الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

من كتاب «محمد عبدالعزيز.. عمر من السينما» للكاتب أسامة عبدالفتاح

ثنائية عادل إمام.. رحلة محمد عبدالعز يز مع الزعيم

محمد عبدالعزيز
محمد عبدالعزيز

- قدم عادل إمام مع محمد عبدالعزيز عددًا من الشخصيات الصادقة القريبة إلى القلب بعيدًا عن أدوار الصعلوك الساعى للصعود الاجتماعى

- محمد عبدالعزيز وعادل إمام حاولا التعبير عن الطبقة المتوسطة التى ينتميان إليها وطَرْح أزمتها ومعاناة أبنائها المتعلمين

لا يمكن استعراض مسيرة المخرج محمد عبدالعزيز دون التوقف عند تجربته مع النجم عادل إمام.. والعكس صحيح؛ بمعنى أن تقييم مشوار «إمام» لا يمكن أن يكتمل إلا بتحليل تعاونه مع «عبدالعزيز»؛ حيث قدما معًا 13 فيلمًا روائيًا طويلًا، هى بترتيب عرضها التجارى: «جنس ناعم»، «البعض يذهب للمأذون مرتين»، «المحفظة معايا»، «قاتل ما قتلش حد»، «خلّى بالك من جيرانك»، «غاوى مشاكل»، «رجل فقد عقله»، «انتخبوا الدكتور سليمان عبدالباسط»، «على باب الوزير»، «عصابة حمادة وتوتو»، «مين فينا الحرامى»، «خلّى بالك من عقلك»، و«حنفى الأبهة».. وهو ما يمثل ربع إنتاج محمد عبدالعزيز من الأفلام الروائية الطويلة، والذى يبلغ 51 عملًا.

لكن هذا العدد الكبير ليس- وحده- ما يدعو للتوقف عند تجربة الثنائى، بل الأهم هو اكتمال هذه التجربة، وتنوّعها، وتلبيتها أهداف وطموحات الرجلين الفنية؛ فقد صرح عبدالعزيز- فى لقاء تليفزيونى سبق الإشارة إليه- بأن الحنين نفسه الذى كان يراوده لصناعة أفلام غير كوميدية، كان يراود عادل إمام؛ حيث قال له بوضوح إنه يريد تقديم أدوار بعيدة عن الضحك، وهكذا قدما نوعيات أخرى اجتماعية وتراجيدية ورومانسية و«أكشن» أو حركة، وبعضها حتى له أبعاد بوليسية وتشويقية.

والحقيقة أن التصنيف هو آخر ما يشغلنى هنا؛ لأن الكثير من الأفلام لا يخضع لتصنيف محدد، ويجمع بين أكثر من فئة ونوعية.. المهم أنهما تحررا من قوالب كان القائمون على السوق السينمائية يريدون حبسهما فيها، وصنعا ما يريدان وما يرضى رغباتهما وطموحاتهما الفنية، بصرف النظر عن أى ملاحظات قد يبديها البعض على الأفلام نفسها.

قال محمد عبدالعزيز إنه تعرّف على عادل إمام مبكرًا جدًا فى البدايات، فى كواليس مسرح التليفزيون، حين اشتركا معًا فى الفيلم التليفزيونى «الليلة السعيدة»، الذى أخرجه محمد سالم، ليشارك فى مهرجان التليفزيون الذى كان يُقام وقتها، هو كمساعد مخرج وعادل إمام كممثل، وكانت أول مرة يقف فيها إمام أمام كاميرا سينما (والمعروف أن الأفلام التليفزيونية كانت تُصور فى ذلك الوقت بكاميرا السينما على خام ٣٥ مم قبل اختراع كاميرات الفيديو)، مشيرًا إلى أن رحلة طويلة جمعتهما بعد ذلك ونشأت بينهما كيمياء موفقة جدًا ساعد على استمرارها نجاح أفلامهما معًا والمجهود الكبير الذى بذلاه، موضحًا أن إمام مجتهد للغاية، ويتمتع بكَم كبير من الإصرار على الوصول لأهدافه التى كان يراها من بعيد جدًا ويخطط لها، ونجح بالفعل فى الوصول إليها. وأوضح أن ذلك النجاح جعلهما، خلال سنوات تعاونهما فى السبعينيات والثمانينيات، فى حالة تصوير معظم الوقت؛ حيث كان سيناريو الفيلم الجديد يُكتب قبل أن ينتهى العمل فى الفيلم السابق عليه وهكذا.

