الخميس 21 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

لفحات أغسطس.. أسئلة الواقع بين الوجودى والإنسانى

حرف

- سيف بدوى كاتب موسوعى شاعر وناقد

- لفحات أغسطس نموذج للقصة الواقعية الإنسانية الرومانسية التى تتلمس حاجة الإنسان النفسية والبيولوجية فى مشهدية وحوار عبقرى

يتأرجح بك سيف بدوى فى لفحاته ولسعاته السردية الموجعة فى أغلب النصوص حد ما بعد الواقع وما وراءه، بل ودوافعه التى تسحق الإنسان فى عمومه والمرأة بخصوصيتها فى أدب نسوى بامتياز لا يبنيه قضية قهر المرأة ومظلوميتها بعيدًا عن الخطابية وغوصًا فى واقع مرير بدلالاته الاجتماعية والسياسية والنفسية، لا لتعرية المجتمع والإشارة إلى بنيته المهترئة، ولكن للإشارة من بعيد جدًا إلى تلك الطبقات التى تغرق فى العنف واليأس والانتحار لا بقتل النفس فقط ولا بعدم الاستطاعة ولا يقبل المغتصب العرض.

إنها معزوفة شجنية للألم والحزن والواقع المرير الذى يشوه النفوس ويضربها فى العمق، لا ليقتلها ويقضى عليها فقط فى بعض النصوص، ولكن ليتركها مصلوبة على أسنة العذاب لا تهدأ ولا تستريح، فأنت بعد قراءة النصوص لست أنت وهذا هو جدواها حتى لو أصبحت حزينًا مكتئبًا مؤرقًا بما تركه النص فى نفسك.

وإذا كانت القراءات التقليدية تنحو إلى الجاهز من التصنيفات أو المفردات التى تبدأ بالمدرسة الأكاديمية بداية بالعتبات التى كثيرًا ما تفقد النصوص جمالها، والتى لخصت يومًا رأيى فيها رغم أهميتها واشتغال النقاد عليها وسطوع اسم جيرار جينت مع أن الجرجانى أسبق كثيرًا، قلت من قبل: أريد نصًا بلا رأس تلعب فيه الشياطين، ولذلك سأمر سريعًا من باب ما لا يدرك كله لا يترك كله، حيث تبدأ العتبات من الغلاف والعنوان الرئيسى لفحات أغسطس، الذى هو عنوان نص داخل المجموعة؛ لذلك الإهداء فى مستطیل کخاتم كالح «إلى تلك الأيام»، وهو أيضًا عنوان نص داخل المجموعة للنص الأول تحية، وتتوالى العناوين، الخمسة عشر عنوانًا نصفها من كلمة واحدة معرفة إما باسم علم كحورية وتحية، وإما بالألف واللام كالعازف والعزال والورقة والغرين والنصف الآخر من كلمتين معرفًا بالطبع بالوصف والإضافة مع عنوان واحد جاء فعل مضارع هو «أعرفها».

قلت إننى أكره حديث العتبات، وبالتالى العناوين رغم دلالاتها وكشفها المضمون أو تلخيصه وتكثيفه ولكن ببراعة سيف بدوى فى اختيار عناوينه الدالة والرامزة، دون فجاجة أو افتضاح، ولكن فى ذكاء المحامى الفيلسوف، لا بمنطقية النصوص وعقلانيتها، ولكن بشحذها بالإنسانى العميق الأثر والرمز والدلالة، لذلك كسرت القاعدة وتحدثت عن العناوين ولو بطريقة إحصائية..!!

أعود إلى قراءتى والتى تفرضها النصوص، وكما أردد دائمًا أن النص يفرض طريقة التناول، حيث إن النصوص التى تنتمى إلى الواقعية الاجتماعية النقدية تفرض النقد الثقافى، وهو الأعم والأشمل، لا لأنه يعالج قضايا اجتماعية وسياسية، ولكن لأنه يضم تحت عباءته أغلب المدارس الأدبية الحديثة كأدب ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار والأدب النسوى وهو قضية أساسية هنا، كما قلت، لا بمظلومية المرأة فقط وقهر الرجل لها، ولكن أيضًا بقهر المرأة المرأة فى «حورية» فى ميلو دراما مأساة/ ملهاة انتقام امرأة من امرأة؛ لأنها تعدت الأصول، فكل منهما أبلة «سناء وحورية» ابنتا كار واحد، ولكل منهما زبائنها ومجالها دون تعد أو عدوان، ومن ثم كان عقاب سناء التى تعدث على حورية فى زبائنها، فكان العقاب بجز شعر سناء- ص ٣٠، القصة مكتوبة بحرفية عالية، كنص واقعى اجتماعى متدفق السرد والحركة الدرامية والمشهدية العالية، والتى تثير الأسئلة على ألسنة الناس ماذا يحدث ولماذا؟- الحدث ينطق والمشهد يعبر.

