السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

د. أحمد لاشين يكتب: الموت باسم الرب.. كيف نقل الإيرانيون الحرب إلى ساحات الأدب؟

حرف

- جاءت رواية «الأرض المحروقة» لتحكى تفاصيل رحلة «أحمد محمود» بمنتهى الدقة والواقعية وهى الأقرب لمفهوم أدب الحرب بمعناه الشامل

- رواية «محاق» نشرت عام 1990م لتقدم الواقع الإيرانى المتردى فى العاصمة طهران إبان الحرب العراقية الإيرانية

فى أثناء رحلتى إلى طهران، فى مرحلة التبادل الثقافى فى إطار المؤسسات الجامعية التى تمت بين مصر وإيران، كشكل من أشكال الانفتاح السياسى التى كانت على وشك التحسن فى عهد الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك، والرئيس الإيرانى الإصلاحى الأسبق محمد خاتمى، اضطررت وبطلب من أحد الأصدقاء فى القاهرة، أن أذهب إلى إحدى الهيئات التابعة للحرس الثورى الإيرانى، بهدف الحصول على مطبوعات أدبية تتعلق بأدب الحرب، خاصة أنى لم أجد لها حضورًا فى أسواق بيع الكتب المنتشرة فى ميدان «انقلاب»، «ميدان الثورة»، أو فى سوق الكتب القديمة فى منطقة «التوبخانة».

ووسط دهشة القائمين على البعثة، آنذاك، توجهت بشكل شبه رسمى إلى هيئة مختصة بطباعة أدب الحرب خاصة مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، أو حرب الدفاع المقدس كما ترد فى الأدبيات السياسية الإيرانية، والتى يقودها مجموعة من العسكريين رفيعى المستوى، يقومون بالإشراف على انتقاء النصوص الشعرية والقصصية الجديرة بالتعبير عن مرحلة حرب الثمانى سنوات «1980- 1988م»، بشرط الاتساق مع التوجه الأيديولوجى للنظام الإيرانى، وأتذكر جيدًا كم الحذر الذى تمت معاملتى به، بالإضافة إلى الانتقال من مكتب يشغله قائد عسكرى إلى آخر، لتكرار نفس الأسئلة عن هدفى من اقتناء تلك المطبوعات، وكأنها وثائق سرية، وليست مجرد كتابات أدبية من المفترض أن تكون متداولة شعبيًا.

أغسطس 2000

مصطلح «أدب الحرب» أو «أدبيات الدفاع المقدس» لم يظهر بقوة على الساحة الأدبية إلا بعد مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، خاصة بعد تدخل الدولة بقوة فى توجيه هذا النوع من الكتابة، لغرض الاحتواء أو السيطرة على وجهات النظر المعارضة لفكرة الحرب أو لتوجهات النظام آنذاك، فى محاولة لتقديم صورة مؤدلجة عن فترة الحرب الطويلة التى خاضتها إيران ضد العراق، وصبغتها بصبغة مقدسة تتسق مع توجهات النظام الإيرانى.

ورغم أن الأدب هو انعكاس لطبيعة المجتمع فى لحظة تاريخية معينة، لكن أدب الحروب فى إيران أخد شكلين واضحين فى تلك المرحلة وإلى الآن. الأول: هو الأدب المؤدلج التابع للدولة وتحت إشراف الهيئات العسكرية على رأسها الحرس الثورى، مما أثر على تطور الحياة الأدبية وجودتها فى إيران. والشكل الثانى: هو الأدب الحر الذى حاول تقديم رؤية متوازنة لمشهد الحرب وتأثيرة الاجتماعى والسياسى، ورغم محاولات الدولة فى مرحلة تالية احتواء الأدب غير المؤدلج، بتقديم مجموعة من الجوائز المؤسسية للكتاب وفتح مزيد من الآفاق لحرية الكتابة والتعبير خاصة عن تلك المرحلة الحرجة من التاريخ الإيرانى- لكن ظل هذا النوع من الأدب خارج سيطرة الدولة إلى حد بعيد.

