ليلة من صنع الله

1
نبهها صوت سعال متقطع إلى أن دفء الشمس يختنق، وأن برودة الليل بدأت تجثم على أنفاسه. أسرعت إلى النافذة ولما أطلت منها كان آخر شعاع للشمس يترنح، بينما أمه السيدة العجوز التى تلون السماء بدمعها البرتقال تجذبه إليها، وتعده بحياة جديدة فى مكان آخر.
أغلقت النافذة، و أمسكت بزجاجة دواء أمها، رجتها قبل أن تعطيها ملعقة كبيرة، ومع الرغاوى المتصاعدة كانت تطفو أمانيها وأحلامها التى تنثرها على أرض الحكايات وتنتظر ثمارها..علاجًا أفضل لوالدتها.. مدرسًا خصوصيًا لشقيقتها.. وبقليل أو كثير من الأنانية غلاف كتاب يحمل اسمها، وبين جنبيه قصصها التى توزع مخطوطاتها على من تعرف.. وقد لا يسلم الأمر من حوار أو صورة فى جريدة أو لقاء على شاشة مضيئة.
فالبنت التى تعلمت نقش الحروف منذ عشرين عامًا، واكتشفت أنها تستطيع أن تمنح حروفها ألوان قوس قزح، وتبث فيها ارتعاشات الروح، كانت تقف على عتبة العالم المسحور، وفى أنحائه الأربع كانت تتدلى أساطير الحكايات يغزلها ماركيز ومحفوظ وكزانتكس وإدريس ووجوه أخرى لبشر يملكون أرواحا بسخاء القطيفة ورهافة الحرير.
وكان فى حقيبة البنت خمس حكايات ودعوة لحضور حفل ختام مؤتمر الرواية، وبلهفة المسحورين كانت تتهيأ للخروج ببلوزة بيضاء، وما عدا ذلك بنفسجى فاتح: البنطلون والحقيبة والصندل.
سألتها أختها وهى تحفظ جدول الضرب:
ـ هل سنراك فى التليفزيون؟
هزت رأسها نفيًا.
ـ الوزير هو الذى يظهر والفائز أيضا.
قاطعتها أمها:
ـ لكنى رأيتك بالأمس فى النشرة تمرين مسرعة على الشاشة.
وقبل أن يباغتها السعال سألتها:
ـ يا ابنتى لمَ لم تنتظرى قليلًا؟، أنت دائمًا مستعجلة.
ابتسمت لأمها وتنهدت.. حاضر وهى تغلق الباب.
2
الساعة السادسة والأشجار المتشابكة على جانبى شارع خسرو تؤكد سطوة الليل، بينما صفحة السماء ما زالت نجومها تلهث واحدة خلف الأخرى كى تلحق مكانها، وفى عجلتها تحيى كل نجمة الأخريات بوميض متقطع تلتقط معه أنفاسها.
حذرها صوت عربة خلفها أنها تسير فى منتصف الشارع، فصعدت إلى الرصيف الواسع سكن صوت العربة موازيًا لها، وارتفع صوت الولد الذى كانت تعرفه وهو يفتح باب التاكسى.
- سأوصلك.
ترددت- سأركب المترو.
لم ييأس- أوصلك للمترو.
ركبت، كانت تشفق عليه.. الولد الذى كانت تلعب معه فى السابعة، ويختلق الأولاد أن بينهما قصة حب، وأنهما يلعبان عريس وعروسة فى بئر السلم. وعندما حاصرها ما يقولون تحدتهم:
-هل شاهدتمونا..؟
أخرس سؤالها الأولاد، انتهت الحكاية، لكن الولد كان قد رشق فى قلبه سهم عينا
القطة الشرسة.
أمسك بيديها.
- لا أقرأ ما تقرئين، ولا أعرف الذين تكتبين عنهم، وأعلق شهادتى على الحائط، وأسوق التاكسى لكنى أحبك.
- لا يكفى.
كانت قاسية، وكانت مرتبكة أمام قسوتها التى تفاجئها هى نفسها عند المنعطفات، حتى أن سيارة الأجرة عبرت محطة المترو واتجهت نحو الكبريتاج، واتخذت طريقها إلى وسط البلد دون أن تطلب منه أن يقف.
كيف تشرح له أنها تريد أن تطير، وأنها تصنع لنفسها جناحين، ومع كل حرف تقرأه أو تسمعه تضيف للجناحين ريشة جديدة.
تجمع فى حدقتها زحام السوق فى شارع زكى، تميز بمهارة بين إحباطات العاطلين أمام سينما ماجدة وفرحة المحبين لذكرى أول فيلم، وتشابك الأصابع ولمس الشفاه فى ظلام البيوت المغلقة على أسرارها التى تمر مسرعة خلف رأس مجهد يستند إلى زجاج عربة مترو. تملأ خياشيمها برائحة الخبز، واللبن الطازج، والجبن القديمة، وروائح الجوع والعرق وسعال أمها، ورائحة الأحذية المتعبة فى آخر مترو. وكلما امتلأت فاضت روحها بحروف سوداء على ورق أبيض.
هى فقط تغزل ما تراه وتنسجه، وفى الوقت نفسه هى كل أبطالها.. كل المحزونين وكل المسرورين.. فلماذا يريد لها أن تكون جزءًا من الحكاية.
