشاعر الإيرانى «عمر الخيام» عام ١٩٥٠، نقطة فاصلة فى علاقة أم كلثوم بالثقافة الإيرانية عمومًا وليس فقط السياق الغنائى أو الفنى، فلعمر الخيام قيمة عظيمة فى إيران، ويُعتبر من كبار شعراء الاتجاه الفلسفى، وقد حظيت أشعاره باهتمام شديد فى العديد من اللغات والثقافات، ولكن أم كلثوم حملت أشعار الخيام إلى عالم مختلف تمامًا، فقد حولته بفضل ترجمة أحمد رامى، من شاعر الفسلفة العدمية وأحيانًا الأبيقورية، والبحث عن الملذات مقابل عبثية وعدمية الحياة والموت، إلى مرحلة أكثر وجودية وعمقًا، وهذا أعاد تعريف عمر الخيام بل أعاد خلقه من جديد فى كلا الثقافتين العربية والفارسية، فقد كان الخيام حبيسًا لترجمات المتخصصين المصريين أو العرب، وكذلك كانت هناك العديد من المحاولات الغنائية التى تمت فى إيران لأشعار الخيام، ولكن لأن طبيعة أشعاره بلغته الأصلية غير طائعة لطبيعة الموسيقى الإيرانية، توقفت تلك المحاولات مبكرًا. إلى أن أتت أم كلثوم فحولت أشعار الخيام ولأول مرة فى تاريخ إيران، من أشعار إلى نمط غنائى عظيم بتلحين السنباطى، ومنحته خلودًا أبديًا فى الأوساط الثقافية العربية، ما وضع «الست» على قمة الوعى النخبوى الإيرانى.

بالإضافة إلى النقطة الأهم فى تاريخ علاقة أم كلثوم بإيران الملكية، فقد غنت الست فى حفل زفاف الشاه «محمد رضا بهلوى» ولى عهد إيران آنذاك، والأميرة «فوزية» أخت الملك فاروق، وتصدرت عناوين الصحف الإيرانية بأغنيتها التى كانت تقول فيها «مبروك على سموك وسموه.. ده تاج إيران والنيل الغالى»، وكانت من الأغانى ذات الطابع النخبوى ولم يكن لها حضور شعبى، ولكنها أثارت إعجاب العائلة الملكية فى إيران، التى تعرفت على أغانٍ لأم كلثوم قبل هذه المرحلة. ورغم فشل تلك الزيجة نتيجة لشخصية الشاه «محمد رضا بهلوى» غير المسئولة، وبسبب إجبارة على هذه الزيجة سياسيًا، انتهت بالطلاق، ولكن على جانب آخر كان عهد زواج فنى قد ربط الإيرانيين مع أم كلثوم التى أصبحت نجمة شعبية، بالإضافة إلى النخبة.

وتسابقت الصحف الإيرانية للحوار مع نجمة إيران الأولى فى ذلك التوقيت، أم كلثوم، والحقيقة لم يحظ بهذه الفرصة، إلا الصحفى الإيرانى «سید محمد بطحائی» رئيس تحرير لمجلة الأسبوعية الإيرانية تصدر بالشراكة مع الهند، ونشر الحوار فى مجلة «خواندنیها (القراء)» الإيرانية عام ١٩٥٠. والحقيقة تحليل تفاصيل هذا الحوار فى غاية من الأهمية.

فقد قال «بطحائى» ما نصه: «إن مقابلة الملك ذاته أو رجال الدولة المهمين فى مصر أسهل من مقابلة أم كلثوم»، فى دلالة مباشرة ليس فقط على مكانة أم كلثوم فى مصر آنذاك، ولكن على قيمة أم كلثوم فى الوعى الجمعى الإيرانى. الحوار كان قصيرًا جدًا بطلب من أم كلثوم نفسها. سألها الصحفى الإيرانى إن كانت تنوى زيارة إيران؟، فأجابت بأنها سوف تزور إيران قريبًا، وقد تُقيم حفلة غنائية هناك، وأنها على علم بأن الشعب الإيرانى محب للطرب الشرقى العربى، وعلى اطلاع جيد بكل تفاصيل الحياة الثقافية الإيرانية، والأدب الإيرانى خاصة عمر الخيام، وحافظ الشيرازى، وأنها تعتمد فى زيارتها لإيران على أن تكون حلقة وصل جيدة بين الدولتين.