وأوضح أن العلاقة الوطيدة بينهما وصلت إلى درجة أن إمام كان يطلب من عبدالعزيز الاتفاق باسمه مع المنتجين وطلب زيادة أجره بالنيابة عنه، وطوال مشوارهما معًا لم يختلفا سوى مرة واحدة، سبق لى الإشارة إليها فى هذا الكتاب، حين كان إمام مرشحًا لدور الأستاذ الجامعى فى فيلم «انتبهوا أيها السادة»، واعترض على إسناد دور مدرسة اللغة الفرنسية أمامه لناهد شريف، إلا أن المخرج أصرّ عليها. وأسفر الخلاف عن قطيعة دامت عامين؛ حيث لم يتم الصلح إلا مع الاستعداد لتصوير فيلم «غاوى مشاكل» الذى كانت النجمة نجلاء فتحى متحمسة له، وكان من المفترض أن تجسد الشخصية التى أدتها لاحقًا النجمة نورا، لكنّ الظروف لم تسمح بذلك.. فقد اتصلت «نجلاء» بـ«محمد عبدالعزيز» وقالت له إن المنتج واصف فايز يريد عمل فيلم كوميدى، وعرضت عليه المشروع، ورتبت لقاءً له مع فايز الذى فتح له قلبه قائلًا إنه خسر أمواله كلها فى أفلامه الميلودرامية السابقة وإنه لم يعد يملك سوى قطعة أرض أمام الميريلاند ثمنها ٢٥ ألف جنيه سيبيعها لإنتاج الفيلم، الذى وصفه بأنه الأمل الوحيد لإنقاذه بعد أن سمع أن الكوميديا تجنى الأرباح، مضيفًا أنه إذا فشل هو الآخر فسيعود إلى بلده بالصعيد سائرًا على قدميه.

وعرض عليه فايز رواية بعنوان «الملاك القرمزى» من تأليف محمود دياب، قرأها فوجدها تحتاج للكثير من التعديلات، فأتى بالسيناريست أحمد عبدالوهاب وحجز له غرفة فى فندق بيروت لمدة شهر لإعادة كتابة الفيلم، الذى اتفقا على تغيير اسمه إلى «غاوى مشاكل».

وطلبت نجلاء فتحى من محمد عبدالعزيز إنهاء خلافه مع عادل إمام لكى يشتركا معًا فى تنفيذ الفيلم، فذهب إليه فى مسرح الشيخ ريحان فى أول لقاء بينهما بعد القطيعة. نظر إليه إمام ولم يقل له سوى: «منك لله»- فى إشارة إلى النجاح الكبير الذى حققه «انتبهوا أيها السادة» جماهيريًا ونقديًا، والذى حُرم هو منه، حيث أدى الإقبال على مشاهدة الفيلم فى أحد الأيام إلى إغلاق شارع عماد الدين، كما نال جميع أبطال الفيلم ومخرجه الجوائز الأولى من المهرجان القومى فى ذلك العام.. أما محمد عبدالعزيز، فقد ردَّ بأنه لم يكن من اللائق أن يقول له من يصلح لدور بعينه ومن لا يصلح من الممثلين، وأنه من المفترض أنه يعرفه جيدًا ويعرف أنه لا ينصاع أبدًا لأى نجم أيًا كان.

صنع الثنائى وزملاؤهما «غاوى مشاكل»، على أساس أنه فيلم صغير وبسيط (والمقصود من حيث حجم الإنتاج بالطبع)، فإذا به يحقق نجاحًا كبيرًا، إلى درجة أن واصف فايز وقف فى الشارع أمام السينما، فى الأسبوع الـ٢٢ لعرض الفيلم، ورفع يديه إلى السماء صائحًا: «يا رب كفاية كده.. أنا مش عايز أكتر من كده!».