طبيعة تعامل الشخصية الإيرانية مع الحروب تعكس عمق التكوين التاريخى والاجتماعى لإيران بشكل عام، وليس فقط توجهات النظام السياسى، فدائمًا ما يتم المزج بين مفهومى الحرب والاستشهاد المذهبى الذى يشكل جزءًا أصيلًا من العقلية العسكرية والاجتماعية فى إيران، وكذلك استحضار العديد من النماذج البطولية والملحمية التى ما زالت حاضرة فى الوعى الشعبى بقوة، خاصة حينما يتعرض المجتمع لتهديد خارجى، فمفهوم الحرب فى إيران هو امتزاج بين المذهبى والقومى والأسطورى، بشكل واضح، وهذا ما سنحاول رصده على مختلف التوجهات الأدبية فى التعامل الإيرانى مع فكرة الحرب:

رواية «الأرض المحروقة»

رواية الأرض المحروقة «زمين سوخته».. للكاتب الإيرانى المرموق «أحمد محمود»، صاحب الاتجاه الواقعى فى الأدب الإيرانى المعاصر، من حيث اللغة والموضوعات المطروحة فى أعماله، وله العديد من الأعمال التى صنفت نقديًا من أهم الكتابات الأدبية منذ بدايات السبعينيات وإلى الآن. وجاءت روايته «الأرض المحروقة» لتعرض مأساة متكاملة الأركان فى الشهور الأولى للحرب العراقية، فقد قرر كتابتها بعد استشهاد أخيه الأصغر على الحدود الجنوبية فى إقليم خوزستان إيران، فقد كان هذا الإقليم هو أكثر الأقاليم تضررًا فى بدايات الحرب، قبل أن تصل صواريخ النظام العراقى إلى عمق طهران العاصمة.

فلدى علم «أحمد محمود» باستشهاد أخيه من الصحف، قرر أن يسافر من طهران إلى عمق الجبهة الإيرانية فى خوزستان، حتى يتسلم جثمان أخيه، فأغلب الجثامين فى ذلك الوقت كانت تدفن فى أرض المعركة، ولا تُسلم لذويهم، وفى رحلته الصعبة رأى أهوال الحرب ومآسيها، وتأثيرها السلبى على الحياة الاجتماعية فى الإقليم الجنوبى، مع الوضع فى الاعتبار أن إقليم خوزستان بالذات يعانى لسنوات طوال تهميش النظام الإيرانى حتى منذ عهد الشاة، بوصفه تسكنه الأقلية العربية.

جاءت رواية «الأرض المحروقة»، لتحكى تفاصيل رحلة «أحمد محمود» بمنتهى الدقة والواقعية، ورصد من خلالها معاناة المجتمع، وتقصير النظام، والأزمات العسكرية والفشل فى قيادة المعركة فى بدايتها، وتدمير المجتمع. ولدى طباعتها فى ذلك التوقيت لاقت رواجًا عظيمًا، وبيع منها ما يزيد على ١٠ آلاف نسخة فى طبعتها الأولى فقطـ.

وأثارت الرواية ردود أفعال متباينة، كان أهمها هو موقف «على خامنئى» المرشد الحالى للثورة، ورئيس الجمهورية إبان الحرب، والتى اعتبرها بشكل مباشر لا تعبر عن أدب المقاومة أو أدب الحرب، ولكنها رواية ضد حرب الدفاع المقدس، وأصدر قراره بمنع تداولها، رغم أن هذا القرار لم يكن له تأثير كبير فى حجم توزيع الرواية، التى تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات وحظيت باهتمام نقدى كبير.

فرواية «الأرض المحروقة» هى الأقرب لمفهوم أدب الحرب بمعناه الشامل، فرغم أن بطل الرواية هو الأخ الشهيد الذى يبحث الجميع عن جثمانه، ورغم استخدام أحمد محمود تيمة الاستشهاد كفكرة أصيلة فى وجدان النظام الإيرانى الحاكم، لكنه لم يستخدمها بشكل مذهبى، يؤسس للنظام الدينى القائم، بل أتت فكرة الاستشهاد بوجهها الأكثر ألمًا وتأثيرًا، فالمجتمع بأكمله فى حالة استشهاد لصالح قضية لا تعود عليه بمصالح مباشرة. تلك المصداقية هى السبب المباشر فى إغضاب النظام آنذاك.

