الأربعاء 11 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

شروط الوردة.. التفرد والمغايرة فى مجموعة «القشاوى»

القشاوى
القشاوى

- «القشاوى» استطاع أن يخلق لغة سردية تمتزج فيها الأنواع والأجناس جميعًا

إذا كان أدب ما بعد الحداثة هو الثورة على الحداثة وما تركته من عقلانية ومعرفة كبّلت الخيال ونمذجت الأفكار، فكان لا بد من الخروج من إسار العقل وسطوته ونمطيته وقوالبه بالذهاب للا وعى والحلم والأسطورة والميتافيزيقا والماوراء والتاريخ والتناص وإلى الميتاسرد والميتاقص فى الأساليب والتقنيات.. وإذا كان ما بعد الحداثة من اللا وعى واللا يقين لم يشبع أو يحل النمذجة، وأدخلنا اللا يقين واللا وعى فى متاهات التغريب والفصامات، كانت الدعوة للعودة إلى الكلاسيكيات والسرديات الكبرى والعودة إلى تجليات الواقعية.. وما أفرزته من متغيرات تتخطى الخيال واللا وعى غرائبية وسحرًا وإدهاشًا. ولأن الكتابة لم تعد القضية فيها: ماذا تكتب، ولكن كيف تكتب، فالموضاعات والواقع يتكرر، حتى التاريخ كما قيل يكرر نفسه.. ومن ثم كانت الاندفاعة فى اتجاه كيف تكتب.. لأن العشرات والمئات والألوف يكتبون.. بل إن الشاشات والمنتديات أغرقتنا فى طرق وألاعيب وتقنيات وأفلام تتخطى كل الحداثات وما بعدها وما بعد بعدها. لكن تظل لكل كاتب موهوب.. ناضج، بصمته.. ولغته التى تميزه.. وتعطيه طعمًا ولونًا ومذاقًا يخرجه من أن يكون واحدًا فى طابور لا نهاية له ليكون وبكل فخر ودهشة مفاجأة لى شخصيًا تتخطى الخيال واللا وعى غرائبية وسحرًا. 

لعل حماستى لتلك المجموعة القصصية «شروط الوردة»، لمجدى القشاوى، لا ترجع إلى الكتابة المغايرة التى فاجأنا بها.. وأيقظ ذائقتنا التى نامت فى المألوف واستسلمت لسرديات النمذجة والتكرار.. ولكن لأنه استطاع أن يخلق لغة سردية تمتزج فيها الأنواع والأجناس جميعًا ويخرج لنا بسرديات تجمع الواقعية بكل أشكالها، الاشتراكية والسحرية وحتى الواقعية بلا ضفاف إلى الفانتازيا والسوريالية والتناص والميتاسرد والميتانقد حتى الغرائبية والعبثية واللا معقول... دخولًا فيما تسميه سرديات المعنى... والفكرة والرمز.

سرديات تنفتح على أسئلة الوجود والكون ومتناقضات الحياة وأسرارها وجمالها ولعبتها بالبشر... البشر من لحم ودم تلمسهم.. تشمهم.. تشتبك معهم فى الشارع، تصل العجوز وتتحاور معه فى سردية تتفتح على رؤية كونية للبحر تعيشها، ولا تشعر بها.. فإذا بالشيخ يعطيك خبرة الحياة كلها، بل خبرة السرودات السبعة عشر فى المجموعة كلها فى النص الأول المعنون بينسحبون من العيون... تلك النصيحة ص ١٦، والتى تبدأ بـ: قلل ما تستطيع من صداقاتك، من نساء يفيض صدرك لهن بالوجد.. لا تتزوج.. وإن فعلت.. لا تنجب أبناء وإن كان إلى آخره... هل نحن مع الخضر أو نصائح لقمان، هل تتفتح الدلالة وتحيلك لا إلى الموروث ولكن إلى المتخيل.. ماذا لو فعلت بكل هذه النصائح النشيد/ القصيد/ المزمور؟، وهل سيقل عدد الموتى الذين ترى موتهم وعدد من ينسحبون من عينيك؟ وهل ينسحب الحلم بالفتاة البكر والمولود الذى يدخلونه من صدرها ويتلقفونه من الأسفل؟ هذا الطقس الذى تلجأ إليه المرأة التى يموت أطفالها تمامًا كالذين يطلقون على أولادهم أسماء رديئة ويلبسونهم أردية مهلهلة حتى يعيشون.... تلك العادات من الأساطير الشعبية التى تتناثر عبر قصص المجموعة، والتى تصنفها بين الواقعية الشعبية والواقعية السحرية، بجانب توالد القصص والحكايات داخل كل قصة أكثر من قصة... كما داخل كل منا أكثر من شخصية وأكثر من حياة بين الداخل والخارج بين المتخيل والواقع... بين الفكرة والمعنى والرمز، لا شخصية مسطحة أو أحادية، لا لونًا واحدًا ولا حتى الأبيض فى ساق شجرة السرح... هناك الألوان المتداخلة فى اللوحات التى يرسمها أبطال قصصه والأغنيات التى يستمعون إليها، والضوء والشمس والظلال وتعاقب الليل والنهار، ولا نعلم عن ذواتنا إلا سطحها، ترابها الذى يعفر أقدامنا، بينما تمور الحياة فى الداخل حيث تنصهر الصخور والمعادن وتذوب الحكايات فى حساء سميك من ضحكات ودموع، ص٩٤ «دائرة الجير الحى»... فأنت فى الشجر المغنى مع قصة الصول عمر وعمله بسانت كاترين، وغرامه بالشجر المغنى واستجلابه بعد خروجه للمعاش، وشك زوجته فيه إلخ «٢٦»، ثم قصة ابنه سالم البطل الهيرو، وقصته «يوحى دائمًا بالوداع» قصة زين مع المجداف وقصة حميد وحميدة.. وقصة حنان وزوجها الغائب.. إلخ.. توالد القصص من سرديات التداعى... والتى قد تعمق النص وتفتح آفاقًا للدلالات والرموز... وتميز سرديات الشخصيات التاريخ والدين والأحداث.. ومع ذلك، قد تنزلق التفاصيل.. وتوقعنا فى السرد الروائى.. «والذى اعتبره ميلان كونديرا فى القصة القصيرة.. تلخيصًا أو بمعنى أدق صورة مصغرة للرواية...».