ودفع النجاح، الثلاثى «محمد عبدالعزيز وعادل إمام وواصف فايز» إلى دخول فيلم «عصابة حمادة وتوتو» بعد ذلك مباشرة، فـ«كسّر الدنيا» هو الآخر، وحقق لـ«فايز» أرباحًا كبيرة، استغلها لإنتاج فيلمى «المشبوه» لسمير سيف و«حب فى الزنزانة» لمحمد فاضل وأفلام أخرى، كما تمكن من شراء معدات جديدة، وتحسَّنت أحواله كثيرًا.

وقد وصلت قوة العلاقة بين عبدالعزيز وإمام إلى درجة أن الأخير كان دائمًا الاختيار الأول للمخرج الكبير لدى التفكير فى بطل أى مشروع سينمائى يستعد لتنفيذه، كما كان إمام من ناحيته يرى أنه الأحق بأى دور متميز فى أى فيلم لعبدالعزيز. وكما ندم على فيلم «انتبهوا أيها السادة»، فقد ندم أيضًا على فيلم «ولكن شيئًا ما يبقى»؛ حيث يتذكر عبدالعزيز أنه عرض سيناريو هذا الفيلم على إمام فرد قائلًا إن السيناريوهات عنده «من الأرض للسقف»، وإنه لا يجد الوقت لقراءتها، كما رفض أن يقرأه له مخرجنا بنفسه، مؤكدًا أنه لا يحب أن يقرأ له أحد. وانتظر عبدالعزيز ستة أشهر كاملة لكى ينتهى إمام من قراءة السيناريو ولم يحدث ذلك، فلجأ إلى محمود عبدالعزيز للقيام ببطولة الفيلم، وحقق العمل نجاحًا كبيرًا. وبعد عرضه، فوجئ بعادل إمام يزوره فى منزله ويتساءل بغضب عن كيفية صناعة هذا الفيلم بعيدًا عنه، وعندما جاوبه بأن السيناريو ظل عنده ستة أشهر، ردَّ بأنه كان من المفترض أن يضغط عليه أكثر.

أما أهم ما يميز تجربة محمد عبدالعزيز وعادل إمام فى رأيى، فهو أنهما حاولا- بشكل عام، فيما عدا بعض الاستثناءات- التعبير عن الطبقة المتوسطة التى ينتميان إليها، وطَرْح أزمتها ومعاناة أبنائها المتعلمين المثقفين الذين يكافحون من أجل حياة كريمة فى مجتمعٍ يأخذ منهم أكثر مما يعطيهم، ويجعلهم دائمًا يدفعون ثمن تقلباته وتغيراته وتبدُّل أحواله، ويطلق عليهم وحوشه التى لا ترحم ولا تعرف سوى لغة المال وصلف النفوذ، وتكون دائمًا خسارتهم مضاعفة؛ لأنهم يحرصون على صورة خارجية براقة تخفى التشوهات الداخلية، وهذا من أبرز عيوبهم بلا شك.

قدم عادل إمام مع محمد عبدالعزيز عددًا من الشخصيات الصادقة القريبة إلى القلب، بعيدًا عن أدوار الصعلوك الساعى للصعود الاجتماعى، أو البطل الخارق الذى لا يُقهر، أو الفلاح الأريب.. وغيرها من الأنماط المعروفة. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الشخصيات ليست حميمة وقريبة للقلب لأنها مثالية، فمعظمها ليس مثاليًا على الإطلاق، ولكن لأنها صادقة وتنتمى لبشر من لحم ودم يخطئون ويصيبون.