رواية «الظلام» «محاق».. البحث عن البطل الغائب

إن كانت رواية «الأرض المحروقة» قد تناولت أزمة الأقليات الذى تم تقديمها ككبش فداء فى المعركة، فإن رواية «محاق» أو «الظلام»، ترصد أزمة طهران وهى تحت القصف المباشر من قبل القوات العراقية، الرواية للكاتب الإيرانى «منصور كوشان» المتوفى فى منفاة الاختيارى «النرويج» بعد أن قرر أن يترك إيران عام ١٩٩٨، بعد مرحلة اغتيالات المثقفين التى تمت رغمًا عن رئيس الجمهورية آنذاك «محمد خاتمى» بواسطة بعض القطاعات الخاصة داخل الأجهزة الأمنية، كما اتضح بعد ذلك من التحقيقات، ونتيجة لموقفه المعارض من النظام الإيرانى قرر أن يغادر إيران ويمارس دوره الثقافى من الخارج.

رواية «محاق» نشرت عام ١٩٩٠م، لتقدم الواقع الإيرانى المتردى فى العاصمة طهران، إبان الحرب العراقية الإيرانية، تدور أحداثها عن بطل الرواية الذى يبحث عن صديقة الذى اختفى تحت القصف العراقى لطهران، فى بدايات الحرب، ولم يتمكن من العثور عليه، واضطر أن يترك طهران ليذهب إلى أقليم تركمانستان، حيث أقام هناك مع أسرته، ثم يقرر أن يُرسل زوجته وأولاده إلى ألمانيا، ليعود هو ثانية إلى طهران، حتى يُكمل رحلة البحث عن صديقه، الذى لم يتمكن من العثور عليه حتى نهاية الرواية. فالأحداث لم تُقدم لنا إجابة شافية عن مصير البطل الغائب، فهل انتحر كما ورد على لسان أخته، أم تم القبض عليه، أم مات تحت أنقاض القصف؟، نهاية مفتوحة تليق بمأساة.

الرواية تعكس الواقع الاجتماعى والثقافى المأساوى بطبيعة الحال فى إيران وقت الحرب وما تلاها من اضطهادات واسعة للتيار المعارض للحرب، ولسياسة الدولة الإيرانية فى تلك المرحلة، الصورة القاتمة التى قدمتها الرواية من أنقاض فى كل مكان، والقمامة المتراكمة فى الشوارع الرئيسية، وملامح الناس المظلمة، وحالات السرقة والعشوائية التى تحكم المدينة، وحالات القبض العشوائى للمثقفين والكتاب، بالإضافة إلى محاولة الكاتب تقديم الهجرة كحل أخير ووحيد فى ظل حالة الفشل التى تشمل كل القطاعات، كل تلك التفاصيل وضعت رواية «محاق» فى مصاف الروايات الأولى لأدب الحرب فى إيران، خاصة مع استخدامه فكرة الغيبة والعودة، التى تسيطر على الفكر الشيعى، والوجدان الشعبى بشكل عام. فكأن الرواية قررت هدم فكرة الغيبة أو البحث عن الخلاص فى عودة الغائب، فالحرب كشفت عورات المجتمع وفشل النظام.

مجموعة «النيران المفتوحة».. الحرب سبيل الخلاص

المجموعة القصصية «النيران المفتوحة» للكاتب الإيرانى «كورش أسدى»، الحائز على جائزة النقاد لعام ٢٠٠٣، تجسد فكرة الأدب المؤدلج إلى حد ما، فالمجموعة تحتوى على ٧ قصص قصيرة، ترصد تأثير الحرب على المجتمع الإيرانى، ولكن من منظور أكثر إيجابية، فمن ضمن المجموعة نجد القصة القصيرة «الخنجر» التى تحكى عن ثلاثة أصدقاء شاركوا فى الحرب العراقية الإيرانية، وأُصيب أحدهم بحالة نفسية سيئة، وأورثته خوفًا مرضيًا، يجعله يحمل خنجره بشكل دائم فى انتظار العدو، ولا يكاد يبرح مكانه فى منزلة خشية هجوم الجيش العراقى، واختار الصديق الثانى أن يترك البلاد إلى غير رجعة، أما الثالث وبعد رحلة مضنية فى محاولة شفاء صديقة، يصل إلى نتيجة مفادها، أن الحرب كانت هى البداية الجديدة لمن يتمكن أن يراها من منظور مختلف، فهى أخرجت روح الاستشهاد والقوة من داخل الروح الإيرانية الحقيقية، فقد قرر الكاتب أن ينتصر لفكرة الدولة على أزمة المجتمع التى عانى منها لعقود طويلة وما زال جيل الحرب العراقية قائمًا يعانى ويلات الحرب على المستويين النفسى والاجتماعى، فالقصة فضلت مصير الصديق الثالث ضد الصديق المريض والآخر المهاجر.