ومن قهر المرأة المرأة نرجع للنص الأول تحية، حيث قهر المرأة ومظلوميتها من الرجل، وهذا نص مكتوب على هوادة الجريمة المكتملة الأركان المرأة التى تنتقم لشرفها، تخطط وتجهز بروية وحتى بإغراء العطار؛ لتحصل منه على السم، ولبائع السكاكين؛ لتحصل على السكين وتقهر قصة الحب الرومانسية بعينيها لبائع الليمون؛ حتى تنجز مهمة الانتقام بقرص المشبك مع استعراض من النص لصناعته فى معلوماتية مهنية، ولكى تكون أداة القتل من جنس العمل، وتنطلى على صاحب المصنع المغتصب، والذى صدر القرار بقتله وشق جسده بالسكين إمعانا فى الانتقام، لأنه استغل حاجتها وغرر بها، ثم بعد ذلك يهددها بفضح سرها لأخيها، الذى بالتأكيد سينتقم لشرفه بقتلها- نص مرجع- لواقع اجتماعى يفرز تلك المآسى ليعبر عنها سيف بدوى، ربما من واقع ملفاته كمحام تتجمع عنده المآسى الاجتماعية، لكن ما كل محام يستطيع أن يصنع نصًا مشوقًا ودالًا ومحذرًا المجتمع من المخاطر المحدقة من واقع قضايا الحياة إنها الواقعية الاجتماعية النقدية النفسية الإنسانية.

سيف بدوى

وإن كانت هذه المجموعة المتميزة لا تخلو من نصوص غاية فى الرومانسية- الإنسانية الشقيقة كما فى التين وعسله، حيث سردية واقعية رومانسية وحيث الحبيبين الفتى والفتاة غريبين فقيرين، بائع التين والفتاة التى تعمل فى معرض موبيليا، تلاقت العيون الشابة وجرى الحوار عاميًا واقعيًا يسرع من إيقاع السردية ويعطيها مذاقها الشعبى الإنسانى، ليجابها الواقع الممثل فى حملة شرطة المرافق، فى أسئلة النص الذى أدان النظام الذى لم يوفر أصلًا فرصة عمل للعاشقين هو عربيته صودرت وهى طردت من عملها وهما يواجهان الواقع بإصرار، وهى تلقى بنفسها على العربة لتمنع الشرطة من أخذها حتى تتعرى فيغطيها بالجلباب المشقوق ويرفعان وجهيهما لشمس السماء المفتوحة الحارقة رامزة بانتصار الحب والحياة.

ومع أن النص بدايته طالت فى وصف الشخصية كما لو كان يقدمه فى مسرحية، وكان يمكن مع تجهيل الأسماء أن يبدأ النص من الصفحة الثانية، «كان قد اعتاد على مرورها صباحًا».

ومن سردية نسوية ومظلومية للمرأة- فى قصته الحب- التى تقاتل من أجل موطئ قدم لرومانسية قهرتها الغربة والتهميش والفقر ودهسها المجتمع بقوانينه فى «التين وعسله» إلى سردية نسوية أخرى فى «العزال»، وهى قصة تتكرر من مليودراما لمأساة «النوم فى العسل»، أى أنها تتناص على مدار التاريخ فى علاقة الرجل بالمرأة وعجز التواصل الجنسى والأسباب كثيرة لسنا فى النص معنيين بذلك، ولا حتى محامى الخلع و«مبيعرفش»؛ لأنه تم الاتفاق على الطلاق، كما طلبته فى حضور الشيخ سراج ووالدها سعد الحلاق وزوجها سعد ابن وجدى ابن أبوالحمايل، أما هى فقد تم تجهيل اسمها واسم أمها وأمه وشقيقاته المطلقات لأسباب تخصهن ويرجح أنها بسبب أمهن تعددت الأسباب والطلاق واحد أقول إن المظلومية هنا حتى فى عدم تسمية المرأة الزوجة صاحبة القضية والأمهات والمطلقات الثلاث فى إشارة ضمنية لقهر الرجل المرأة. 

نأتى للنهاية المفاجئة بعد أن سرقوا قمصانها وملابسها أعادت العزال للحجرة وأشعلت النار فى الوقت الذى كان أبوها قد ذهب لإحضار عربة لحمل الغزال، نص جميل مكتوب بروية وسرد روائى مشوق، مولع بالتفاصيل. 

