المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حجازى المقيم فى عالم الأساطير

أحمد عبدالمعطى حجازى
أحمد عبدالمعطى حجازى

- أتاحت لى جلسات التسجيل فرصة ذهبية للاقتراب إنسانيًا من هذا الشاعر العظيم

- حيوية حجازى وقوة طاقته الداخلية وراء استخدامنا «الكاميرا المحمولة باليد»

عرفت صورته من مقاله الأسبوعى فى جريدة الأهرام التى كان يُحضرها أبى كل يوم معه وهو عائد من العمل. 

وقتها كنت بدأت «أفك المعنى»، فقد كانت كلماته وأفكاره أكبر من إدراك الصغيرة التى كنتها، والتى تعلمت «فك الخط» قبل السادسة من العمر. 

ولأن كل ما هو مكتوب مقدس، لذا كان ولا يزال أحمد عبدالمعطى حجازى هو إحدى أساطير الطفولة والصبا. 

قرأت اسمه فى مقرر اللغة العربية فى الصف الثالث الثانوى أوائل التسعينيات، واقترن اسمه بالشاعر صلاح عبدالصبور، كرائدين لحركة التجديد فى الشعر المعاصر.

لم يكن هناك نموذج لشعر التفعيلة ولا لشعر حجازى فى الكتاب المدرسى. 

لكن الاسم والقيمة انطبعا فى عقلى وروحى. 

ومضت الأيام.. وظل الاسم أحمد عبدالمعطى حجازى، قابعًا فى خزانتى السحرية، وزاد من ابتعاده عندما رأيت صورته، ملامحه حازمة فيها اعتزاز وشموخ، نظرته حادة ثاقبة، تخلو تعبيرات وجهه من الأريحية أو التباسط، ورأسه الحليق تمامًا، كان كاهنا فرعونيًا يحفظ فى قسماته إرثًا وأسرارًا تليق بكتب التاريخ. 

أعجبتنى عناوين دواوينه: مدينة بلا قلب، ولم أصدق حيرة أو شكوى الفتى القروى من المدينة. 

هذه الأناقة الباريسية فى الملابس والدقة والجزالة اللغوية فى مقاله الأهرامى، وهذه الفصاحة والفخامة فى الأداء الشعرى، لا يمكن أن تكون امتدادًا لحيرة أو توهان فتى مدينة بلا قلب، تلك ليست تجربة «إمام» فى شباب امرأة، وليس انبهار القروى الساذج بأضواء المدينة، إنها حيرة وجودية مجازية، رغبة برومثيوس فى سرقة النار، الصعود لجبل الأوليمب، البحث عن مكان على تلة الخالدين. 

مرت سنوات والتقيت به لأول مرة فى عام ٢٠١٨ فى صالون حجازى فى بيت الشعر، وكان الاحتفال بمرور ٧٠ عامًا على نشر ديوانه الأول، واستمعنا إلى قصيدته الأيقونة الطريق إلى السيدة، وتحدثت فى الجلسة عن سوء حالة تدريس مقرر الأدب فى المناهج الدراسية. 

خلال تلك الجلسة.. لم تتغير صورة حجازى فى ذهنى، ظل كاهنًا مصريًا لا يبارح غرفة الأسرار فى المعبد الكبير. 

وعندما بدأت فى تقديم برنامج «أطياف» على شبكة تليفزيون الحياة، كان أول من فكرت أن أستضيفه، ولكن توقيت وفاة السيدة زوجته الدكتورة سهير عبدالفتاح حال دون أن يكون الحوار معه مفتتح حلقات البرنامج. 

انتظرت حتى يحين الوقت المناسب لترتيب موضوع الحوار معه، وبمجرد معرفتى بعودته للمشاركة فى صالون حجازى حتى تواصلت مع الصديق الشاعر السماح عبدالله كى ينقل للأستاذ هذه الأمنية، وفعلًا رحب الأستاذ بفكرة اللقاء. 