 

«رواية حكاية الشتاء».. الحرب المقدسة وآل البيت

هذه الرواية لكاتب يُدعى سعيد عاكف، وهو ليس من الأسماء ذات الحضور الأدبى المهم فى إيران، ولكن كل كتاباته تدور فى إطار الحرب العراقية الإيرانية، وكل أعماله من نشر هيئة «الدفاع المقدس» أو الدور التى تتبعها، وتُعد نموذجًا حيًا لفكرة الأدب المقصود أو الكتابة التى تتم تحت رعاية الدولة، فالدفاع المقدس يقوم بنشر العديد من الأعمال الأدبية والفكرية فى خدمة أيديولوجية الحرب كما تبناها النظام الإيرانى مباشرة.

تدور الرواية عن قصة مجند إيرانى شارك فى الحرب العراقية الإيرانية، وتم أسره بعد ما أظهر من البطولات الملحمية الكثير، فيتعرض لكل أدوات التعذيب داخل السجون البعثية العراقية، لينتهى به الحال داخل إحدى المقابر الجماعية، التى كان الجيش العراقى يلقى فيها الجنود الإيرانيين أحياء أحيانًا «كما تزعم الأدبيات الإيرانية»، ولكن ونتيجة لإيمانه الشديد بآل البيت وتضرعه الدائم بالأئمة، يخرج من المقبرة الجماعية حيًا بعد رؤية يرى فيها الإمام المهدى وهو يأخذ بيده، ليقص علينا قصته بهذا الشكل.. الكاتب يشير إلى أن تلك القصة واقعية من ملفات الحرس الثورى إبان الحرب، ليُضفى على القصة مزيدًا من الإثارة الدينية والعسكرية.

هذا النوع من الكتابة يلقى رواجًا كبيرًا بين صفوف الحرس والحوزة الدينية، ويسيطر على قطاع كبير من المجتمع ذوى الميول البسيطة فكريًا. خاصة أن قصص الشهداء فى المعركة ومعجزات عودتهم من عالم الموت، ومزج تاريخهم برضا الأئمة الشيعية، كانت تروى على المنابر وأمام شاشات التلفاز فى تلك المرحلة، وكذلك يُروج لها كتابة عن طريق الأدب المدفوع مقدمًا بتوجهات الدولة.

الخلاصة:

شكلت الحرب العراقية الإيرانية، مساحة أدبية واسعة، سواء المناصرون لتوجه الدولة، أو المعارضون لها، لكن برصد تلك التوجهات وبتحليل لبنية النصوص الأدبية المقدمة، نستطيع الوصول إلى طريقة التفكير الإيرانية فى فكرة الحرب بشكل عام، فالشخصية الإيرانية أميل دائمًا لفكرة خوض المعارك المباشرة، أو على الأقل الترويج لذلك بأشكال مختلفة، فالحرب جزء أصيل من تكوين الوعى الإيرانى، سواء الأسطورى أو المذهبى، وانعكس ذلك سياسيًا واجتماعيًا، فرغم معاناة المجتمع من ويلات حرب الثمانى سنوات، لكن تظل لدية الرغبة الدائمة فى تمجيد المعارك والتغنى بها.

أتذكر جيدًا المشرف على بعثتنا إلى إيران، الذى أصابه حزن شديد حينما تحدثت معه عن رغبتى فى الحصول على الكتابات الخاصة بأدب الحرب، فقص على استشهاد صديقيه المقربين، وكيف نجا من الموت بمعجزة، قبل انضمامه إلى الحرس الثورى بشكل مؤسسى، وسبب إدمانه للمخدرات والأفيون تحديدًا فى فترة طويلة من حياته، وعجزه عن الزواج بسبب إصابته فى المعركة، وهو ابن العشرين من عمره، ولكن ورغم المأساة، ما زال يضع مسدسه تحت وسادته فى انتظار معركة قادمة.