فقد تجاوزت أم كلثوم فى ذلك التوقيت دورها الغنائى، لتمارس دورًا سياسيًا ومؤثرًا، بين مصر وإيران، مدركة أن حضورها فى المشهد الإيرانى، سيصنع احتفالًا على العديد من المستويات الفنية والسياسية والاجتماعية. ومنذ ذلك التوقيت والصحف الإيرانية تتابع حياة أم كلثوم وتترجم أغانيها للجمهور الإيرانى إلى اللغة الفارسية

أعطنى حريتى أطلق يديا

الأمر لم يتوقف عند تلك المرحلة من تأثير أم كلثوم على الحياة الفنية الإيرانية، ولكن عام ٢٠١٧، ظهر فيلم تسجيلى عن أم كلثوم بطولة الممثلة المصرية ياسمين رئيس، والأهم إخراج المخرجة الإيرانية المقيمة فى المهجر تحديدًا فى نيويورك، وهى «شيرين نيشات»، الفيلم تحت عنوان «البحث عن أم كلثوم». تتناول فيه حياة أم كلثوم من زاوية غاية فى الأهمية وهى مقاومة المرأة لكل أنواع الاضطهاد والإقصاء الاجتماعى، وتحاول أن تستخدم أم كلثوم كرمز ناجح عظيم أمام تحديات الحياة فى الشرق الأوسط عمومًا، والحقيقة أن «شيرين نيشات» حاولت أن تستخدم أم كلثوم كرمز سياسى واجتماعى مقنع ضد وضع المرأة فى إيران، كأنها تريد أن تؤكد أن ظروف نشاة أم كلثوم فى بداية القرن العشرين فى مصر، لا تختلف عن وضع المرأة الإيرانية فى القرن الحادى والعشرين تحت حكم الدولة الإيرانية الحالية.

الحقيقة أن الفيلم لاقى نجاحًا بشكل نسبى لدى عرضه فى ألمانيا وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية، ولكنه لم يُعرض فى مصر، بسبب أن الشركة اللبنانية المنتحة رأت أن توزيع الفيلم فى مصر، سيكون كمن «يبيع الميه فى حارة السقايين»، فلا داعى لعرض فيلم عن أم كلثوم فى مصر، وهو ليس إنتاجًا مصريًا، كما أن المخرجة قد حملت شخصية أم كلثوم رمزية خاصة بالمجتمع الإيرانى، بدلًا من صناعة فيلم يتعامل مع شخصية مصرية مؤثرة. ما يعكس أن أم كلثوم قد مثلت قيمة تحررية فى الذهنية الثقافية الإيرانية منذ الأربعينيات، وصولًا إلى اللحظة الراهنة، فكأن شيرين نيشات كانت تسمع بيت الأطلال «اعطنى حريتى أطلق يديا»، كصوت للمرأة الإيرانية.

سنين ومرت زى الثوانى

بعد مرور كل تلك السنوات ما زالت إيران تحتفى بأم كلثوم، فقد صدر عام ٢٠٢٣ كتاب عن حياة أم كلثوم تحت عنوان «كوكب الشرق.. حياة وعصر أم كلثوم صوت العشق والثورة (ستاره ی شرق.. زندگی وزمانه ی أم کلثوم، حنجره ی عشق وانقلاب)»، الكتاب تأليف الباحث الإيرانى «محسن بوالحسنی»، ونشر دار «چشمه» وهى من الدور المهمة فى إيران.

الكتاب يتناول سيرة حياة أم كلثوم بكل تفاصيلها تقريبًا، عن طريق شخصية شاب من الأحواز، يسمع أم كلثوم فى كل تفاصيل حياته اليومية، ويحاول أن يبحث عن سر إعجازها الفنى والروحى. تفاصيل الكتاب تحتفى بشخصية الست بشكل متتابع منذ نشأتها إلى وفاتها، ويبدأ المقدمة بمشهد وفاة أم كلثوم الذى حضره أربعة ملايين مصرى، ليبدأ سرد الحكاية بشكل عكسى. وفى عمق الكتاب يحاول الكاتب أن يسرد تاريخ مصر الحديث والمواقف السياسية لأم كلثوم فى الفترة الملكية وفى العهد الناصرى أو الساداتى، ودورها فى صنع حالة مصرية مختلفة، وانعكاس ذلك على الحالة الفنية فى إيران، ما يعكس نقطة غاية فى الأهمية، إنه رغم الموقف السياسى أو الدينى داخل الدولة الإيرانية من غناء المرأة، ورغم أن النظام فى إيران لم يحتف مطلقًا بأى مغنية إيرانية من العصر الملكى، مهما كانت أهميتها أو قيمتها الفنية، ولكن «الست» خارج كل الحسابات السياسية فى إيران، وما زالت قابلة للاحتفاء والتتويج على مدار السنوات. فقد شكلت رمزية متداخلة فى الذهنية الإيرانية، فهى رمز للفن العظيم الملتزم، والروحانية العليا، وعلى الجانب الآخر هى رمز لكل قوى التحرر.