تواصلت معه تليفونيًا، جاءنى صوته عبر الهاتف رخيمًا، كلماته منتقاة، بذوق ورقى، أداؤه رصين مُتباهٍ بأصالة علامته، تلونه نقاط تحدد نهايات الجمل بحسم فاخر، لكن أذنى التقطت من بين نقاط الوقوف الإجبارى فواصل معلقة، صحيح أنها قليلة، لكنها تسمح بالأمل فى امتدادات ومساحات لتواصل روحى وإنسانى أرحب مما كنت أتمنى. 

اتفقنا على موعد لزيارته فى مصر الجديدة للدردشة فى محاور الحوار، وبالفعل تم تسجيل الحلقة، وقد فوجئ الأستاذ بانتهاء وقت التسجيل، وعبّر عن استعداده أن يمتد الحوار وأن نسجل حلقة ثانية، لكن لظروف متعلقة بحجز الاستديو، لم نتمكن من تحقيق ذلك مع شعورى بالأسف.

من هنا تولدت فكرة تقديم فيلم وثائقى يقدم مسيرة الشاعر الكبير، كنت قد أسست شركة سيا - Sia للإنتاج الفنى عام ٢٠٢١، وبدأت فى إنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية القصيرة بخطى متأنية لكنها متصاعدة. فأخذت موافقة الأستاذ حجازى على قيام سيا –sia بإنتاج فيلم وثائقى عن سيرة حياته، وبعد أن تولى الصديق العزيز شريف سعيد رئاسة القطاع الوثائقى، والذى يجمع بيننا وشائج الكتابة الروائية والدراسة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، عرضت عليه الفكرة فرحب بشدة، ورأى فى توثيق سيرة حياة وشهادة الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى تحقيقًا لأحد أهداف القناة الوثائقية المصرية فى الحفاظ على الهوية المصرية الوطنية، ورشح لى المخرج محسن عبدالغنى الذى سعدت بالعمل معه لدأبه الشديد ولتفهمه لقيمة ومكانة الشاعر الكبير وإدراكه لأهمية هذا الفيلم.

بدأنا تصوير الفيلم فور موافقة القناة الوثائقية على المعالجة والميزانية المقترحة للتنفيذ، وقبل أن أوقع عقد الفيلم أو أستلم دفعة التصوير الأولى، كان اليوم الأول من أيام التصوير فى جريدة الأهرام حيث أقامت الجريدة احتفالية بدخول الأستاذ حجازى عامه التسعين، وقد دعت إليها عددًا محدودًا من كبار كتاب الأهرام وأصدقاء وتلاميذ الأستاذ حجازى وقد كان تحديد موعد الاحتفالية مساء الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠٢٤ هو الدافع لهذه الخطوة المبكرة لأهمية الاحتفالية فى توثيق مسيرة الأستاذ. 

وبالفعل استخدمنا كلمة الأستاذ حجازى فى نهاية الفيلم وقد لقيت استحسان عدد كبير ممن شاهدوا الفيلم ووصفها صديق عزيز بالخاتمة «العبقرية». 

استغرق التسجيل مع الأستاذ حجازى فى بيته أربع جلسات تصوير، تضمنت كل جلسة مرحلة من مراحل حياته. 

المرحلة الأولى: النشأة والطفولة والتعليم فى تلا وشبين الكوم. 

المرحلة الثانية : القدوم للقاهرة والعمل فى الصحافة وإصدار الديوان الأول والمعارك الشعرية. 

المرحلة الثالثة: السفر لباريس، والغربة مدة ١٧ عامًا. 

المرحلة الرابعة: العودة لمصر وتولى رئاسة تحرير مجلة إبداع. 

واتفقت مع الأستاذ على يومى الأربعاء والجمعة على مدى أسبوعين. 

كنا نتجمع أمام العمارة التى يسكن بها الأستاذ فى شارع الحجاز بمصر الجديدة فى العاشرة والنصف صباحًا، وبسبب دقة الأستاذ وهيبته، كان «الكرو» يرفضون الصعود إلى شقته فى الدور الخامس لتجهيز مكان التصوير وضبط الإضاءة وزوايا التصوير قبل وصولى واتصالى بالأستاذ لاستئذانه فى الصعود. 

أتاحت لى جلسات التسجيل فرصة ذهبية للاقتراب إنسانيًا من هذا الشاعر العظيم، ورأيت من سلوكه الراقى ما يدل على نبل وتواضع وحكمة تليق بالكبار. 