تتميز التفاصيل هنا بمشهدية تصل حد الواقعية التسجيلية والبانورامية.. وهو ما يحيلنا لاهتمام بعض الشخصيات بالأفلام وتأثيرها كما الأحلام التى فى «كما الشارع فى حلم».

«إشـــــــــارات»

١ـ يهتم الكاتب فى أغلب القصص بالمرأة، هى حاضرة حتى فى الميثولوجيا التى يحلم بها البطل الذى لم يتزوج... وظلت فى أعماقه حتى كبر، وهى موجودة بأسماء القصص الثلاث: الأبلة عفاف وجملا وياسمينا.. لدرجة أننى أصنفه أدبًا نسويًا. وكما هو معروف ليس من الضرورة أن يكون الكاتب امرأة، ولأنه يتبنى قضاياها ومظلوميتها ليس من الرجل فقط بل والأنكى مظلومية المرأة من المرأة، كما فى صراع الأبلة عفاف ونوال، وكما فى دائرة الجير الحى ولعنة العنوسة ومحاولة إيجاد سبب لها غير تلك الرواية التى قرأتها الابنة الكبرى ليلى، وفيها أحد أبطالها طالته لعنة الساحرات الشريرات أحطنه بدائرة من الجير الحى، وأنها تعتقد أنها أصيبت بها وجلبتها لأخواتها وأخيها الذى أصر على عدم الزواج إلا بعد زواج أخته الكبرى، وحيث يعصف اللا منطق بكل أبطال القصة ويدعوها لمحاولة الانتحار.

٢- لماذا حقًا لا يتزوجن.. لماذا لا نرى الذكور الزهرات الجميلات.. ومن دائرة الجير الحى لجملا، تلك الفتاة العرباوية التى أجرم أهلها بتزويجها صغيرة لتعانى القهر والضرب والنزف فى صور بشعة لزوج سادى يستنزفها كما استنزف زوجته الأولى وقتلها، لكنها البدوية التى ضربته بلوح خشبى وأسلمته للغيبوبة، التى للأسف صحا منها وسرق ابنته وقتلها انتقامًا منها، حتى فكرت وخططت لقتله لكنه كان قد مات.

٣- نحن فى النهاية مع نص الفكرة مغلفًا فى كوكتيل سردى يجمع الشعبى الحكائى بالميتاسردى السير ذاتى بالواقعى السحرى بالمنولوج المتأرجح بين السارد العليم والسارد الذاتى فى موتيفة تجمع المشهدىبالتشكيلى بالفوتغرافى، بين التكثيف والتفصيل والغموض والإبانة والعمق والبساطة والإيجاع والإمتاع فى لغة تشف حد الشعر وتعلو بالحكمة والفلسفة دون تورط دعوى أو خطابى، حتى لو أجازه كونديرا ولعب به أمبرتو إيكو، لكنه يظل داخل البنية السردية يزلزل القارئ آخذًا بتلابيبه رغم اتساع وتعميق المعنى والرؤية والدلالة.