والتى يهتم بها المحامى كما أشرت، حيث التفاصيل تعنى البراءة أو الإدانة، والتفاصيل هنا فى تلك المجموعة رغم أنها مبررة ومنطقية، فى أغلب السرودات الطويلة، إلا أن النص القصصى فى القصة القصيرة يتوخى الإيجاز والتكثيف، لما بين السطور، للرمز والإيحاء!!

فتش عن المرأة لا بمظلوميتها فقط- كما ذكرنا- ولكن بعنفها وهى تقتص لنفسها فى قميص أصغر شفاف وهى سردية أشبه بسردية الغزال وعزف على العلاقة بين الزوجين فيما يشبه الملهاة فى كوميديا الموقف، وهى أيضًا سرد روائى حتى تنقلاتها الزمكانية وتعدد الأشخاص- الزوجة التى اقتصت من زوجها حين نطق اسم جارتها، فشجت رأسه فى دراما كوميدية اجتماعية نقدية بامتياز، لكنها الابتسامة التى يتركها على وجهك سيف بدوى، والتى تصل إلى الضحك فى قصة «الليلة عيد» وأنت تطارد العبور مع الجزار وهو يهرب من الذبح لدكان الحلاق للقفز فى غرفة النوم على السرير للعودة بسوتيان المرأة لانضمام الزوج للمطاردة لعودته متخفيًا بسوتيان زوجته.

ومن نسوية القص وجنسانيته إلى نموذج آخر من القص يؤكد اتساع رقعة العالم شديد التنوع الذى يغترف منه سيف بدوى بعمق تجربته كسارد وشاعر وناقد محترف، حتى لو كانت تلك مجموعته الأولى، بل ولأنها مجموعته الأولى جمعت قصصًا شتى.

تراوحت بين الطول والقصر، الدرامى والكوميدى، الواقعى والغرائبى والرومانسى والفلسفى.. بالتأكيد لن تتحدث عن الخمسة عشر نصًا مع جودتها جميعًا. 

وأخص النصوص القصيرة مثل أعرفها والعازف وورقة والطابق الخامس الغرين، وكلها طلقات.. مكثفة تكاد تكون فى دلالاتها وعمقها الإنسانى واحدة رغم اختلاف الأحداث والنهايات والشخصيات وتنوعها، ربما جمعها الواقع المؤلم والنهايات المأساوية، التى تترك نغزة فى القلب وسؤالًا كبيرًا عن معنى الحياة وتلك القسمة الضيزى، إنه سؤال المصير الإنسانى «خلق الإنسان فى كبد» هل هى عبثية الحياة أم قسوتها، هل هم البشر، وقد تجبر بعضهم كالمعلم الذى يطيح بالكماشة فى وجه الصبى فى «أيادى رحيمة» والسلطة التى تأخذ العربة دون بديل يفتح ثغرة فى المستقبل للغريبين العاشقين فى «التين. التين وعسله».

إشارات

١- لفحات أغسطس العتية والعنوان للمجموعة، كما سبق وقلت، إنها عنوان قصة داخل المجموعة، وقد آثرت أن أتحدث عنها فى الإشارات لأهميتها لا كقصة لافتة سردًا ودلالة وتقنية بجانب غوصها داخل النفس البشرية بالحدث والحوار المقتضب وما تفجره المشهدية من الرغبات والوحدة والجوع والحاجة للتواصل الإنسانى الحميم، ولكن لأن لفحاتها تنسحب على أغلب القصص فى واقع جهم وحارات مزدحمة بالتفاصيل اللافحة لعالم المهمشين البسطاء الملىء بالصخب والضجيج والفرح والبكاء، ولا تقتصر لفحات أغسطس على عوالم المجموعة القصصية، ولكنها تمتد إليك كقارئ، فأنت مع مظلومية المرأة وانتقامها لشرفها وكرامتها ويلفحك الغضب والحزن لجامع العظم وصهره فى صناعة الأمشاط اليدوية المنقرضة بزحف الحداثة والميكنة التى قضت على سوقه، فلم يستطع أن يحب ويتزوح، فى سردية غاية فى الجمال والإحكام والبراعة. 

نعود للفحات أغسطس أيقونة المجموعة وهى نموذج للقصة الواقعية الإنسانية الرومانسية التى تتلمس حاجة الإنسان النفسية والبيولوجية فى مشهدية وحوار عبقرى ومفارقات تبدل المشاعر وتحول الغضب والضجر لرغبات وحاجة ملحة للتواصل الإنسانى الحميم، فما لفحات وفحيح أغسطس إلا لفح وفحيح النفس الوحيدة الجائعة..!