وصلا إلى دار الأوبرا همس لها:
- سوف أنتظرك.
هزت رأسها غير مقتنعة.
3
نافورات المياه تتراقص، وأم كلثوم تعتصر منديلها، بينما صوت بيانو ينساب من المكتبة الموسيقية وقادمون يأتون مجموعات أو فرادى مترددين أو واثقين، وما إن دخلت المسرح الصغير حتى ارتدت وجه قطة تتحسس طبقًا خزفيًا به حليب دافئ ومنثور على وجهه فتات خبز فى ليلة شتاء بارد، بعينيها بحثت عن كرسى، كان المكان مزدحمًا حد الاختناق.
أنقذها أحد الزملاء فى المجلة التى تترجم لها بعض الموضوعات بالقطعة، كان يحجز مكانًا لفتاة جميلة تجلس بجواره فلما رآها حائرة تمتم:
- لا بأس.
جاءت جلستها فى أول مقعد فى الصف الذى يتقدم الأخير بثلاثة مقاعد، ولحين يبدأ الحفل طافت روحها بين الصفوف تتعرف على ملامح الحضور، كانت همسات الحاضرين كطنين نحل محبوس فى خلية سيئة التهوية، بدأ الحفل وصعد أعضاء لجنة التحكيم.. تزايد الهمس.. اللجنة محترمة، من سيفوز..؟ وأعلن اسم الفائز..
ارتفع التصفيق ومعه اضطرب الهمس.. يستحق، لا يستحق، طبعًا يا عم اشتروه..
صعد على المسرح بقميص لبنى اللون وخطوط رفيعة بيضاء يملأ فاترينات وسط البلد ومكتوب عليه ٣٩.٩٠ جنيه وبنطلون أزرق لا يزيد على ٦٠ جنيهًا، كان شديد التميز وسط أناقة بدل باريسية أو إيطالية التوقيع.
جسده نحيل، وكتفه متهدلة، مع انحناءة خفيفة أعلى الظهر توحى بأن ذراعيه أطول مما ينبغى، عنقه أضعف من رأسه الذى يثقله شعر أجعد يشبه مع رقبته فطر عش الغراب الذى انتهت من ترجمة وصفة لحشوه مع اللحم المعصج فى مجلة FAMILY CIRCLE منذ يومين.
سلم عليهم بأصابع تسكنها العجلة واللا مبالاة، ألقى على الطاولة الدرع والشهادة، بدأ كلامه مهتزًا مضطربًا، ثم تصاعد الكونشرتو فترنحت الجماهير منتشية وتحركت ذراتهم الموروثة فدمعت عيون وهتفت حناجر وتبسمت شفاه، ولما انتهى الرجل كان القوم سكارى، والبنت مبهورة بهذا الصخب، متوقعة ثورة فرنسية أو حتى عرابية، ولكن حدث ما توقعه أحدهم وهو يهمس لها: هذا سيقسم المثقفين.
فعندما خرجت إلى ساحة المسرح المكشوف كان المثقفون يتكلمون وهم منقسمون الى مجموعات، بعضهم يملأ طبقه بيتى فور، والآخر باتيه، ومجموعة تناصر الساليزون، يأكلون من مال الجائزة التى صفقوا للرجل لأنه رفضها.
أربكها المشهد طويلًا فتنحت إلى جوار عمود ترقب الرجل وحوله عشرات يقبلونه، رجالًا ونساء.. كان بعيدًا عن عالمها السحرى، قرأت له رواية واحدة ولم تستطع أن تكمل الثانية، أزعجتها واقعيته فى تصوير عالم السجن، فلم تقترب منه، فقط فتحت له جيبًا سحريًا فى قلبها يسكنه.. لوثر كينج، الحلاج، عرابى.. كل الذين رضعوا الحكايات الأسطورية، ولم ترتعش أصواتهم أمام سوط أحكام التاريخ.. وكل المهزومين الذين تتأرجح أرواحهم بين عروش النبالة ومشانق الخيانة.
4
الحادية عشرة مساء وحلوان كما هى منذ تركتها من خمس ساعات.. صخب البائعين: الليمون شنطة بجنيه، عسلية وحلاوة للأولاد، والسور الحديدى الذى أقامته الحكومة كى تجعل للمحطة حرمًا أكبر يتهاوى تحت تجاهل الباعة والزبائن الذين يفترشون كل مكان، ويساومون على سعر أى شىء عدا صرخة المصادرة بـ٢.٥ كل حاجة بـ٢.٥.
ذابت البنت فى زحام العائدين، أسرعت تخرج من عنق الزجاجة فى أول شارع مصطفى المراغى، وإذا بيد تلمس كتفها ووجه أسمر يبتسم:
- كيس الكيك يا أستاذة..
كانت قد اعتادت شراء الكيك المتبقى من الحفلات الكبيرة بين الحين والآخر كى ترضى أختها.
ترددت.
- يا أستاذة آخر كيس احتفظت به لك مع أنك تأخرت.
أخرجت من حقيبتها الجنيهين، وعند أول صندوق قمامة على ناصية شارع خسرو ألقته فيه.