أنت- وأتحدث عن أبناء الطبقة المتوسطة بمختلف شرائحها العليا والوسطى والدنيا، أى غالبية جمهور السينما- إزاء أُناسٍ يشبهونك فى أفلام الثنائى: طلاب وأساتذة جامعيين وموظفين ومحامين.. إلى آخره، باستثناء شخصيات بعض الأفلام بالطبع، ومن الممكن بسهولة أن تتعاطف معهم، أو على الأقل أن تتفهم تصرفاتهم لأنك تعرف جيدًا دوافعهم وأسبابهم.

أغلب الظن أنك ستتعاطف مع بطل «انتخبوا الدكتور سليمان عبدالباسط»، الفيلم الذى قال محمد عبدالعزيز إنه يعتز به جدًا، وإن نجله كريم يتمنى إعادة تقديمه لتجسيد شخصية هذا البطل، فهو أستاذ جامعى كفء وجاد وملتزم، إلا أنه- تحت وطأة إهمال زوجته له وحرمانه من الحب والحنان- يرتكب خطأ واحدًا، لكنه الخطأ الذى يقلب حياته رأسًا على عقب، ويحيلها إلى جحيم، تمامًا مثل أبطال المآسى الإغريقية التراجيدية، وهم شخصيات نبيلة وحكيمة لها قَدَرٌ مأساوى أو خلل مميت، يقودها فى النهاية إلى حتفها.

 

ويقول أهل الدراما إن الخطأ القاتل لأبطال المآسى الإغريقية يشبه الياى أو اللولب؛ الذى إذا أطلقته فجأة بعد ضغطه لا يمكنك إيقافه أو التحكم فيه، وكذلك الخطأ المميت الذى إذا وقع لا يمكنك إصلاحه أو تجنب آثاره وتداعياته.. والخطأ الذى ارتكبه «الدكتور سليمان» هو أنه قرر قضاء سهرة حمراء مع ساقطة بعد أن رفضت زوجته تلبية احتياجاته الحسية وأشعرته بالفارق الطبقى بينها كموظفة فى وزارة الخارجية، وبينه كشخص ريفى. ومنذ لحظة وقوع الخطأ، يعرف صناع الفيلم، وربما يشعر المشاهدون، بأنه لا أمل فى إنقاذ البطل، فهو ينتقل من أزمة إلى أزمة أكبر، ومِن قَتْلٍ دفاعًا عن النفس إلى قتل مع سبق الإصرار والترصد للتخلص من الشاهد الوحيد على الجريمة الأولى.

إنها، جزئيًا، أزمة الطبقة المتوسطة التى لا تستطيع فِكاكًا من حياة رتيبة مملة اجتماعيًا ووظيفيًا، والأهم: من قيود المظاهر الخارجية التى تلزم نفسها بها للحفاظ على صورتها أمام الناس، بينما تعانى فى الداخل من التشوّه والفراغ وربما التمزق.

ويمكن أن تقف على جانب آخر من أزمة تلك الطبقة فى فيلم آخر لعبدالعزيز وإمام هو «قاتل ما قتلش حد»، وهو الخوف المرضى على مستقبل الأبناء؛ حيث يُقدِم أب يعمل مندوبًا لإحدى شركات التأمين على الاعتراف بارتكاب جريمة قتل ليس له أى علاقة بها مقابل مبلغ مالى يحصل عليه من القاتلة الحقيقية ليؤمِّن به مستقبل ابنته الوحيدة، وذلك بعد معرفته بإصابته بمرض خطير يهدده بالموت خلال ستة أشهر.

واللافت أن فيلمًا تراجيديًا مثل «قاتل ما قتلش حد» جاء فى بدايات تعاون الثنائى فى مرحلة البطولة المطلقة لعادل إمام؛ حيث يمكن القول إن محمد عبدالعزيز بدأ يسند له البطولة المطلقة بعد أن اختبر كل منهما التعاون مع الآخر فى فيلمين يقومان على البطولة الجماعية هما: «جنس ناعم» و«البعض يذهب للمأذون مرتين».. ولم يسبق «قاتل ما قتلش حد» فى تلك المرحلة سوى فيلم «المحفظة معايا»، المشغول بنقد المجتمع وكائناته الطفيلية، والذى لا يمكن اعتباره هو الآخر فيلمًا كوميديًا.. والمقصود باختصار؛ أن بدايات عادل إمام كبطل مطلق مع محمد عبدالعزيز لم تكن كوميدية، وحققت لكل منهما رغبة الخروج مؤقتًا من عباءة الكوميديا لصناعة نوعيات أخرى.