« كان حزينًا، وحيدًا، وجائعًا، انفردت به ذكريات تلك الأيام حين كان يتململ فى ثومة العصارى فيجدها جالسة بجواره وبيدها ورقة من الكرتون تهوى بها على جسده الممدد وقد لوحته لفحات أغسطس تبتسم له..» إلخ النص ص ٤٧!!

وما طرقات الهون الذى صعد غاضبًا ليمنعها إلا طرقات الوحدة والجوع ليفاجأ بجارته فى نفس وحدته.. نص مكتوب بحرفية وجمال ورومانسية عذبة شفيفة..!! 

٢ - فى العازف كنموذج لقصة قصيرة جدًا قصة المعنى والرمز، سؤال الوجود، محنة الإنسان وفقره وعجزه ويأسه، الإنسان الذى يقفز بغريزة حب البقاء متفاديًا العربة حتى لا تدهسه، هو نفسه الذى يخطط ويجهز الحفل، انتحار بما يقى لديه من جنيهات ١، ٢، ٣، ونصف وربع لأشترى خمس سجائر مع بقايا القهوة لديه يصنع منها فنجانًا يكفى سيجارتين فى طقس انتحار بالغاز..!!

إنها عبثية الحياة وجنونها..؟؟ المهم أن يكون موتى بیدى لا بيد سيارة طائشة، وكأن الموت إرادة واحتيار، ولكن إرادة من واختيار من؟ 

٣ - وفى الإهداء إلى تلك الأيام لإحدى عتبات المجموعة إن لم تكن العتبة الأهم والأشمل، تلك الأيام التى تجمع كل تلك السرودات من واقع شديد الغرابة وحياة تعصف بالبشر، وبسطاء لا يزالون يحلمون وأطفال شبوا كما فى قصة تلك الأيام، فى سردية غاية فى العذوبة تناقش بواقعية نفسية فرويدية فى تعلق الولد بذلك الطقس لجارتهم وزوجها، والذى ينتهى بأن يمد يده لفوارغ الكينا، ويرفعها عاليًا لتسقط قطرات شحيحة فى حلقه ثم يأكل البرتقالة وأبلة سناء تخلع جلبابها فيشرق جسدها المفتول، بلمعة التعرق النسوى وتمد يدها نحوه فينتصب واقفًا فتسأل: هتنزل.

فيجيبها: آه.

لكنها تتصنع تكشيرة خاطفة ثم تبتسم وتقول له «لا» لما تدعك لى ظهری.

تلك العلاقة الأوديبية مع أبلة سناء بديلًا عن الأم.. والتى يتحمل بسببها الضرب والحبس، لتمضى السردية مع تقلبات الأيام يموت المعلم العربى وتغلق أبلة سناء شقتها بالقفل يسألها فى مشهد عميق الأثر والدلالة.

- مش هتيجى تانى يا أبلة سناء فوضعت يدها على رأسه ولم تنطق ومضت وهنا فى رأيى انتهت القصة وما جاء بعد ذلك رغم جماله وروعته قصة أخرى ويمكن للقارئ أن يتوقع وينتج أكثر من نهاية غير تذكر ما حدث بمرور الأيام وما أدراك ما تلك الأيام.

٤ - ذلك التنوع فى المجموعة يؤكد تمكن الكاتب من أدوات السرد وتقنياته وحبكته فى القصر، التكثيف والرمز والدلالة وما بين السطور، وفى الطول السرد الروائى وتفاصيل التفاصيل، وكما أشرت من قبل أن مهنة المحاماة أثرت على منطقية الأحداث وتراتبيتها وتفاصيلها وكان الكاتب لا يريد أن يترك شيئًا، ومع أننى كنت مقتنعًا بقول ميلان كونديرا بأن القصة القصيرة صورة مصغرة للرواية، إلا أننى أميل أكثر إلى القصة الأكثر إيجازًا وعمقًا ودلالة مع براعة سيف بدوى فيها كما أشرت من قبل إلى قصة العازف وورقة وأعرفها والطابق الخامس.

بقى أن أشير إلى ملمح فى الكتابة هو التقديم والتأخير مثل هو قال واستعمال فعلين ماضيين متتابعين، مثل كان رآنى، كانت قالت طلقنى بدون قد التى تربط بين الفعلين، وكانت موضة فى الثمانينيات عند محسن يونس!!

فى النهاية نحن أمام كاتب موسوعى شاعر وناقد وسارد بلغ من النضج الفنى والإبداعى فى كل الأنواع، ما يؤكد موهبته والعمل عليها بجدية وإصرار نرفع له القبعة ونحييه ونتمنى له مزيدًا من الإبداع والإبهار!!