رأيت على مكتبه ما لا يقل عن عشرين كتابًا جمعها من مكتبته كى يتجهز لكتابة مقاله عن صلاح جاهين فى ذكراه، رغم أنهما «رفاق درب» وجمعت بينهما صداقة طويلة وتجربة مهمة فى مجلة روزاليوسف، وكان يكفيه أن يكتب عن ذكرياتهما معًا، لكنه يدرك أهمية ما يكتب وقيمة المساحة الممنوحة له من صحيفة الأهرام ويحترم القارئ الذى يكتب له، فيبذل جهدًا ويقرأ ويحلل ما كتب عن شعر صلاح جاهين.

كتابة حجازى ليست للمسامرة أو تزجية الوقت لكنها دروس وخلاصة جهد وتفكير وإعمال للعقل، هو رجل عاش عمره من أجل الشعر والكلمة، ومعاشه ودخله الشهرى يعتمد على استمراره فى كتابة مقاله الأسبوعى للأهرام.

والأستاذ رجل منظم جدًا ودقيق فى مواعيده، وعندما اختار يوم الأربعاء والجمعة لعدم تعارضهما مع موعد كتابته وتسليمه لمقال الأهرام، وعند انتهاء موعد جلسات التصوير كان ينبهنا لاستنفادنا لوقتنا، وأن لديه التزامات وارتباطات أخرى يحترمها سواء كانت عائلية أو موعد مع الكتابة. 

وأحيانًا كان موعدنا المحدد ينتهى دون أن نكون أكملنا تسجيل توثيق بعض الصور أو الكتب أو اللوحات، فكنت أتحايل على صرف ذهن الأستاذ عن انتهاء موعدنا حتى ينتهى الزملاء من مهمتهم بأن أشغل له الفلاشة التى أحضرها له كل جلسة بمختارات من أغانى عبدالوهاب، فكان بعد الانتهاء من تسجيل شهادته، يستمع لقصائد عبدالوهاب: الجندول، الكرنك وغيرهما من روائع القصائد المغناة، وكانت هذه الحيلة تنجح فى أن نكسب بعض من الوقت لإنجاز مهمتنا التى شهدت مفارقات لطيفة، منها وجود قط حفيد الأستاذ فى إحد مرات التسجيل، وطبعًا كان صوته يفسد التسجيل، فلم نجد مفرًا من الاستعانة بمدير الإنتاج العزيز عبدالرحمن أبوعافية كى يجلس بالقط فى البلكونة حتى ننتهى من جلستنا.

ذكريات كثيرة ودروس مهمة تعلمتها من الأستاذ ومن كل الأساتذة الكبار من النقاد والشعراء الذين وافقوا مُرحبين على المساهمة فى هذه الوثيقة عن حياة حجازى الشاعر الأكبر الذى أطلق عليه ناقدنا الكبير د. محمد عبدالمطلب مدينة الشعر. 

ممتنة لكل من شارك فى هذا العمل بالدعم والمساندة والمحبة، وهم: ماجد منير، رئيس تحرير صحيفة «الأهرام»، والناقد الأدبى د. رضا عطية، والشاعر والناقد الأدبى شعبان يوسف، والشاعر ورئيس تحرير مجلة «إبداع» إبراهيم داود، والكاتب الصحفى محسن عبدالعزيز، والشاعرة زيزى شوشة، ود. محمد عبدالمطلب، أستاذ البلاغة والنقد الأدبى بجامعة عين شمس، ود. سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة، ود. زينب فرغلى، أستاذة البلاغة والنقد الأدبى بجامعة المنيا، ود. حسن طلب، الشاعر، وأستاذ الفلسفة بجامعة حلوان، والشاعر والكاتب الصحفى عبدالوهاب داود، ود. كاتيا غصن، مديرة قسم الدراسات العربية بجامعة باريس ٨، ود. إيدى ناصر، محاضر فى قسم الدراسات العربية بجامعة باريس ٨، والروائى د. خليل النعيمى.

وأتمنى أن أكون قد وفقت فى تعظيم لمحة عن حياة رجل كان ولا يزال بالنسبة لى القادم من عالم الأساطير.