وبسؤاله عن استقبال الجمهور أفلامهما غير الكوميدية وما إذا كان قد صُدم فى ابتعادهما عن الكوميديا الصريحة، قال عبدالعزيز إن تلك الأفلام- على العكس- حققت نجاحًا كبيرًا، مشيرًا إلى أن نجاح عادل إمام ككوميديان كان سندًا كبيرًا له فى النوعيات الأخرى، بدليل أنه كرر تقديم تلك النوعيات بعد ذلك، ومع مخرجين آخرين.

والحقيقة أن معظم أفلامهما- خاصة فى مرحلة البطولة المطلقة لإمام- لا يمكن تصنيفها على أساس أنها أفلام كوميدية بحتة، هدفها الإضحاك فقط، وإن كان هذا الهدف فى حد ذاته محمود ومشروع ومطلوب. ولا يقع تحت هذا التصنيف سوى فيلمين أو ثلاثة على الأكثر. أما الغالبية، فأفلام اجتماعية لها طابع كوميدى خفيف، مثل: «غاوى مشاكل» و«على باب الوزير»، وأصبحنا نفتقد مثلها اليوم.. وهناك أفلام حركة مثل: «مين فينا الحرامى» و«حنفى الأبهة»، وأعمال رومانسية رقيقة مثل: «خلّى بالك من عقلك»؛ أى أن التنوع هو عنوان تعاون هذا الثنائى، تمامًا كما هو عنوان مسيرة محمد عبدالعزيز كلها.

وأرى «خلّى بالك من عقلك» تحديدًا، مختلفًا تمامًا عن بقية أفلام الثنائى وعن سائر أفلام الفترة التى تم إنتاجه فيها (منتصف الثمانينيات). وقد وصفه محمد عبدالعزيز بأنه «كوميديا سيكلوجية بحتة»، قائلًا إنه استعان بأطباء نفسيين لحضور تصوير مشاهد جلسات الكهرباء لشخصية «سلوى» (شريهان). وأشار إلى أنه لم يشأ أن يكون تناوله للكوميديا اجتماعيًا بحتًا، بل حاول- فى رحلته الطويلة كلها- طَرْح مضمون أكبر كثيرًا.

يبتعد الفيلم عن القضايا الكبيرة والحبكات التقليدية لينسج قصة مؤثرة عن فتاة وحيدة مظلومة لا تجد من يقف بجانبها بعد أن دبر زوج أمها مؤامرة لإدخالها مستشفى للأمراض النفسية والاستيلاء على ميراثها. ويبدو عادل إمام هو الآخر مختلفًا فى هذا الفيلم عن أفلامه السابقة وربما اللاحقة، ولا يكمن الاختلاف فى الدور الرومانسى نفسه الذى يمكن أن نكون قد شاهدنا ملامح تشبهه بعض الشىء فى دورى إمام فى فيلمى «الإنسان يعيش مرة واحدة» (١٩٨١) و«حب فى الزنزانة» (١٩٨٣)، بل يكمن فى أسلوب أداء مغاير لا شك أنه ناتج عن رؤية خاصة للمخرج محمد عبدالعزيز.

وبالفيلم مشاهد لا تُنسى بفضل تلك الرؤية وذلك الأداء من إمام وشريهان أيضًا، بالإضافة لموسيقى عمر خيرت، مثل مشهد إمساك كل من البطلين بيد الآخر عبر حديد إحدى نوافذ المستشفى، وحركة تلويحه لها بيده من وراء ظهره، ومشهد الزَّفة التى تنظمها لهما المريضات فى عنبر المستشفى، واستخدام الأقمشة البسيطة الموجودة بالعنبر لعمل طرحة لها وما يشبه الـ«بابيون» له قبل أن يفرّق بينهما الممرضون والممرضات، وكذلك مشهد تسلل البطل ليلًا إلى المستشفى للاحتفال بعيد ميلاد البطلة، حاملًا وردًا و«تورتة».

ويلخص عبدالعزيز تلك الرِّقة فى طرح قصة الحب الرومانسية بأن «الكوميديا تستطيع تحمل أى طرح درامى».

ولا بد من التوقف عند فيلم كوميدى/ اجتماعى كبير وشهير للثنائى مثل «خلّى بالك من جيرانك»، الذى حقق نجاحًا مدويًا، واستمر عرضه ٣٤ أسبوعًا متتاليًا فى سينما قصر النيل، فهو يُعد نموذجًا مثاليًا لسينما محمد عبدالعزيز كلها: عمل كوميدى ممتع على خلفية اجتماعية تشبه حياتنا وتسرد يومياتها وتطرح قضاياها دون مباشرة، ودون صياح، أو صوتٍ عالٍ.. عمل يفجر الضحكات، لكن دون «قلة قيمة» أو تشوهات أو «إيفيهات» لفظية، بل بالدراما المكتوبة والشخصيات المرسومة والمواقف المحبوكة، مما أتاح الفرصة لنجمة كلاسيكية راسخة مثل مديحة يسرى، ونجمة استعراضية مثل لبلبة، للمشاركة فى الإضحاك وتقديم الكوميديا مع نجمين كبيرين هما: عادل إمام والكبير فؤاد المهندس، اللذان يسجلان هنا تعاونًا نادرًا مع محمد عبدالعزيز لا يتكرر بعد ذلك إلا فى فيلم واحد آخر هو «الثعلب والعنب»، من تأليف وحيد حامد.

ومن الملاحظات الفنية والدرامية الجديرة بالتسجيل حول هذا الفيلم أنه يتم إسناد شخصية الرجل العابث، والفنان الحر المنطلق شبه الصعلوك، الذى لا يحمل همًا ولا مسئولية، إلى فؤاد المهندس، وشخصية التكنوقراط المحافظ المحامى التقليدى الملتزم بجدول عمله وجدول حياته اليومية أيضًا إلى عادل إمام، على عكس المعتاد والمتوقع فى الاختيارات السينمائية الخاصة بالنجمين والخاصة أيضًا بالمخرجين الذين يتعاملون معهما.

أما كيف نجح عادل إمام فى الإضحاك من خلال تلك الشخصية التقليدية «الجادة»، فعن طريق رد الفعل الذى صرح محمد عبدالعزيز أكثر من مرة بأنه يعتمد عليه أكثر من الفعل نفسه، ولا بد من مواقف درامية تمهد له وتؤدى إليه. وهناك كُتب كاملة تم تأليفها لشرح تأثير لقطة رد الفعل واستخدامها فى صناعة النجوم من خلال إظهار استجابة الشخصية التى يؤديها الممثل لتطورات أو أحداث قوية؛ حيث تُركز الكاميرا على وجهه لإظهار ردود أفعاله العاطفية، مثل: المفاجأة أو الصدمة أو الفرح؛ مما يعزز من ارتباط الجمهور بالشخصية ثم بالنجم ويدعم السرد الدرامى فى الوقت نفسه.

تضع دراما هذا الفيلم شخصية المحامى طول الوقت تحت عدسة رد الفعل، سواء إزاء سلوكيات جيرانه العجيبة مثل السيدة التى تضرب خادمتها بالرأس، والأطفال الذى يأكلون الموز بقشره.. أو إزاء تصرفات الفنان غريب الأطوار الذى يقتحم حياته وشقته ويغازل والدة زوجته ويشرب مشروبًا حارقًا أعده بنفسه وسماه «سوزوكى»، أو إزاء- وهذا هو الأهم- تصرفات زوجته، التى تصدمه مرة بعدم طهى أى طعام مقابل مساعدة الجيران فى تجهيز طعامهم، وثانية بتغيير أثاث الشقة كله، وثالثة برغبتها فى العمل كراقصة وارتدائها بدلة رقص فى البيت لكى تُريه مواهبها. 

كريم عبدالعزيز يكتب: أبى كل شىء

عند الحديث عن أبى، لا أستطيع الفصل بينه وبين الأستاذ. الأب مرتبط عندى بالمدرّس، فقد علمنى أبى كل شىء فى الحياة، وعلَّمنى الأستاذ محمد عبدالعزيز الفن، وأنا منذ دخولى عالم الفن لم أفعل شيئًا سواه.

أب حنون جدًّا دون أن يُظهر ذلك. أتذكّر فى طفولتى أنه كان أكثر الآباء حنانًا، لكنه فى الوقت نفسه علمنى الصرامة والجدية واحترام المواعيد واحترام عملى. لقد وُلدتُ فى الاستديو، لذلك فهو لا ينفصل عندى عن البيت، وفى كليهما أبى هو المعلم، وأُدين بكل ما وصلت له فى حياتى، بعد ربنا سبحانه وتعالى، لوالدى ووالدتى رحمها الله.

أما محمد عبدالعزيز، الأستاذ فى المعهد العالى للسينما، فقد كانت فكرة غريبة جدًّا بالنسبة لى أن أذهب إلى مقر دراستى الجامعية فأجد أن من يدرّس لى هو والدى. وكان الهدف الرئيسى من اليوم الأول، بالنسبة لنا كلنا، أن نثبت - وهو أولنا بطبيعة الحال - أننى التحقت بالمعهد لأننى أستحق أن أكون أحد طلاب دفعة قسم الإخراج عام ١٩٩٧، وليس لأننى ابن محمد عبدالعزيز، إلى درجة أنه انسحب وقتها من امتحانات القبول بالمعهد منعًا لأى حساسيات.

دمجت الأب والمُعلم، والبيت والاستديو، لأننا كعائلة - سواء أبى، أو الأستاذ عمر عبدالعزيز، أو الأستاذ محمد ياسين أو شخصى الضعيف - نتحدث دائمًا عن الفن وأحواله والأحوال العامة فى كل تجمعاتنا ولقاءاتنا وحواراتنا.. أنا محظوظ جدًّا بالبيئة التى نشأت فيها، والتى كان لها دور كبير جدًّا فى تشكيل شخصيتى والطريقة التى أفكر بها.

ويبقى أننى من جمهور محمد عبدالعزيز المخرج، وأرى أنه قدم جميع أنواع السينما المصرية: الكوميديا طبعًا، والدراما الاجتماعية، والتراجيديا، والأفلام الاستعراضية، وحتى الرعب فى فيلم مثل «رحلة الرعب»، وله فى كل نوعية أفلامٌ لا تُنسى، بالإضافة إلى المسرح والدراما التليفزيونية؛ أى جمعَ بين مختلف الفنون، ونجح فيها جميعًا بخلاف ما هو شائع مثلًا من أن المخرج السينمائى لا ينجح فى التليفزيون، وإذا نجح فيه فإنه لا ينجح على خشبة المسرح.. وهكذا، فقد حطم تلك الثوابت وترك بصمة فى كل مجال عَمِل فيه.

يُعد بالطبع، كما صنفه الجميع، من أكبر مخرجى الكوميديا فى السينما المصرية، لكن وجهة نظرى أن أبى برع أيضًا فى جميع النوعيات السينمائية.. فيلم مثل «الجلسة سرية»، كيف يخرجه مخرج تخصص فى الكوميديا فقط، وكذلك «الحكم آخر الجلسة» و«قاتل ما قتلش حد» وغيرها؟!.. ليس من السهل أبدًا أن تجمع كمخرج بين هذه النوعيات المختلفة وتنجح فيها جميعًا.

أريد أن أهنئه على جائزة الهرم الذهبى من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وأقول له: «مليون مبروك يا أبويا.. ومليون مبروك للمهرجان ولنا جميعًا»، وأدعو الله أن يمنَّ عليه بالصحة ويبقيه العمر كله ظَهرًا وسندًا لنا.